تكشف النظرة العامة على التاريخ المالي للبنان أنَّ هذا البلد متأثر بالأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة، واليوم يبدو لبنان على شفا أزمة اقتصادية خطيرة، فهل تحدث كارثة مالية بسبب تأثير النزاع الأمريكي الإيراني على الوضع المالي للبنان، أم بسبب حسابات زعماء لبنان الاقتصادية الخاطئة.
فبينما ينتظر لبنان 11 مليار دولار من القروض الميسرة، ومنحاً حصل عليها من المانحين الدوليين في مؤتمر باريس خلال شهر أبريل/نيسان 2018، لدعم النمو الاقتصادي الآخذ في التراجع، يلوح في الأفق ظل مواجهة كبرى بين الولايات المتحدة وإيران، يمكن أن يكون لها تأثير هائل على هذا البلد العربي الصغير، حسبما ورد في تقرير لموقع Al-Monitor الأمريكي.
لماذا يعد لبنان أكثر بلاد العرب تأثراً بالأزمة الإيرانية؟
تصاعدت التوترات بين الولايات المتحدة وإيران على نحوٍ تدريجي لشهور.
إذ انسحبت واشنطن من الاتفاقية النووية عام 2018، وشنَّت حملة ضغط شاملة ضد طهران، التي بدأت في الهجوم. وفي شهر يونيو/حزيران، بدأت المواجهة في التصاعد حين أسقطت إيران طائرة عسكرية أمريكية بدون طيار، وألغى الرئيس دونالد ترامب ضربةً انتقامية ضد إيران.
وأثَّر هذا التصعيد ضد طهران على لبنان، أي على حزب الله. إذ أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية ثلاثةً من أعضاء حزب الله على قوائم عقوباتها السوداء، في التاسع من شهر يوليو/تموز، ومنهم رئيس الكتلة البرلمانية للحزب محمد رعد، والعضو البرلماني عن بيروت أمين شري، والمسؤول الأمني الكبير وفيق صفا.
وقالت واشنطن إنَّ حزب الله يوفر الدعم لمنظمات إرهابية، لذا صنَّفت الولايات المتحدة حزب الله منظمة إرهابية.
ويُشير هذا إلى أنَّه من المرجح أن يُصبح لبنان بمثابة نقطة صراع من نوعٍ ما بين البلدين الغريمين، في ظل قوة حزب الله المهيمنة أمنياً والنافذة سياسياً، في مقابل ضعف حلفاء دول الخليج والغرب التقليديين مثل تيار المستقبل.
والسؤال المهم يدور حول كيفية تأثير النزاع الأمريكي الإيراني على الوضع المالي للبنان.
قصة الانهيار السابق لليرة
وتعد الليرة اللبنانية أوضح مؤشرٍ على الوضع المالي للبلاد، وخاصةً إبان الظروف الاقتصادية والأمنية المُتقلِّبة. إذ انخفضت الليرة اللبنانية بدءاً من الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وحتى نهاية عام 1987، من 5.49 ليرة مقابل الدولار إلى 455 ليرة مقابل الدولار. واليوم يساوي الدولار الأمريكي الواحد 1,512 ليرة.
وفي عام 1992، انحدر الوضع الاقتصادي وسقطت حكومة رئيس الوزراء عمر كرامي بعد خروج المظاهرات احتجاجاً على الظروف الاقتصادية السيئة، إذ وصلت الليرة اللبنانية إلى 2,825 مقابل الدولار. وبنهاية عام 1992، تحسَّنت الليرة وصولاً إلى 1,800 ليرة مقابل الدولار، وفي عام 1993 عُيِّن رياض سلامة محافظاً للبنك المركزي اللبناني (مصرف لبنان) وتبنَّى سياسات ساعدت على استقرار الليرة.
وحافظت الليرة لسنوات طويلة على معدل سعر شبه ثابت أمام الدولار.
والآن تمتلك البلاد أكبر دين في العالم بعد اليابان
ومع ذلك، فقد اكتسب لبنان على مر السنين ديناً عاماً متزايداً. فبحسب بحثٍ نشره رائد شرف الدين، وهو النائب الأول لحاكم مصرف لبنان المركزي، في شهر أبريل/نيسان 2018، فقد وصل الدين إلى 80 مليار دولار، أو 160% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومع أنَّ شرف الدين قال إنَّ التحدي الذي تواجهه البلاد يكمن في الدين، فقد قال أيضاً إنَّ "السياسة النقدية القوية والاستقرار المالي هما نقطتا قوة لبنان".
وفي شهر فبراير/شباط، أورد مقالٌ نشرته وكالة Reuters أنَّ عجز الحساب الجاري الكبير في البلاد يغطيه جزئياً احتياطيات البنك المركزي، البالغة 40 مليار دولار، ومعرفة أنَّ لبنان لديه حيازات ذهبية كبيرة نسبياً تُقدَّر بنحو 12 مليار دولار.
وقال الخبير الاقتصادي غازي وزني لموقع Al-Monitor: "الوضع المالي حساس بسبب انخفاض التدفقات المالية وسحب بعض الودائع من لبنان، ناهيك عن انخفاض الاحتياطيات الأجنبية بنحو ستة مليارات دولار منذ بداية عام 2019".
وفي شهر يناير/كانون الثاني، ذكرت وكالة Bloomberg أنَّه "من المتوقع ارتفاع دين الحكومة اللبنانية إلى حوالي 180% (من الناتج المحلي الإجمالي) بحلول عام 2023، لتكون بذلك في المرتبة الثانية بعد اليابان، وذلك وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي.
ومخاطر الدين اللبناني هي الأسوأ.. وهذه الأزمة بدأت بسبب حرب 2006
وارتفعت مخاطر الدين اللبناني، التي تقاس بمبادلات مخاطر الائتمان، لتصبح الأعلى في العالم على مدار العام الأخير -باستثناء زامبيا والأرجنتين- وذلك وفقاً للبيانات التي جمعتها Bloomberg".
وفي أعقاب حرب لبنان عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، قالت وزارة المالية اللبنانية إنَّ الحرب أجهضت جميع الجهود لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والمالي، إذ كان متوقعاً للنمو الاقتصادي في تلك السنة أن يبلغ نسبة 5%، لكن بدلاً من ذلك عانت البلاد من خسائر تقدر بمليارات الدولارات.
وقال سلامة في مؤتمر يوروموني (Euromoney)، الذي عُقِد في بيروت في الـ25 من شهر يونيو/حزيران، إنَّ معدل النمو في البلاد وقف عند نسبة صفر في المئة، لذلك العام، حسبما ذكرت Reuters.
كيف يمكن أن يتحول لبنان إلى ساحة للصراع الأمريكي الإيراني؟
وفي ضوء ما تقدَّم ذكره، كيف يُمكن للمواجهة الإيرانية الأمريكية، والمجابهة الكاملة المحتملة، أن تُؤثِّر على لبنان؟
يرى سامي نادر، مدير مركز المشرق للشؤون الاستراتيجية، أنَّ التوتر والصراع المتزايدين بين الدول العربية وإيران، وبين الولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية وإيران من الناحية الأخرى، سوف يُؤثِّر على لبنان نظراً لأنَّ حزب الله ممثَّلٌ في الحكومة اللبنانية ولديه ترسانة عسكرية.
وقال نادر لموقع Al-Monitor: "يمكن استخدام حزب الله لزيادة الضغط على إيران، في حين تستطيع طهران هي الأخرى أن تستخدم الحزب اللبناني لتخفيف الحصار المفروض عليها".
وأضاف نادر أنَّ إيران تُدرك هشاشة الوضع الاقتصادي في لبنان، ويعتقد أنَّ الوضع أسوأ اليوم مما كان عليه الحال عام 2006، من حيث السيولة وعجز ميزان المدفوعات وانخفاض معدل النمو.
وقال جاسم أجاكا، أستاذ الاقتصاد بالجامعة اللبنانية، لموقع Al-Monitor، إنَّ ضغط ترامب على إيران قد يزيد الضغط على حزب الله.
ورفض لبنان لصفقة القرن قد يزيد الضغط الأمريكي.. والأمر قد يصل للحصار أو ما هو أسوأ
وأضاف أجاكا أنَّ رفض بيروت لخطة السلام الإسرائيلية الفلسطينية التي وضعها ترامب، والتي كثيراً ما يُشار إليها باسم "صفقة القرن"، ربما يؤثر على البلاد اقتصادياً.
وفي أعقاب اجتماع وزاري في الـ27 من شهر يونيو/حزيران، ترأَّسه رئيس الوزراء سعد الحريري، قال وزير الصناعة اللبناني وائل أبو فاعور: "إنَّ موقف الحكومة اللبنانية (من صفقة القرن) واضح. وثمة إجماعٌ في لبنان على رفضها".
وتابع أجاكا قائلاً إنَّ الكثير من السيناريوهات الكارثية يمكن أن تتمخض في حال حدوث مواجهةٍ شاملة مع إيران.
وأوضح أنَّه من الممكن وضع لبنان تحت الحصار، في حال اندلعت معركةٌ بين حزب الله وإسرائيل، في سيناريو مماثل لحرب يوليو/تموز عام 2006.
وفي هذا السياق، ربما تسعى إسرائيل إلى تدمير البنية التحتية المهمة للضغط على اللبنانيين، وهو ما قد يُؤثِّر على تحويلات المغتربين المالية التي تُساعِدُ في دعم الاقتصاد، بالإضافة إلى تقييد الواردات والصادرات وحركة رجال الأعمال اللبنانيين.
وقال وزني: "تبلغ قيمة التحويلات المالية من الخارج ما بين 7 إلى 8 مليارات دولار سنوياً".
وقال أجاكا إنَّ صفقة القرن هي الأخرى جزءٌ من الصراع الأمريكي الإيراني، إذ تسعي الولايات المتحدة إلى جعلها حقيقةً واقعة، بينما تقاتل إيران استناداً إلى التزامها بالقضية الفلسطينية، ولاعتقادها بأنَّ الولايات المتحدة وإسرائيل تحاولان فرض سلام اقتصادي والتغاضي عن البعد السياسي للصراع.
وأضاف أجاكا: "بما أنَّ لبنان قد نأى بنفسه عن الصفقة، فقد تواجه البلاد بعض التداعيات، خاصة التأخيرات في استكشاف واستخراج الغاز من البحر. وربما تسعى إسرائيل أيضاً إلى إنشاء خط سكة حديد يربط تل أبيب بالعالم العربي، وهو ما قد يؤثر سلباً على لبنان، لأنَّه سيعني أنَّ بيروت لن تعود أول مركز (ميناء) عبور إلى الدول العربية".
ولكن أمريكا حريصة على النظام المصرفي اللبناني حتى الآن وروابط بيروت مع إيران ضعيفة
ومع ذلك، فقد قال أجاكا إنَّ الولايات المتحدة ملتزمةٌ بالحفاظ على النظام المصرفي اللبناني. وقال إنَّ واشنطن إذا فرضت عقوبات على لبنان، فلن تكون عقوبات شاملة، إذ تُشكِّل البلاد جزءاً مهماً من الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط.
وقال وزني إنَّ الروابط الاقتصادية بين إيران ولبنان ضعيفة، إذ لا تتجاوز الواردات من إيران الـ60 مليون دولار، مع صادراتٍ تُقدَّر بـ20 مليون دولار سنوياً.
وأضاف وزني أنَّ رجال الأعمال اللبنانيين قد أجلوا الكثير من المشروعات الاستثمارية التي خططوا لها في إيران. وكانت هذه المشروعات قد تطورت على خلفية زيارتهم إلى طهران قبل عامين، في أعقاب توقيع الاتفاقية النووية بين الولايات المتحدة وإيران، مما مثَّل أملاً في تعزيز الروابط الاقتصادية بين بيروت وطهران.
وقال وزني أيضاً إنَّ الروابط المصرفية غير موجودة على نحو عملي بين الجانبين، فضلاً عن عدم وجود أموال إيرانية في البنوك اللبنانية. وأوضح وزني أيضاً أنَّ لبنان كان ملتزماً بتنفيذ القرارات الأمريكية منذ 15 عاماً، بما في ذلك القرارات المتعلقة بالعقوبات المفروضة على طهران، وهو الأمر الذي حال دون تطوير الروابط الاقتصادية بين طهران وبيروت.
انخفاض في كل المؤشرات.. وهذا ما سيحدث في حال وقوع حرب
وقدَّم وزني لمحةً عامة عن التحديات التي تواجه الاقتصاد اللبناني، فقال إنَّ الاستثمارات الأجنبية المباشرة انخفضت بنسبة 45% منذ عام 2010. وأردف وزني: "كانت واردات السياحة تصل إلى 10 مليارات دولار، واليوم تصل إلى ستة مليارات دولار. وبلغ نمو القطاع المصرفي 3% عام 2019، مقارنة بـ7% و8% من قبل.
وفي عام 2018، بلغ العجز في ميزان المدفوعات 4.8 مليار دولار".
وقال نسيب غبريل، كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس (Byblos)، لموقع Al-Monitor إنَّ لبنان سوف يتأثر إذا تدهور الوضع في المنطقة. وأضاف غبريل: "إن لبنان يترنح بالفعل تحت الأزمة الاقتصادية، وتتأثر التحويلات المالية للمغتربين وودائعهم هي الأخرى بأسعار النفط".
ومن شأن أي حرب أن تؤثر سلباً على قطاع السياحة في البلاد. أي زيادة في مشتقات النفط سوف يكون لها أثر سلبي على لبنان، إذ تشكل 20% من فاتورة الاستيراد العامة، مقارنةً بـ24% عام 2014.
وإذا زادت هذه الفاتورة، فسوف يسوء العجز في التجارة وميزان المدفوعات، وسوف ترتفع أسعار الوقود في المحطات. وسوف يؤدي ذلك إلى زيادة التضخم، وتقليل القوة الشرائية، وجلب المزيد من تحويلات الخزانة لشركة الكهرباء من أجل تعويض هذا التغيير. وسوف يؤدي ذلك في النهاية إلى زيادة العجز في الميزانية".
ولكن البعض يرى أن قرارات زعماء لبنان هي السبب في الأزمة
وقال غبريل إنَّ القرارات الداخلية، لا قضايا الأمن الدولي، هي المسؤولة إلى حد كبير عن هذا الوضع في لبنان.
وأوضح أنَّ حسابات الحكومة الخاطئة لعام 2017، فيما يتعلق بتكاليف زيادة الأجور والنفقات الأخرى والزيادة في الضرائب، أدَّت إلى نتائج عكسية في الأسواق المحلية وتسببت في تباطؤ الاقتصاد. وقال إنَّ الضرائب أثَّرت على الاستهلاك، والدخل، والممتلكات المنقولة، مما تسبب في أزمة سيولة.
ويقول غبريل: "في عام 2017، سجل النمو الاقتصادي ارتفاعاً بنسبة 0.6%، وارتفاعاً بنسبة 0.3% عام 2018. واتَّسع العجز المالي من 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2017 إلى 11% عام 2018″، مضيفاً أنَّ كل ما تقدم ذكره جاء نتيجةً للقرارات الداخلية لا الإقليمية، لكنَّ أي صدمة أمنية كبيرة في المنطقة سوف تزيد من تفاقم الوضع السيئ بالفعل في لبنان.
مصير اليونان دون وجود الاتحاد الأوروبي
وقبل خمس سنوات، حذَّر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط من سقوط بلاده في مصير مشابه لمصير اليونان، لافتاً إلى أن أثينا كان لديها الاتحاد الأوروبي لينقذها وهو ما لا يتوفر لدى لبنان.
وجاءت تصريحات جنبلاط في عام 2014، في معرض تحذيره من الاندفاع في مشروع تحسين الأجور، المعروف باسم سلسلة الرتب والرواتب، دون ضمانات بإصلاح الإدارة ومكافحة الفساد، ولكن الضغوط الشعبية التي قادها اليسار والنقابات، دفع زعماء البلاد إلى إقرار المشروع.
وقال جنبلاط آنذاك إن "عدم تحصين المشروع بإجراءات إصلاحية جذرية وبإيرادات مضمونة، من شأنه أن يجرَّ البلد إلى كارثة اقتصادية مفتوحة على المجهول".
وتابع: "أخشى أن نكون أمام يونان جديدة، مع فارق أن اليونان وجدت أوروبا لتنقذها، أما لبنان فلا أوروبا ولا العالم العربي المتهاوي سينقذانه"، مستنكراً تعجل الحكومة في إقرار المشروع، معرباً عن رغبته في أخذ مزيد من الوقت من أجل تحصين السلسلة وحماية الاقتصاد.
فهل تصدق نبوءة جنبلاط، أم ينجو اقتصاد لبنان من الكارثة المحدقة، مثلما نجا من أزمات متعددة على مدار العقود الثلاثة الماضية.