المحتجون في السودان يعيدون تنظيم صفوفهم سراً بعد بطش الجهاز الأمني بهم

كان الطبيب الشاب السوداني ضياء هارباً أياماً، ومختبئاً في مكانٍ هادئ بالعاصمة السودانية الخرطوم، التي يملؤ الخوف أرجاءها، في حين كانت الضمادات ملفوفة حول رأسه المجروح.

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2019/06/10 الساعة 16:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/10 الساعة 16:10 بتوقيت غرينتش
عناصر من الجيش السوداني - رويترز

كان الطبيب الشاب السوداني ضياء هارباً أياماً، ومختبئاً في مكانٍ هادئ بالعاصمة السودانية الخرطوم، التي يملؤ الخوف أرجاءها، في حين كانت الضمادات ملفوفة حول رأسه المجروح.

طبيب سوداني يحكي شهادته على فض الاعتصام الوحشي

ولِم لا، فقد شهد الطبيب ضياء عليّ الحملةَ القمعية التي وقعت الإثنين 3 يونيو/حزيران 2019، عندما أغارت قواتٌ شبه عسكرية على منطقة وسط الخرطوم، وأطلقت الرصاص على المحتجين المؤيدين للديمقراطية، وحرقت الخيام واعتدت جنسياً على النساء. أحصى الأطباء 118 حالة وفاة خلال أيامٍ معدودة، واستُخرجت 40 جثة من النيل. واعترفت الحكومة بوجود 61 حالة وفاة، حسب تقرير طويل نشرته صحيفة The New York Times الأمريكية.

ساعد الطبيب عليّ في علاج الجرحى، ثم تعرَّض هو نفسه للهجوم. وهو في الوقت الحالي بعيدٌ عن الأنظار في شقة صديقٍ له. وُضع هاتفه الذكي -الذي كان ذات يومٍ أداةً أساسية من أجل الاحتجاجات- في حالةٍ خاملة على المنضدة؛ فقد قطعت الحكومة الإنترنت. ولم يغامر عليّ بالخروج، حيث تتجول القوات شبه العسكرية في الشوارع.

بدت هذه لحظة قاتمة في أعين المحتجين الذين تجرأوا على تحدّي الحكام العسكريين في دولة السودان الإفريقية ذات المساحة الشاسعة؛ فقد أُحبطت ثورة عربية أخرى عن طريق الاستبداد والعنف والقمع. لكنَّ الطبيب ضياء عليّ لا يزال متحدياً، بل متفائلاً.

قال عليّ: "هذه ليست نهاية الثورة، بل إنَّها البداية فقط".

الذي جاء بعد نجاح الشعب السوداني في الإطاحة بالبشير

حيث جذب السودان انتباه العالم قبل أشهر قليلة، عندما حاصر عشرات الآلاف من المحتجين العاصمة، بعد أن طفح بهم الكيل من المصاعب الاقتصادية وحُكم الرئيس السابق عمر البشير، الممتد منذ 30 عاماً.

وفي ظل الضغوط الشديدة، أُجبر الرئيس عن طريق الجنرالات العسكريين المحيطين به، على التنحي، وبدأوا في إدارة البلاد بأنفسهم وتعهَّدوا بالتغيير. لكنَّ التفاؤل المندفع الذي خلقته إطاحة البشير مهَّد الطريق أمام توتراتٍ من نوع جديد؛ نظراً إلى أنَّ الجنرالات عارضوا مطالب المحتجين التي تدعو إلى انتقالٍ سريع إلى الحكم المدني. ثم شرعوا قبل أسبوعٍ، في حملتهم القمعية، التي صاحبتها تحذيراتٌ قليلة.

وعلى الرغم من الموقف المتفائل الذي يتخذه الدكتور عليّ، يواجه ثوار السودان السريون قوةً هائلة، داخل البلاد وخارجها.

وقد نفذوا محاولةً جديدة، الأحد 9 يونيو/حزيران 2019، لانتزاع السيطرة من المجلس العسكري، عن طريق عصيانٍ مدني شامل شلَّ حركة الخرطوم ومدنٍ رئيسة أخرى. كانت معظم الشوارع مهجورةً، وأُغلقت المحال. وأقام المحتجون حواجز في شوارع ضواحي المدينة. وقتلت قوات الأمن ما لا يقل عن ثلاثة محتجين، حسب رواية الأطباء.

لدى المحتجين كثير من الأراضي التي يريدون استعادتها، إذ إنَّ ميدان أحلامهم -وهو موقع الاحتجاج الكبير الذي يقع أمام مقر الجيش في الخرطوم، حيث ساعد الحشد الكبير في إطاحة البشير، في أبريل/نيسان 2019- استحال إلى رماد.

وقد دعا الثوارُ إلى عصيان مدني من أجل إقالة المجلس العسكري

وفي جولةٍ بالسيارة بالموقع، السبت 8 يونيو/حزيران 2019، بدت الجدران بيضاء بعد أن كانت تعطيها ذات يومٍ قريب، رسوم الغرافيتي الثورية. ومر عددٌ قليل من السيارات المسرعة، في مشهدٍ شبه خالٍ من أي أثر.

أما قوات التدخل السريع، وهي المجموعة شبه العسكرية التي قادت مجزرة يوم الإثنين الماضي، فتُحكم قبضتها على المدينة. في الشوارع الرئيسة، تجمَّع الجنود أسفل الأشجار، أو استراحوا حول الشاحنات الصغيرة المثبَّتة فيها المدافع الرشاشة. وفي جنوب المدينة، اصطفت عشرات من المركبات العسكرية داخل أسوار ملعب رياضي. وانتظرت عشرات أخرى منها في حديقة ترفيهية قريبة.

ويُعرف على نطاق واسع، أن أقوى رجل في العاصمة هو الفريق محمد حمدان دقلو، المعروف باسم "حميدتي"، وهو قائد قوات التدخل السريع، رغم أن المجلس العسكري يقوده رسمياً الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وهو من الجيش السوداني النظامي.

سطع نجم حميدتي، الذي عمِل من قبلُ تاجر جِمال، باعتباره قائداً للجنجويد، وهي ميليشيا عسكرية متهمة بارتكاب فظائع إبادة جماعية في منطقة دارفور بالسودان خلال العقد الأول من القرن الحالي. والآن وجَّه حميدتي قواته نحو الخرطوم، وبدعم من الرعاة الأقوياء في السعودية والإمارات الذين أغدقوا عليه المال والسلاح والمشورة.

المدعوم إقليمياً من أجل مواجهة تطلعات الثورة السودانية

وتجوب المدرعات إماراتية الصنع شوارع الخرطوم. وتعهَّد السعوديون والإماراتيون بتقديم مساعدات بقيمة ثلاثة مليارات دولار، لدعم الاقتصاد السوداني المتعثر. وسافر حميدتي إلى الرياض، لمقابلة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في الشهر الماضي (مايو/أيار 2019).

هبطت طائرات الشحن السعودية والإماراتية بمطار الخرطوم في الأسابيع الأخيرة، ويبدو أنها كانت تنقل عتاداً عسكرياً، حسبما قال صديق أبو فواز، الطيار السابق المنضم في الوقت الحالي إلى صفوف المعارضة.

وأضاف: "فرَّغوا كثيراً من الصناديق الثقيلة وبعض المركبات العسكرية".

ولما تعرضوا للقوة الغاشمة والعنف الصريح على يد قوات التدخل السريع، التزم المحتجون -الذين ينحدر أغلبهم من صفوف الشباب السوداني ويقودهم الأطباء والمهنيون الآخرون- السرية في تحركاتهم.

إذ يضرهم انقطاع الإنترنت ضرراً شديداً.

وقد استطاع المتظاهرون استغلال مواقع التواصل لخدمة ثورتهم

فعلى مدى الأسابيع الـ11 للثورة التي أطاحت بالبشير، استخدم المحتجون مواقع التواصل الاجتماعي لتنظيم صفوفهم، ومراوغة قوات الأمن، ونشر الانتهاكات. والآن لا يتصل بالإنترنت إلا عدد قليل من الفنادق وبعض البيوت، وهو ما يشكل حصاراً على المحتجين.

قال أحمد بابكر، وهو طبيب أسنان يتحدث هاتفياً من مخبأ في حي بري، الذي كان بؤرة ساخنة للاحتجاجات: "لا يريدون أن تظهر الحقيقة أمام العالم".

وأوضح أن المرة الوحيدة التي خرج فيها خلال الأيام القليلة الماضية، كانت لقصِّ شعره، لأنه أراد تجنُّب قوات التدخل السريع التي تتجول في الشوارع وكانت تجبر من تشتبه في أنه من المحتجين، على قص شعره. وأضاف: "الحلّاق هو المكان الوحيد الذي ذهبت إليه".

عدد صغير من المحتجين الذين لا يزال لديهم إنترنت، نشروا كلمات المرور الخاصة بشبكات الواي فاي التي يملكونها، وشجعوا آخرين على التجمُّع خارج منازلهم للاتصال بالإنترنت. وتُجبَر الغالبية على مشاهدة القنوات التلفزيونية الحكومية، بنسختها المُحرَّفة من الحقيقة.

زعم التلفزيون السوداني، الأحد 9 يونيو/حزيران 2019، أن العصيان فشل، وحاولوا تصوير المحتجين، على أنهم مُنحلُّون أخلاقياً، وعرضوا لقطات لنساء سودانيات يرتدين ملابس على النمط الغربي، ومقابلة مع رجل قال إنه أراد الانضمام إلى الاحتجاجات لشرب الكحول وتدخين الحشيش.

ورسم الناجون من الغارة التي شنتها الحكومة فجر الإثنين الماضي، صورةً أكثر شؤماً.

وفضح انتهاكات الجيش التي كانت واضحة في فض الاعتصام

وقد سوغ الجيش في البداية، العملية بزعم أنه استهدف منطقة كولومبيا، وهي رقعة من العشب متاخمة لنهر النيل وقريبة من منطقة الاحتجاجات، وكانت معروفة بأنها بؤرة لتجارة المخدرات في الخرطوم. كانت أعداد المحتجين قليلة: فقد عاد كثيرون إلى منازلهم للاحتفال بعيد الفطر الذي بدأ في اليوم التالي، وكانت الأمطار الغزيرة تنهمر بموقع الاحتجاجات.

كان مصطفى وإبراهيم، وهما طالبان في السنة النهائية بكلية الطب، حاضرَين عندما بدأ إطلاق النار، وساعدا في علاج الجرحى داخل مستشفى ميداني.

وقال طالبا كلية الطب، اللذان رفضا إعطاء اسميهما الكامل خوفاً من الانتقام، إن المحتجين المصابين وصلوا بأعداد كبيرة، وكانت إصاباتهم تتراوح بين جروح بطلقات الرصاص وأطراف مكسورة، بعد أن هاجمتهم القوات التي كانت تحمل العصي والسياط.

ثقبت طلقات الرصاص جدران المستشفى. فقفز المرضى المصابون ليتخذوا ساتراً لحمايتهم. ضابط من صفوف قوات التدخل السريع لا يتجاوز عمره 16 عاماً، اقتحم المستشفى وبدأ في ضرب المرضى. قال إبراهيم: "بدا ثائراً بفعل منشطات".

سُحب المحتجون الذين كانوا يختبئون في العيادة، وتعرضوا للضرب. أوضح إبراهيم: "كان مثل الأفلام، عندما يضربون شخصاً في وجهه بسلاح. إنه جنون!".

وقال الطبيبان إنهما حاولا حمل مريض عانى جروحاً خطيرة، على نقّالة، لإدخاله مستشفى على بُعد نصف ميل. وعندما خرجوا من المستشفى، صعقهم ما شاهدوه: كان هناك آلاف من المقاتلين الذين يملأون منطقة الاحتجاجات في كل اتجاه.

أضاف إبراهيم: "كل واحد منهم كان يفعل شيئاً. يحطم أو يدمر سيارة؛ يضرب مصاباً مدنياً؛ يحرق خيمة؛ أو يدمر أي شيء يقدر عليه".

وبينما كانا يندفعان بالنقّالة، وساعدهما في ذلك ضابطان بالجيش، كان آخرون يضربون المُسعِفان أو يستخدمون هواتفهم لتصوير المصاب. قال مصطفى: "قالوا أشياء على شاكلة: (أتمنى أن يموت. هذا ما تحصل عليه لقيامك بهذه الثورة)".

ورغم تعليمات المعارضة بتجنُّب الصِّدام مع الأمن فإن الانتهاكات مستمرة

وقد أمر تجمُّع المهنيين السودانيين، الذي ساعد في قيادة الاحتجاجات التي أطاحت البشير، مؤيديه بتجنُّب المواجهات مع القوات الأمنية خلال العصيان المدني الشامل، الذي يقولون إنه سيستمر حتى يتخلى الجيش عن السلطة. لكنهم في مواجهة الجهاز الأمني العتيد الذي كان للبشير، والذي يحاول بكل حماسةٍ ترسيخ أقدامه مجدداً.

قال رضوان داود، أحد قادة المعارضة: "لا تزال الدولة العميقة موجودة ولا تزال تدير الدولة. يمكنك استشعارها في كل مكان. من الناحية المنهجية، ما زلنا في عهد البشير".

توضع على المنضدة التي أمام رمضان شريحتا هاتف محمول؛ فهو يتخلى عن أرقام هواتفه الاعتيادية، لتجنُّب المراقبة أو الاعتقال، حالُه حال كثير من الأشخاص.

يأمل الجيش مواجهة العصيان عن طريق التخويف الموجَّه. وإحدى النقاط الرئيسة التي يركزو عليها تتعلق بمواصلة مطار الخرطوم عمله.

في الأيام القليلة الماضية أخبر عادل مفتي، وهو رجل أعمال يدير شركة كبيرة متخصصة في خدمات النقل الجوي، الموظفين بشركته بأنه من الآمن أن يبقوا في منازلهم. وفي يوم الخميس الماضي، استدعته قوات الأمن.

قال "المفتي" عن طريق الهاتف قبل مغادرة منزله: "أتمنى أن أتواصل معكم مرة أخرى".

وفي صباح الأحد، قال أقاربه إنهم علِموا أنه دخل في غيبوبة سُكر؛ بعد أن رُفض طلبه للحصول على العلاج. وعبَّرت زوجته عن مخاوفها من احتمالية وفاته.

تكمن خلف مظاهر الوحدة تصدُّعات بين صفوف المحتجين. انتقد بعضهم قادتهم، لفشلهم في التفاوض على صفقة لتشارُك السُّلطة مع الجيش منذ أبريل/نيسان 2019. ويُلقي آخرون باللوم على أنفسهم، لعدم توقعهم الحملة القمعية القادمة من حميدتي، قائد قوات التدخل السريع.

قال الطبيب ضياء عليّ: "كنا نعرف أنه مجرم منذ البداية. لكننا لم نستطع مواجهة جميع (الجهات) آنذاك. لذا نظرنا إلى الجهة الأخرى فحسب".

المحتجون في السودان يعيدون تنظيم صفوفهم سراً بعد بطش الجهاز الأمني بهم

تحميل المزيد