عند تشخيص الإنسان بداء السكري، سواء كان في شمال إفريقيا أو في الصين أو في القارة القطبية الشمالية، فإنَّه يكون النوع نفسه من المرض هنا أو هناك؛ لكن أعراض الشيزوفرينيا أو انفصام الشخصية يتَّخذ أشكالاً شديدة الاختلاف، اعتماداً على مكانك الجغرافي!
ومرض الشيزوفرينيا هو مرضٌ ذو أعراض عامة تظهر في هيئة تشكيلةٍ من الأعراض، ولا عجب أنَّ الصفات المميّزة للمرض تختلف بين بقاع العالم.
أعراض الشيزوفرينيا تختلف من بلد إلى آخر
على سبيل المثال، يميل الغربيون للإصابة بأعراضٍ اكتئابية أكثر في مرضهم. وهُم كذلك معرَّضون أكثر للشكِّ بأنَّ أفكاراً دخيلة قد وُضعَت في أذهانهم (أفكار مُدخَلة)، وأخرى انتُزعِت بغير تحكُّمٍ منهم (أفكار مُستخرجة)، وهي ضلالاتٌ تتركَّز حول فكرة تراود المريض بأنَّه فاقدٌ للتحكُّم في أفكاره الخاصة.
وبالنسبة لضلالات الأفكار المُدخلة، فهي توعز للمريض بأنَّ شخصاً أو شيئاً ما قد وضع أفكاراً في ذهنه.
والأفكار المُستخرَجة هي الاعتقاد بالعكس، أي أنَّ كياناً آخر قد نزع أفكاراً من عقلك.
وفي المقابل، يتعرَّض الأشخاص المُصابون بالمرض من سكان الدول النامية لهلاوس سمعية وبصرية أكثر من غيرهم.
والأبعد من ذلك، فإنَّ الهلاوس السمعية التي تراود غير الغربيين تميل لأن تكون "ألطف" بعض الشيء، خاصةً عند مقارنتها بالهلاوس السمعية في فئة الأمريكيين.
الثقافة تؤثر على عوارض الانفصام
وعرضت تانيا لورمان، الأستاذة بجامعة ستانفورد الأمريكية، هذا التبايُن، في سياق بحثٍ ركَّز على 60 بالغاً مصابين بالشيزوفرينيا من دول الولايات المتحدة، وغانا، والهند.
ومع أنَّ العديد من المشاركين بالدراسة ذكروا أنَّهم يسمعون أصواتاً خيّرة وأخرى شريرة، إلَّا أنَّ الأمريكيين وحدهم قالوا إنَّهم تعرَّضوا لتجاربٍ سيئة مع هلاوسهم السمعية.
ويسمع الغانيون والهنود عادةً أصواتاً وُصِفت بأنَّها لعوبة أو مسلّية، في حين وصف مشاركٌ أمريكي الأصواتَ التي يسمعها بأنَّها أشبه "بتعذيب الناس، وانتزاع أعينهم بشوكة، أو قطع رأس أحدهم وشرب دمه، وهي أمورٌ مروعة حقاً".
وفي تصريح تانيا لموقع Stanford News، قالت: "يميل علماء النفس لغضِّ النظر عن التبايُن الثقافي. يجب على بعضنا أن يتطرَّقوا للأمر، لأنَّه عاملٌ مهم، ويُمكن أن يُعلمنا دروساً عن الأمراض العقلية".
وخمَّنت تانيا وزملاؤها بأنَّ التفاوت في الأعراض منسوبٌ لقيمٍ مجتمعية مميَّزة من مكانٍ لآخر.
ولأنَّ الأمريكيين يميلون لإجلال الاستقلالية والفردية، أصبح سماع الأصوات يُمثِّل تعدياً في حدِّ ذاته، وعرضاً عنيفاً في طبيعته.
لكنَّ بعض الثقافات الأخرى التي تقدِّر الجماعية، يدعم هذا الافتراض ملاحظةً من واقع الدراسة بأنَّ المشاركين الغانيّين والهنود عادةً ما كانوا يسمعون أصوات أقارب أو أصدقاء يتحدَّثون إليهم، فيما سمع الأمريكيون عامةً أصوات غرباء.
ضلالات دينية في المجتمعات الأوروبية المتدينة
بالطبع ليست الهلاوس هي العرض الوحيد لمرض الشيزوفرينيا؛ إذ تُمثِّل الضلالات أو الأفكار المتوهَّمة عنصراً مهماً في المرض، وتتفاوت طبيعتها بين ثقافةٍ وأخرى أيضاً.
إذ وجدت دراسةٌ أجريَت على 324 مصاباً بالشيزوفرينيا في اليابان، والنمسا، وألمانيا، أنَّ المرضى النمساويين والألمان تراودهم ضلالاتٌ تتركَّز أكثر حول فكرة التعرُّض للتسمُّم، والمرض، والموت، وحول الموضوعات الدينية المتعلقة بالذنب والخطيئة على نحوٍ خاص.
ونَسَبَ الباحثون حقيقة أنَّ الضلالات الدينية كانت الأكثر شيوعاً بين الألمان والنمساويين، إلى انتشار الديانة المسيحية في البلدين.
وفي اليابان يخافون تشوه سمعتهم
وفي المقابل، لا تحمل التقاليد البوذية اليابانية تصوُّر الخطيئة الأولى ذاك بالشكل المكثَّف المتوارد في المسيحية الغربية، ويميل الأفراد اليابانيون بمعدلٍ أكبر لأنّ يكونوا لا دينيين.
وفي المقابل، كان الأرجح في حالة المرضى اليابانيين إصاباتهم بضلالاتٍ ذات صلة بالتعرُّض للاضطهاد من قبل الآخرين، كأن تُشوَّه سمعتهم من قبل زملائهم في العمل.
ويرجع هذا، حسب اعتقاد الباحثين، لشيوع ثقافة إهانة الآخرين في اليابان بصورةٍ أكبر.
أما في باكستان فالاضطهاد صادر من العائلة
وتماشياً مع نتائج الدراسة المذكورة، وجدت دراسةٌ أخرى أنَّ النمساويين يصابون بضلالاتٍ دينية بنسبةٍ تفوق المرضى الباكستانيين بدرجةٍ ملحوظة.
إذ كانت ضلالات التعرُّض للاضطهاد على درجةٍ واحدة من الشيوع بين المجموعتين، لكنَّ الباكستانيين كانوا أميل للاعتقاد أنَّ مصدر الاضطهاد آتٍ من جانب عائلاتهم، وهذا يرجع في الأغلب لقوَّة الروابط الأسرية بين الباكستانيين مقارنةً بالنمساويين.
إن دلَّ ذلك على شيء، فإنَّ هذه الدراسات تسلِّط الضوء على مدى قوَّة العامل الثقافي في هُوياتنا.
إنَّ مرضاً بمدى تعمُّق وتأثير الشيزوفرينيا لا يسكن الفراغ، بل إنَّه يؤثر على عقولنا، وعقولنا تلك هي نتاج السياق الثقافي الأعم الذي نعيشه.