اعتصرت موجة حر مميتة أخرى أوروبا بقبضتها المبللة بالعرق. إذ تجاوزت درجات الحرارة القصوى 100 درجة فهرنهايت (37.8 درجة مئوية) في أجزاء من فرنسا، وألمانيا، وبولندا، وإسبانيا.
حدث الشيء ذاته في العام الماضي، عندما تسبَّبت درجة الحرارة، التي تخطَّت أي وقت سبق، في 700 حالة وفاة في السويد، وأكثر من 250 في الدنمارك، وهي بلاد لم يسبق أن احتاجت لمكيف هواء قبل هذا العصر الجديد الذي يشهد أحداثاً خطيرة بسبب التغير المناخي.
جاءت فصول الصيف الخمسة الأشد حرارة على مدار الخمسمائة عام الماضية من عمر أوروبا في الخمس عشرة سنة الأخيرة، بخلاف هذا الصيف. كانت موجة الحر في عام 2003 هي الأسوأ، إذ أدت إلى موت أكثر من 70 ألف شخص، وفي عام 2010 مات 56 ألف شخص في روسيا وحدها.
السر: تغيُّر سرعة تيارات الهواء
يقول مايكل مان من جامعة ولاية بنسلفانيا في حديقة لموقع National Geographic الأمريكي، إن جميع أحداث الحرارة الشديدة هذه مرتبطة بقلة سرعة تيار الهواء، مما يتسبب في محاصرة أنظمة الطقس في مكانها.
ساعد مان في تأليف دراسة في العام الماضي، تربط بين بطء التيار النفاث -وهو حزمة الرياح المرتفعة التي تسافر حول العالم من الغرب إلى الشرق- وما شهده الصيف الماضي من جفاف غير مسبوق وموجات حارّة، وحرائق براري، وفيضانات في مختلف بقاع نصف الكرة الشمالي.
وعلى الأغلب كان هذا هو السبب في الأمطار الموسمية الضعيفة في الهند خلال الشهر الماضي، وانتشار الفيضانات في وسط غرب الولايات المتحدة في هذا العام.
قال مان في بريد إلكتروني: "أكد زملائي في معهد بوتسدام لبحوث تأثير المناخ، أنَّ هذا هو ما نراه حالياً في أوروبا".
اجتاحت عاصفة بَرَد قوية مدينة غوادالاخارا، التي تُعَدُّ واحدةً من أكثر المدن المكسيكية اكتظاظاً بالسكان، مما أدى إلى دفن السيارات أسفل فيضٍ من الكريات الجليدية، يصل عمقه إلى مترين.
وقال إنريك ألفارو، حاكم الولاية المكسيكية: "لم أر شيئاً مماثلاً في غوادالاخارا من قبل. ثم نتساءل بعدها عن حقيقة تغيُّر المناخ. هذه ظواهر طبيعية لم نشهدها قبل الآن. الأمر مخيف"، بحسب ما ذكرته صحيفة The Guardian البريطانية، الإثنين 1 يوليو/تموز 2019.
ذوبان الجليد يُفاقم الحرارة
وقال ديم كومو، من جامعة فريجي في أمستردام، الذي يعمل أيضاً في معهد بوتسدام لبحوث تأثير المناخ، إنَّ ذوبان جليد البحر في القطب الشمالي يُفاقم من الاحترار في المناطق الشمالية من كوكبنا، وهذا يُسبِّب اضطراباً لأنماط التيار النفاث الطبيعي.
تَنتج رياحُ التيار النَّفَّاث من فرق الحرارة بين الهواء الجليدي والهواء الساخن من المناطق الاستوائية.
تقلل زيادة الاحترار المتسارعة في القطب الشمالي من فارق درجات الحرارة، وتُقلل سرعة التيار النفاث، فقد شهد القطب في الشتاء الماضي أقلّ غطاء جليدي له على الإطلاق.
ومثل النهر الذي يتحرك ببطء، يُشكِّل التيارُ النفاث تعرُّجات عميقة، التي يمكن أن تتأخر في الصيف، وقد تصل المدة لأسابيع، فتتأخر معها أنماط الطقس المختلفة، سواء كانت موجاتٍ حارةً أو أمطاراً غزيرة.
بالرغم من أن درجات الحرارة في أوروبا لا تقتربُ بأيِّ شكل من الأشكال من درجات حرارة الموجة الحارة الطويلة الحالية التي تدوم لشهر في الهند -وصلت درجة الحرارة في شبه القارة الهندية إلى 123 درجة فهرنهايت أي 51 درجة مئوية- فمعظم الأوروبيين، وخاصة في الشمال، غير معتادين على أي درجة حرارة أعلى من 85 فهرنهايت.
وما زالت مكيفات الهواء نادرة الوجود، إذ لا توجد سوى في أقل من 5% من منازل فرنسا على سبيل المثال، وأقل من 2% من منازل ألمانيا.
ليالي المدينة الحارّة
يقول يورغن كروب، من معهد بوتسدام لبحوث تأثير المناخ، إن عدد أيام الموجة الحارة في المدن الأوروبية هو تقريباً ضعف أيام الموجات الحارة في الضواحي والأماكن الريفية المحيطة، بسبب تأثير الجزيرة الحرارية الحضرية.
تمتصُّ الخرسانة والأسفلت الحرارة خلال النهار، وتُطلقها في الليل، مما يجعل المناطق الحضرية أشدَّ حرارة.
من دون تقلصات كبيرة في انبعاثات الكربون، يقول كروب إن عدد أيام الموجات الحارة في المدن سيتضاعف عشر مرات قبل نهاية هذا القرن. وأضاف: "يوم الأربعاء كان الأشد حرارة في يونيو/حزيران هنا في برلين".
وأردف قائلاً إن هناك جدالاً حقيقياً حول ما يجب فعله بشأن الحرارة المتزايدة. يزيد تكييف الهواء من استهلاك الطاقة، مما سيزيد من انبعاثات الكربون في ألمانيا، وهو ما سيزيد من مشاكل التغير المناخي.
يقول كروب إن معظم الألمان يريدون المزيد من التحرك من أجل المناخ، لكن وحدات مكيف الهواء ازداد عليها الطلب الآن.
وقال ريتشارد كيلر، أستاذ التاريخ الطبي في جامعة ويسكونسن ماديسون، إن أوروبا تعلَّمت من الموجة الحارة في 2003، التي قتلت 70 ألف مواطن حول القارة. ألَّف كيلر كتاب Fatal Isolation، الذي يتناول الموجة الحارة في باريس في عام 2003، التي قتلت الآلاف، وأوضح أنه لا بد من الحدِّ من الوفيات هذا العام.
وأضاف: "فرنسا في حالة استعداد أفضل بكثير، فخدمات الطوارئ في مكانها، والوعي بالمخاطر أكثر بكثير".
وأردف كيلر قائلاً إن بعض المدارس في فرنسا أُغلقت، فلا توجد مكيفات هوائية في المدارس تقريباً. وأُنشئت مناطق تبريد ونوافير مياه مؤقتة في الأماكن المزدحمة من المدينة، وتأخرت مواعيد إغلاق الحدائق والمسابح. وحظرت باريس السيارات القديمة من المدينة لمواجهة الحقيقة التي تشير إلى أن الموجة الحارة تزيد من تلوث المدينة.