شهادتي في مدينة بحر دار الإثيوبية تُعد مجروحةً لشدة تعلقي بها وبسائر مدن إثيوبيا الجارة الشقيقة لبلدي السودان، فعاصمة إقليم الأمهرا هي المدينة التي استأثرت بزياراتي المنتظمة لها كل عام في فصول الصيف الحار، ويمكن وصف بحر دار بأنها منتجع كبير؛ إذ تحيط بها بحيرة تانا من النواحي الشمالية والشرقية، كما تحرسها الهضاب المرتفعة من النواحي الجنوبية والغربية، ومن كل الجوانب تحفها بساتين المانجو وأشجار النخيل.
تصادف وقوع المحاولة الانقلابية وما تلاها من أحداث محزنة مع رحلتي المجدولة مسبقاً للمدينة، لم أتردد مطلقاً في الذهاب إليها تدفعني الرغبة الصحفية الجامحة في خوض التجربة رغم المخاطر التي قد تحدث وتحذيرات الأهل والأصدقاء، بالفعل وصلت في اليوم الثالث مباشرة من الانقلاب الفاشل عن طريق طائرة الخطوط الجوية الإثيوبية التي هبطت بنا في تمام الواحدة ظهراً، استقللت سيارة الأجرة متجهاً إلى فندق النيل الأزرق وهو من الفنادق العريقة المعروفة في بحر دار ويتميز بأسعاره الهادئة وبقربه من المنطقة التجارية وشواطئ بحيرة تانا.
عند اقترابنا من مركز المدينة واجهتنا مشكلة إغلاق الطرق الرئيسية فقد كانت تجري في تلك اللحظات مراسم تشييع جثامين الراحل د. مكنن ومستشاره والمدعي العام، فانتظرنا لنحو ساعة من الزمان قامت بعدها السلطات الأمنية بفتح طريق سانت جورج أمام الكاتدرائية والطريق الآخر المحاذي لشواطئ البحيرة.
الحزن يلف المدينة من أقصاها إلى أقصاها، صمت مخيف غير مألوف تشهده بحر دار فلا تسمع إلا أبواق السيارات بشكل متقطع بين الفينة والأخرى، المحال التجارية أغلبها مغلق والقلة التي فتحت أبوابها لا ترى فيها إلا نزراً يسيراً من حركة البيع والشراء، أما الموسيقى التي تشتهر بها بحر دار فقد كانت غائبة تماماً والأندية الليلية كانت مغلقة الأبواب فأكثر من 97% من سكان المدينة هم من قومية الأمهرا جمع بينهم الحزن الشديد والقلق على مصير عاصمتهم الجميلة الساحرة.
رويداً رويداً، بدأت الحياة تدب في مفاصل المدينة اعتباراً من اليوم الرابع، فأخذت الموسيقى تنبعث من المقاهي والمنتجعات المنتشرة على شاطئ بحيرة تانا، وفي ساعات المساء بدأت الأندية والمراكز الثقافية عملها بصورة جزئية، وحتى نكون منصفين نقول إن إغلاق أي محل تجاري لمدة 24 ساعة فأكثر يؤثر بشكل كبير على صاحبه، فالأخير مُطالبٌ بسداد العديد من الالتزامات كالإيجارات الشهرية ورواتب العمال والموظفين إلى جانب الوفاء بالالتزامات المالية الأخرى.
وعلى الرغم من العودة التدريجية لطبيعة الحياة في بحر دار في مثل هذا التوقيت من الشهر الماضي، فإنه يمكن ملاحظة الألم والشرود يرتسمان على وجوه معظم الناس الذين ينخرطون في نقاشات متعمقة حول ما حدث أو يشاهدون القناة المحلية للإقليم التي كانت تبث صوراً وفيديوهات لنشاطات الحاكم المغدور، وأذكر أنني تحدثت إلى إحدى العاملات بالفندق في تلك الأمسية عن توقعاتها المستقبلية فلم تخفِ قلقها من حدوث اضطرابات كبيرة باعتبار أن المسألة ليست بهذه السهولة التي تتحدث بها السلطات، ولكن للأمانة، بخلاف الانتشار الأمني الكثيف أمام المباني الحكومية ووسط الأسواق وشواطئ البحيرة والشوارع الرئيسية، لم يكن هناك شيء ملحوظ يدل على حدوث أمر غير طبيعي، إذ كنت أتجول في شوارعها يومياً من بعد صلاة العشاء إلى الساعة 11 مساء، وأحياناً إلى ما بعد منتصف الليل.
إذا عُدنا إلى تطورات الانقلاب الفاشل في عاصمة أمهرا، نجد أن الحكومة الفيدرالية اتهمت رئيس جهاز الأمن في الإقليم الجنرال أسامنيو صيغي بتدبير المحاولة الانقلابية، وقد قُتل بعد 30 ساعة من بداية الأحداث، إثر عملية مطاردة للقبض عليه، فيما تزامنت أحداث إقليم أمهرا مع حادثة أخرى مفجعة بالعاصمة أديس أبابا تمثلت في عملية اغتيال رئيس أركان الجيش الإثيوبي الجنرال سعري مكنن ولواء متقاعد قيل إنه مستشار لمكنن وتصادف وجوده في مقر الأخير- على أيدي أحد الحراس الشخصيين له. ونلاحظ أن السلطات الفيدرالية ربطت بين الهجومين، حيث يعتقد أن سعري مكنن لعب دوراً كبيراً إفشال محاولة الانقلاب بإقليم الأمهرا.
شخصياً، لا أخفي إعجابي كغيري من المراقبين بالسياسات الإصلاحية التي تبناها رئيس الوزراء الإثيوبي وباللغة الإيجابية التي ظل يخاطب بها شعبه منذ توليه الحكم، فقد رفع الحظر عن الأحزاب السياسية، كما أفرج عن المعتقلين السياسيين، وحقق صلحاً تاريخياً مع الجارة اللدود إريتريا بعد سنواتٍ مريرة من الصراع، إلى جانب تبنيه خط الإصلاحات الاقتصادية وشَرَع في خصخصة قطاعات كانت محتكرة للحكومة كالاتصالات والخدمات المالية.
إلا أننا نرى أن بعض الخطوات التي اتخذها كانت متعجلة نوعاً ما، وكان من الأفضل أن تتم بجدولة وعلى مراحل متدرجة، على سبيل المثال المتهم الأول بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة في إقليم أمهرا الجنرال أسامنيو صيغي كان قد أدانته المحكمة الفيدرالية عام 2009 بالتخطيط لانقلاب واغتيال مسؤولين حكوميين، والانتماء إلى حركة "قنبوت سبات"، وهي مجموعة معارضة مسلحة كانت مصنفة ضمن قوائم الإرهاب، وحُكم عليه حينها بالسجن المؤبد، لم يخرج منه إلا في العام الماضي حينما أعلن آبي أحمد عفواً عاماً عن كافة السجناء السياسيين.
وهنا تظهر أبرز الملاحظات التي نوجهها لرئيس الوزراء الإثيوبي بأنه من الأفضل وضع موجهات عامة لشغل الوظائف العليا، خاصة المتعلقة بالأمن حتى لحكومات الأقاليم التي تتمتع بصلاحيات واسعة أشبه بالحكم الذاتي، والحذر ممن كانوا خصوماً للائتلاف الحاكم.
ثانياً.. نتمنى أن يجد الملف الأمني الداخلي اهتماماً ورعايةً من آبي أحمد بمثل ما نجح في إصلاح علاقات بلاده الخارجية خاصة مع الجيران، والوقوف على مسافة واحدة من كل أطراف الصراع الإقليمي والدولي كما في الأزمة الخليجية التي أدار موقف بلاده منها بحنكة رافضاً الزج بإثيوبيا في هذا الصراع المستفحل منذ أكثر من عامين. ولكن الصراعات الداخلية أيضاً تتفاقم بوتيرة مخيفة.
ثالثاً.. العمل على إعادة الثقة في ائتلاف الجبهة الثورية الحاكم، وإصلاح ذات البين بين مكوناته الأربعة خاصة بين جبهة تحرير شعب تيجراي (أحد أكبر الأحزاب المكونة للائتلاف الحاكم) وحزب أمهرا الديمقراطي (شريكها بالائتلاف) اللذين تبادلا الاتهامات بصورة علنية لا تليق بتاريخهما العريق في الشراكة. فالأفضل لآبي أحمد أن يظل الائتلاف متوحداً حتى يستطيع مواجهة الانقلابات ومحاولات الانقلاب المستمرة على الإصلاحات التي أقرها الحزب الحاكم خصوصاً وأنه لم يتبقَّ سوى أقل من عام على الانتخابات العامة.
أخيراً.. بالعودة إلى أحداث بحر دار، فإن قيام مجلس إقليم أمهرا بانتخاب تمسقن طورونه المستشار الأمني السابق لرئيس الوزراء آبي أحمد حاكماً تعد خطوة موفقة نظراً للخلفية الأمنية التي يتمتع بها الرجل الذي عمل من قبل مديراً لقسم المعلومات في وزارة الدفاع ومديراً بوكالة أمن المعلومات، إضافة إلى قربه من رئيس الوزراء آبي أحمد، إذ عمل معه خلال الأشهر الأربعة الماضية مستشاراً للأمن.
ولذلك نتفاءل كثيراً بأنه سيعيد الطمأنينة إلى كافة أنحاء إقليم الأمهرا من عاصمته بحر دار إلى قوندر وديسي وديبري بيرهان ولاليبيلا وغيرها، كما نتأمل في أن يجد العون اللازم من المواطنين والحكومة الفيدرالية في أديس أبابا، لمساعدته في مواجهة التحديات الجسام التي تنتظره.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.