بعد أن أصبحت صفقة منظومة الدفاع الروسية S-400 لأنقرة أمراً واقعاً وبدأت عملية التسليم بالفعل، أصبح السؤال الآن عما يعنيه ذلك بالنسبة لحلف شمال الأطلسي من الناحية العسكرية والاستراتيجية، خصوصاً إذا انتهى الأمر بخروج تركيا من الحلف.
صحيفة واشنطن بوست الأمريكية تناولت القصة وقدمت سيناريوهات متعددة لا يبدو أي منها جيداً بالنسبة للحلف، ففي الأسبوع الماضي، أعلنت الولايات المتحدة استبعاد تركيا من برنامج طائرات F-35 المُقاتلة،، وتُعَدُّ هذه الخطوة مهمةً نظراً لأنَّ تركيا كانت تُنتج بعض الأجزاء لتلك المقاتلات، وكان من المفترض بها أن تتسلم 22 طائرة على الأقل من المقاتلات الأمريكية بحلول عام 2022.
وبدأ التفاوض مع روسيا على صفقة الأسلحة، التي تُقدَّر قيمتها بـ2.5 مليار دولار، منذ عام 2017، وقال مُتحدِّثٌ باسم البيت الأبيض إنَّ "تسلم منظومة S-400 يُقوّض الالتزامات التي تعهَّد بها الحلفاء في الناتو لبعضهم البعض، والتي تنُصُّ على الابتعاد عن الأنظمة الروسية".
ويَنُمُّ الخلاف حول مبيعات الأسلحة عن نزاعٍ سياسي أعمق بين تركيا -عضو الناتو القديم- وقطاعٍ عريض من أعضاء الحلف، وتوجد ثلاث نقاطٍ رئيسية حول العلاقات الجارية بين الولايات المتحدة وتركيا وحلف الناتو.
المنظومة الروسية ليست متوافقةً مع ترسانة الناتو، ويُمكن استغلالها لجمع معلومات حساسة
قال مسؤولو الدفاع في الولايات المتحدة والناتو إنَّ منظومة S-400 ليست متوافقةً مع أنظمة الناتو في المنطقة، لكنهم أعربوا أيضاً عن مخاوفهم بشأن الخرق المُحتمل للبيانات والأمن، مما قد يسمح للجيش الروسي بالوصول إلى أسرار عمليات الناتو. وقال البيت الأبيض في بيان الأسبوع الماضي: "لا يُمكن لطائرات F-35 أن تكون موجودة (في المكان نفسه) مع منصة جمع معلوماتٍ استخباراتية روسية، إذ يُمكن استغلالها للتعرُّف على قدرات المُقاتلة المُتقدمة".
ويرى حلف الناتو أنَّ تركيا تستطيع الحصول إما على منظومة S-400 أو مقاتلات F-35، وليس كلتيهما. ويقول مسؤولون ألمان إنَّ الصفقة تُثير "أسئلةً صعبة" للتحالف. ووصف مارك إسبر، المرشح لمنصب وزير الدفاع الأمريكي، قرار تركيا المُتعلِّق بمنظومة S-400 بأنَّه "قرارٌ خاطئ". في حين تساءلت إسرائيل، التي هي ليست عضواً في حلف الناتو، حول ما إذا كان لا يزال بالإمكان اعتبار تركيا عضواً "حقيقياً" في الحلف.
وتعني الخطوة الأمريكية أنَّ الطيارين والفنيين الأتراك الذين يتدرَّبون على طائرات F-35 داخل الولايات المتحدة، سوف يُرسلون إلى وطنهم بحلول نهاية الشهر الجاري. وفي حال حصلت تركيا على طائرات F-35 مُستقبلاً، فسوف يتخلَّف جيشها عن نظرائه من حلفاء الناتو في ما يتعلَّق بالتدريب والاستعداد. وسيُؤثِّر ذلك سلباً على قدرة تركيا على تنفيذ عملياتٍ مُشتركة مع الناتو.
شراء S-400 قد يُنذِر بانفصال تركيا عن حلف الناتو
ليست هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها تركيا عملية شراء أسلحة لتُؤكِّد على استقلالها عن الناتو. وفي عام 2013، وقَّعت تركيا اتفاقاً مبدئياً مع الصين من أجل الحصول على منظومة الدفاع الصاروخي FT-2000، التي لم يسبق تصديرها من قبل أو اختبار قدراتها على نطاقٍ واسع. وعلَّقت تركيا الصفقة عام 2015، لكن أحد المسؤولين الأتراك حذَّر حلفاء الناتو قائلاً: "صفقات شرائنا لا تخلو من المداولات بشأن السياسة الخارجية". وفي هذه الحالة، كانت تركيا تترقب طريقة تعامل الولايات المتحدة وفرنسا مع الأحداث المحيطة بمرور 100 عام على الإبادة الجماعية للأرمن، والتي لا تعترف بها تركيا.
انضمت تركيا إلى الناتو عام 1952، جزئياً بسبب المخاوف الأمنية المشتركة بشأن الاتحاد السوفيتي. وفي بيانٍ من الحزبين الأسبوع المنقضي، قالت قيادات لجنتي العلاقات الخارجية والخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي: "بقبول استلام S-400.. (الرئيس رجب طيب أردوغان) اختار شراكةً محفوفةً بالمخاطر مع بوتين، على حساب أمن تركيا، ورخائها الاقتصادي، وسلامة حلفاء الناتو"، ومن وجهة نظر السيناتورات الأمريكيين، فإنَّ الصفقة تُمثِّل دليلاً على أن أردوغان "لا يزال عازماً على تعميق العلاقات مع فلاديمير بوتين". وفي وقتٍ مُبكِّرٍ من العام الجاري، قال نائب الرئيس مايك بينس إنَّ الولايات المتحدة "لن تقف مكتوفة الأيدي أثناء شراء حلفاء الناتو للأسلحة من خصومنا"، مما يُحتمل أن يُؤسِّس لوضعية تُضطَّر خلالها تركيا للاختيار بين عضويتها في حلف الناتو وبين أسلحتها مع روسيا.
لم يترك أي عضوٍ من الناتو الحلف منذ تأسيسه عام 1949، فضلاً عن انضمام عددٍ من الدول إلى الحلف خلال العقود الأخيرة. فماذا يعني شراء تركيا منظومة S-400، بالنسبة لأعضاء الناتو؟ يقول أحد الباحثين: "يُمثِّل ذلك إعلاناً سياسياً بأنَّ الولايات المتحدة لا تتمتَّع بالهيمنة والسيطرة على أعضاء الناتو، وخاصةً تركيا".
استبعاد تركيا من برنامج طائرات F-35 قد يدفعها للتقارب أكثر مع روسيا
استقبلت تركيا برنامج F-35 بأبهةٍ واحتفال في يونيو/حزيران عام 2018، إذ سلَّط حفل الإطلاق الضوء على روابط تركيا مع حلفاء الناتو الذين ساعدوا في إنتاج الطائرة. وتُشير الأنباء، التي تقول إنَّ تركيا لم تَعُد جزءاً من برنامج F-35، إلى أنَّ الجيش التركي سيُضطر للبحث عن طائرةٍ شبح بديلة. وعرضت روسيا على تركيا بالفعل شراء طائرات Su-35 المقاتلة، وربما تكون تركيا هي أول سوق تصديرٍ للمقاتلة الشبح الروسية المُتقدمة Su-57 رغم مشكلاتها.
وحذَّر وزير الخارجية التركي من أنَّ استبعاد تركيا من برنامج F-35 قد "يُسبِّب صدعاً لا يُمكن رأبه في العلاقات الاستراتيجية" مع الناتو. وفي حال تسلَّمت تركيا المقاتلات المتطورة من روسيا، فمن الصعب تخيُّل إصلاح العلاقات بين تركيا والناتو، خاصةً في حال استمرار الاستعداد الروسي لعرض المزيد من الأسلحة.
ويُمثِّل شراء S-400 دليلاً واضحاً على أنَّ تركيا لديها بدائل لأسلحة الولايات المتحدة والناتو، وربما بدائل للولايات المتحدة والناتو ككل. ويسعى أردوغان للمشاركة في إنتاج S-400 أيضاً، وهي خطوةٌ من شأنها أن تزيد تقارب المصالح التركية والروسية.
خسارة الناتو لحليف مهم عسكرياً واستراتيجياً
لكن إعادة تنظيم التحالفات هذه ستترك حلف الناتو مُعرَّضاً لخطر فقدان حليفٍ مهمٍ من الناحيتين الاستراتيجية والعسكرية. إذ إنَّ قوات الناتو تنشط في موقعين داخل تركيا، لهما علاقةٌ بالصراع المستمر في سوريا، وهو الصراع الذي يحتوي على مصالح متضاربة بين الناتو وروسيا. ويمتلك كلٌ من حلف الناتو وروسيا مصالح استراتيجية داخل تركيا، فضلاً عن أنَّ القواعد الجوية في تركيا مثَّلت نقطة انطلاقٍ مهمة لعمليات الناتو والولايات المتحدة في العراق وأفغانستان.
وتُخاطر العلاقة الأوثق بين تركيا وروسيا بتقويض قُدرة الناتو والولايات المتحدة على الوصول إلى تلك القواعد، فضلاً عن الطرق البرية والبحرية. وعلى خلفية ضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم؛ فإنَّ الناتو لديه أسباب ليقلق بشأن خسارة تركيا لصالح النفوذ الروسي.