تكشفت تفاصيل وأسرار جديدة عن الفترة التي سبقت الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير، وما الذي حدث بعد عزله، لتوضِّح حجم الصراع على السلطة في البلد الذي يحكمه الآن مجلس عسكري، يضم كبار الجنرالات الذين كان لهم دور في إنهاء حكم البشير.
ونشر موقع "الجزيرة.نت"، اليوم الخميس 27 يونيو/حزيران 2019، تفاصيل قال إنه حصل عليها من مصادر متعددة، متحدثة عن انقلابين، الأول ضدّ عمر البشير، والثاني الذي أطاح بنائبه عوض بن عوف، وتشير الوقائع إلى دور بارز لقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو.
وفيما يلي تسلسل زمني لأحداث الانقلاب وما الذي جرى قبله وخلاله وبعده:
البشير قبل الإطاحة به
– 5 أبريل/نيسان 2019: البشير وخلال توجّهه إلى مناسبة اجتماعية في الخرطوم، يسأل: أين حميدتي، ليأتيه الردّ بأن هناك خلافات في وجهات النظر بين حميدتي ورئيس هيئة الأركان، الفريق أول كمال عبدالمعروف.
لم يكن الرئيس قلقاً على مثل هذه الخلافات، بل كان أحياناً يذكيها ويشعل النار بين أطرافها حتى لا يتفق ضده كبار الجنرالات، لكن ما كان يخشاه تحقق بعد أيام قليلة.
– السبت 6 أبريل/نيسان 2019: حدثت المفاجأة بعدما فتح ضباط في جهاز الأمن للمحتجين الذين كانوا يطالبون برحيل البشير، المدخل الغربي للميدان الفسيح أمام قيادة الجيش، ثم بقية المداخل، واحتشد الناس في باحة القيادة العامة وأعلنوا عن اعتصام.
– الإثنين 8 أبريل/نيسان 2019: اجتمع وزير الدفاع عوض بن عوف، والفريق أول كمال عبدالمعروف بالرئيس البشير، ليبحثا معه حلاً مشرّفاً يقضي بتنازله عن السلطة، لكنه لم يُبد أي حماس باتجاه التسوية، وبعدها كانت الحشود تتزايد للمطالبة بعزله.
وخلال هذه الفترة فشلت محاولات كثيرة لفضِّ الاعتصام بسبب تعاطف الضباط من صغار ومتوسطي الرتب مع المعتصمين.
– الثلاثاء 9 أبريل/نيسان 2019: البشير يعود لقيادة حزبه بعدما أعلن ابتعاده عن رئاسة الحزب، وتفويض السلطات لأحمد هارون، وخلال الاجتماع تم تبادل اللوم بين القيادات، وانتهى الاجتماع إلى قرار فضِّ الاعتصام بقوة مشتركة تمثل الجيش والشرطة والأمن والدعم السريع.
– الأربعاء 10 أبريل/نيسان 2019: المهندس محمد وداعة القيادي في قوى الحرية والتغيير يستقبل مكالمة مقتضبة في هاتفه من مدير جهاز المخابرات، صلاح قوش، يطلب منه التواصل معه عبر تطبيق "واتساب".
– حاول قوش إقناع وداعة بحمل رسالة تطمين للمعارضة، وربما أخباراً سعيدة، لكن وداعة اعتذر عن لعب دور "المرسال" لغياب الثقة، واقترح ترتيب اجتماع مع من عناهم قوش برسالته.
– قوش أراد الحديث مع زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، والقيادي في الحزب الشيوعي صديق يوسف، وعمر الدقير، ويحيى حسين من حزب البعث. ولعب وداعة دور الوسيط في ترتيب الاجتماع الذي عُقد ظهراً بمنزل المهدي.
اللعب على الجهتين
– اتصل قوش بالبشير في إطار خطة التضليل، ليخبره أنه سيجتمع بالمهدي وقادة المعارضة لإقناعهم بالانسحاب من أمام القيادة العامة، وإلا سيتم إكراههم على ذلك، ولم يكن البشير واثقاً في رجاله، واقترح أن يذهب معه الفريق بن عوف، لكن الأخير كان منشغلاً باجتماع آخر.
– في الاجتماع كان أحمد هارون -الذي أرسله البشير عوضاً عن عوف- متشنجاً ومتشدداً، خاصة بعدما أخبره المهدي بنيته إمامة المعتصمين أمام القيادة العامة للجيش في صلاة الجمعة، وهدَّد هارون بأن الاعتصام سيُفض بالقوة إن لزم الأمر.
– قوش يطمئن المجتمعين بأنه لن يتم فضّ الاعتصام، ثم طلب من المعارضة تقديم رؤيتها للحلِّ، فتحدث المهدي عن ضرورة تنحي الرئيس وتكوين مجلس عسكري، واعترض هارون على هذه المقترحات، بينما وعد قوش بنقلها إلى الرئيس.
– في مراسم الوداع، همس قوش في أذن وداعة بأن اللجنة الأمنية ستجبر الرئيس على التنحي. لهذا لم يكن خبر الانقلاب مفاجئاً لقادة تحالف قوى الحرية والتغيير.
البشير كان مستعداً للعنف
– الأربعاء 10 أبريل/نيسان: عاد وزير الدفاع برفقة رئيس الأركان لزيارة الرئيس في مقر إقامته، وفي هذه المرة عرضا عليه بشكل واضح حلَّ التنحي عن السلطة، فكان هو بدوره أكثر وضوحاً وغضباً، وأخبرهما بأنه لن يتنحّى، وأن الشرع "أباح له قتل ثلث الشعب من أجل سلامة الثلثين"، بحسب تعبيره.
– هدَّد البشير ضيفيه بالإقالة، وأخبره بأنه سيكلف الأمن والدعم السريع بفضّ الاعتصام إذا فشل الجيش.
– في سيارة عسكرية، وخوفاً من أجهزة الرصد والتنصت عقد وزير الدفاع، ورئيس الأركان، اجتماعاً ثنائياً حاسماً حوالي الساعة الثانية ظهراً، طرحا فيه إكراه الرئيس على التنحي، وتم الاتفاق، وكان عبدالمعروف أكثر جرأة في طرح الخيار.
الخامسة مساءً من الأربعاء 10 أبريل/نيسان 2019: اللجنة الأمنية تعقد اجتماعاً خُصّص لطرح خطة فض الاعتصام.
– قبيل الاجتماع كانت تفاهمات ثنائية قد أُبرمت، الأول بين قوش وحميدتي، والثاني بين قوش ومدير الشرطة، والثالث بين حميدتي والفريق أول عبدالفتاح البرهان المفتش العام للجيش، والرابع بين حميدتي وبن عوف، وكان ملاحظاً أن القوة المرجحة بمعركة خلافة الرئيس ستكون لقوات الدعم السريع.
الإطاحة بالبشير
– حتى تلك اللحظة لم يكن الفريق أول عبدالفتاح البرهان جزءاً من ترتيبات الإطاحة بالرئيس البشير، حيث لم يكن عضواً في اللجنة الأمنية، وعند منتصف الليل بعث رئيس هيئة الأركان باللواء محمد عثمان حسين لإحضار البرهان، الذي كان استأذن لزيارة منزله.
– الخميس 11 أبريل/نيسان 2019: البرهان يحضر إلى مكتب رئيس هيئة الأركان، وتم إخباره بقرار اللجنة الأمنية، وطُلب منه قيادة وفد لإبلاغ الرئيس بالقرار عقب صلاة الصبح. وتم إنجاز المهمة دون مقاومة تذكر، وجيء بقوات من الدعم السريع للقيام بمهمة حراسة الرئيس إلى حين.
– في فجر اليوم نفسه خرج البشير من بيته داخل قيادة الجيش، متجهاً نحو المسجد الصغير وهو يحمل مسبحة صوفية في يده اليمنى، لم يكن قلقاً فقد طمأنه مدير الأمن أنهم سيفضّون الاعتصام قبل الشروق.
– لمح البرهان برفقة عدد من الضباط يخطون نحوه بسرعة، أبطأ البشير خطواته، ظنّ وقتها أنَّ المفتش العام للجيش يريد التزود بالنصائح قبل خوض المعركة الأخيرة ضد الشعب، لكن البرهان كان يحمل أخباراً سيئة.
– احتاج البشير بعضَ الوقت ليستوعب أنه بات رئيساً معزولاً بأمر مرؤوسيه في اللجنة الأمنية، التي أوكل لها مهمة فض ما يراه شغباً، ولم يتأكد البشير من تلك الحقيقة إلا بعد أن فتح النافذة التي تفصله عن كتائب الحراس، فوجد أن رجال اليوم ليسوا حراس الأمس، بعدها دخل في تفاصيل البحث عن أمنه الشخصي، مفضلاً البقاء في ذات المقر الرئاسي.
– استشعر البشير المخاطر، واشتمَّ رائحة "خيانة" قبل منتصف الليلة الأخيرة، فوجَّه وزير شؤون الرئاسة بإعداد مرسوم بإقالة عوض بن عوف وصلاح قوش، وكان يخطط لتحمليهما مسؤولية فض الاعتصام.
خلاف يؤخر إذاعة البيان العسكري
– في الخامسة صباحاً كان مذيع نشرة الأخبار في الإذاعة السودانية يتأهَّب لأداء واجبه الراتب، وسمعس وقع أقدام ثقيلة داخل الاستوديو، عسكريون يأمرونه بأن يزفَّ البشرى لشعب السودان، لكن البيان تأخَّر بسبب خلافات القادة الجدد.
– أعضاء اللجنة الأمنية كانوا يفضلون أن يتلو البيان الأول رئيس هيئة الأركان، باعتبار أن وزير الدفاع يشغل منصب النائب الأول للرئيس، كما أن صحيفته الجنائية الدولية لا تخلو من الإدانات.
– الفريق بن عوف واجه كل رجاءاتهم بعنتٍ شديد وغضب بائن، كان يدرك منطقهم، لكنه يعرف جيداً أنَّه إن لم يظهر في الصورة فسيصبح ضمن سجناء العهد القديم. في النهاية تم التوافق على البيان، وأن يتلوه الفريق بن عوف، مما يعني ترحيل الخلافات إلى يوم آخر.
إذاعة البيان
– بعدما أذاع بن عوف بيانه أراد أن يضع الجميع أمام الأمر الواقع، مستقوياً بالجيش.
– لاحقاً بعد الفراغ من البيان وقبل الاتفاق على تشكيل المجلس العسكري، أدَّى بن عوف القسم، وأصرَّ كذلك على أن يؤدي الفريق كمال عبدالمعروف القسم نائباً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي.
– تلك الخطوة فجَّرت الخلافات، فموقع الرجل الثاني كان يتنافس عليه كل من قوش وحميدتي، وربما كلاهما يعتبره الخطوة قبل الأخيرة للوصول إلى مقعد الرئاسة.
– حميدتي اتَّخذ بعد ذلك خطوة أشبه بالتمرد، فأغلق جميع هواتفه وأعلن عبر الموقع الإلكتروني لقوات الدعم السريع تعاطفه مع الثوار، وزهده في عضوية المجلس العسكري، وذلك بهدف رفع مكانته بين المحتجين.
– بعد جهود مضنية قادها اللواء الصادق سيد -الرجل الثالث في قوات الدعم السريع وصهر الفريق بن عوف- تم التواصل مع حميدتي لإعادة ترتيب المشهد، وبدأت رئاسة بن عوف بالغروب.
تجدد الخلافات
الجمعة 12 أبريل/نيسان 2019: تجددت الخلافات بين كبار الجنرالات، حيث اقتنع الفريق بن عوف بالتنحي عقب موجة الرفض الشعبي لشخصه، باعتباره أحد رموز النظام القديم.
– رفضُ بن عوف وصل إلى عقر داره، حيث كان أحد أنجاله متعاطفاً مع شباب الثورة، وضغط كثيراً على والده للاستقالة منذ أن كان في منصب الرجل الثاني، وكان خيار بن عوف أن يخلفه على المقعد نائبه كمال عبدالمعروف، لكن كان هناك من يعترض.
– الذاكرة السودانية كانت تحفظ لعبدالمعروف وصفه للمتظاهرين بأنهم "شذاذ الآفاق"، كما أن خلافات عميقة بينه وبين حميدتي عادت إلى السطح.
– اشترط حميدتي ألا تتبع قوات الدعم السريع لرئيس المجلس العسكري في حالة اختيار عبدالمعروف.
– بعد التفاهم مع حميدتي، عُقد اجتماع في الخرطوم بإحدى البنايات التابعة لقوات الدعم السريع، شارك فيه بن عوف، الذي كان وقتها لا يزال رئيساً للمجلس العسكري، ولا يزال قوش أيضاً مديراً للمخابرات.
– كان الاجتماع صريحاً وحاسماً، واتَّضح للفريقين أن حميدتي أحكم التنسيق مع أكثر من جهة، ومن ثمَّ لا يمكن استبعاده من كعكة السلطة. هنا حسم أمر توليه منصب نائب رئيس المجلس الجديد.
– قبل أن يفرغ القادة الجدد من اجتماعهم، كان على الباب العميد محمد إبراهيم عبدالجليل -المعروف في الجيش بود إبراهيم- الذي قاد محاولة انقلابية فاشلة ضد البشير عام 2012.
– هدَّد "ود إبراهيم" بتحريك أنصاره في الجيش للقيام بمحاولة انقلابية، تم إعداد بيانها الأول، ووعده الجنرالات باستيعابه في عضوية المجلس الجديد إذا ما صرف النظر عن استخدام القوة.
– بعد انصرافه قلَّل قوش من قدرات "ود إبراهيم" في القيام بأي انقلاب، ولاحقاً تمّت إحالة عدد من الضباط الذين يُشتبه في تعاطفهم معه إلى التقاعد.
الأيادي الخارجية
– قبل أسبوعين من تعيينه نائباً أول لرئيس الجمهورية، زار بن عوف القاهرة يوم 13 مارس/آذار 2019، برفقة قوش، وفي تلك الزيارة طرح المصريون سؤالاً عن تماسك ووحدة الجيش أمام الضغوط الشعبية.
– كانت إجابة بن عوف بنعم، بينما كان قوش أكثر صراحة مع المصريين، حيث قدَّم لهم كلَّ السيناريوهات المتوقع حدوثها فيما يُشبه نعياً لنظام البشير.
– الاتصالات الأخرى مع الإمارات والسعودية أَحكم تنسيقها الفريق طه عثمان، خاصة مع صديقه حميدتي، وبحسب الجزيرة فإنَّ كثيراً من الروايات المتداولة بعد الانقلاب أكدت أن أبوظبي والرياض كانتا في الصورة، وربما علمتا بالتحضير للإطاحة بالبشير.
– بات البرهان رئيساً للمجلس العسكري، بينما خَطف حميدتي مقعد الرجل الثاني، ورُقِّي إلى فريق أول، بينما اعتذر الفريق عبدالمعروف عن قبول أي منصب آخر.
– بذات المنطق تم الضغط على قوش لينسحب من عضوية المجلس الجديد، باعتبار أن أقدميته تمثل عائقاً.
– مصادر الجزيرة عزت الإبعاد إلى نصيحة غالية من الفريق طه الحسين، المدير الأسبق لمكاتب الرئيس المعزول، والمستشار بالديوان الملكي السعودي وغريم قوش السابق.
– ولاحقاً تم قبول استقالة الثلاثي؛ الفريق عمر زين العابدين، والفريق بابكر الطيب مدير الشرطة، والفريق جلال الشيخ الطيب، الذي خلف قوش في إدارة جهاز الأمن، حيث اتهمهم المحتجون بأنهم من أنصار حزب البشير، فقدَّمهم البرهان قرباناً للتقرب لتحالف الحرية والتغيير، أحد أبرز مكونات الثورة الشعبية.
– لاحقاً استقال مدير الاستخبارات العسكرية الفريق مصطفى مصطفى، بعد خلاف حادٍّ مع حميدتي، وتركَّز الخلاف حول حجب الفريق مصطفى معلومات تتعلق بمجموعات عسكرية وأسلحة تم ضبطها في الضاحية الشرقية للخرطوم، عُرفت بقضية كتائب الظل، وهي ميليشيا شبه عسكرية، تناصر النظام السابق، بجانب معلومات أخرى.
– ثلاثة من أبرز الغاضبين سافروا إلى المملكة العربية السعودية بصحبة أسرهم، وهم بن عوف وعبدالمعروف، وعضو المجلس العسكري الأسبق الفريق جلال الشيخ، بينما تتضارب الأنباء عن مكان قوش.
– مصادر الجزيرة أكدت وجوده في مصر. أما الفريق عمر زين العابدين فعاد إلى عمله بالتصنيع الحربي، ولزم الفريق مصطفى داره، ممتنعاً عن الردِّ على كل الاتصالات الهاتفية، ومتعللاً بظروف صحية.