في مكتبته، التي تحتل تقريباً الجزء الأكبر من بيته الكائن بشط الهنشير في العاصمة الليبية طرابلس، نلتقي الكاتب والأستاذ الجامعي عبد المولى البغدادي، الذي وُلد في عهد الاحتلال الإيطالي، ودرس وشب في عهد الانتداب البريطاني، وعاصر الاستقلال وعاش لحظاته لحظة بلحظة حتى صار شاهداً على تاريخ بلاده وما مرت به من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية فارقة على مدى 6 عقود.
الزمن في مكتب الشيخ عبد المولى كأنه توقَّف عند الستينيات، أثاث المكتب والبيت، والصور التي تزين الجدران، وحتى رائحة المكان تحيل إلى زمن السنوسيين الذين حكموا ليبيا طوال قرون قبل ثورة العقيد معمر القذافي.
من بيته، أخذَنا في رحلة عبر الزمن، وجال بنا في أزقة المدينة القديمة وسوق المشير وسوق العتق وسط العاصمة، بحكاياته عن زمن المملكة، حيث كانت الحياة، في نظره، أكثر نظاماً، وكان القانون فوق الجميع.
الزمن الجميل
شارع عمر المختار في العاصمة طرابلس سنة 1944، ملامح المكان تبدو كأنها قطعة من مدينة أوروبية؛ السيارات منتظمة في مواقفها، السائقون يحترمون الإشارات الضوئية والمشاة على الرصيف، وشرطي المرور في مكانه يراقب الوضع.
كانت له -كما يحكي الشيخ البغدادي- صلاحيات توقيف السيارات وسجن المخالفين من السائقين ومواقف السيارات وحتى الدراجات الهوائية، محددة الأماكن، مجهزة بصناديق لدفع الضريبة المخصصة كما في الغرب والدول المتقدمة اليوم تماماً.
"كانت الشوارع والأبنية مرقمة، والجرائد تصلنا دون تأخير إلى باب البيت والبريد"، كذلك كما يروي البغدادي.
نظام الشارع خيالي؛ شكل الأبنية وهندستها متناسق في الألوان وعدد الطوابق، وحتى إن العابرين كانوا أنيقين ونظيفين بشكل لافت للنظر، والأطفال بدوا في بدلاتهم الإيطالية كأنهم في ديكور فيلم سينمائي.
تزداد حسرة مضيفنا كلما أوغل بذكرياته، في فترة شبابه كان ارتياد المسارح ودور السينما والمكتبات أسلوب حياة يومية في وطنه، مستغرباً كيف تتراجع ليبيا كل هذه الخطوات إلى الوراء وأصبح كل هذا حراماً وسراباً؟
الأستاذ الجامعي بكلية الآداب في جامعة طرابلس، الذي شغل كثيراً من المناصب بقطاع التعليم سابقاً، يحاول أن أن يجد جواباً للسؤال الحارق..
يتذكر الاستقلال سنة 1951، حينما كانت البلاد تعاني مشاكل اقتصادية وصحية، وكان كل من الفقر والجهل والمرض منتشراً إلى حد كبير، لكن بعد بضع سنوات من حكم إدريس السنوسي، وتحديداً بعد اكتشاف النفط وبدء إنتاجه، تحسَّن الوضع بشكل لافت، وقفزت ليبيا خطوات كبيرة في مجال التنمية، حتى "أضحت نموذجاً يُحتذى به في كل المنطقة"، يؤكد البغدادي بحماسة.
يتذكر كيف تضاعفت المرتبات والأجور خلال بضع سنوات، وكيف تحسنت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وشهدت البلاد انفتاحاً غير مسبوق على التجارة والاستثمار والتطور السريع في البنية التحتية وتطوير قطاعي الصحة والتعليم، كانت الفترة الذهبية لليبيا والليبيين.
التعليم بين عهدين
بعيداً عن العاصمة طرابلس، وفي أقصى الشرق الليبي هذه المرة، وتحديداً بمدينة طبرق، نلتقي الخبير صالح عمر، الذي قضى ثلثي عمره في قطاع التعليم.
تدرج مُعلماً ومشرفاً ومديراً 20 سنة لواحدة من أقدم المدارس بالمدينة "الشهيد صالح أرحومة"، نجده أمام باب بيته بحي الحرية ودون موعد مسبق.. أول ما سألناه عن حال المدرسة أيام الملكية، تنهَّد بحرقة.. في نظره، فإن التدهور الحاصل بقطاع التعليم منذ تأسيس الدولة الليبية إلى يومنا هذا، شاهد على تغييرات جذرية قلبت الموازين في القطاع الأهم بالدولة، من حيث الجودة والكفاءة ومستوى المقررات الدراسية، "غابت الرقابة والانضباط وحلّت الفوضى"، يلخص عُمَر الوضع.
صالح عمر، الذي درس في عهد المملكة وامتهن التعليم الابتدائي منذ مطلع السبعينيات، يرى أن العملية التعليمية بدأت تتدهور تدريجياً منذ ذلك الوقت مروراً بعقد الثمانينات، وقتها اتجه كثير من الشباب إلى التدريس هرباً من الانضمام إلى الجيش، الذي يزج به القذافي في حروب داخلية وخارجية، في تلك الفترة قلَّ تركيز الدولة على التعليم رغم الإمكانات المادية الكبيرة، بينما خطا التعليم في عهد المملكة القصير نسبياً (18 سنة) خطوات مهمة في تأسيس بنية تعليمية، مستعيناً بالمنظمات الدولية والدول الجارة.
قبل أن يقطع أذان المغرب حوارنا، يختم المعلم الستيني المتقاعد كلامه ونحن نرافقه بخطى متسارعة نحو المسجد المقابل لبيته لأداء الصلاة، كان التعليم في العهد الملكي يهتم بالجانب التربوي والتعليمي وغير غارق في الأيديولوجيا، ولكن بعد مرور 10 سنوات من عهد القذافي جرت أدلجة التعليم، فصار ساحة لتقلُّبات القذافي الأيدولوجية، والأمثلة على ذلك كثيرة كما يروي الأستاذ المخضرم.
مزاج القذافي المتقلب جعله يلغي تدريس بعض المواد مثل اللغات الأجنبية، باعتبارها لغات الاستعمار، وليس هذا فقط؛ بل طُبِّقت في عهد الجماهيرية العديد من التجارب "المتهورة" مثل التعليم التشاركي والتعليم المنزلي، وصحب ذلك إهمال في الاهتمام بالبنية الأساسية للتعليم؛ مما أدى إلى تفريخ العنف والجهل الذي تعيشه ليبيا حالياً، كما يؤكد صالح عمر.
ذكريات صاحبة الجلالة
أيام ليبيا المجيدة لا تقتصر على التعليم فحسب، كما تخبرنا الإعلامية المخضرمة فاطمة غندور، فجيلها ورث تاريخاً متناقضاً بدرجة حادة في مجال الصحافة والإعلام على وجه الخصوص، ما بين عهدي الملكية والقذافي.
الأستاذة الجامعية بكلية الإعلام والفنون في جامعة طرابلس، تذكر ل"عربي بوست" -بشغف- كيف كان طابور القراء بليبيا ينافس جمهور مباريات كرة القدم في أوجها، لأجل اقتناء جريدة مثل "الحقيقة"، أو من عمود كاتب رأي ينتقد الواقع وينفتح على ثقافة العالم، مثل الأديب والفيلسوف الصادق النيهوم.
تحاول غندور توضيح الوجه الآخر لهذا التناقض، المتمثل في تاريخ السبعينيات، حيث أمم "انقلابيو سبتمبر" وأغلقوا كل الصحف الخاصة، ولاحقوا الصحفيين أمثال الراحل فاضل المسعودي.
تصف تلك الفترة بالدموية، وتحديداً خطاب القذافي سنة 1973، الذي اعتبرته بمثابة الإعلان الرسمي لقمع كل كلمة حرة كانت تصدح بالواجب، كما تعودت خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، والأرشيف الليبي يوثق في مجلداته تلك الأحداث والمقالات، ما يجعل قياس الفارق بين "صحافة المملكة الليبية في متنها وتنوعها وعلاقتها بقهوة صباح قرائها.. وصحافة وخطاب السلطة الدموية وأوامرها ونواهيها".
بعض الأمل في الحرية شعَّ مع ثورة فبراير/شباط 2011، التي أحدثت -حسب الإعلامية المخضرمة- انفتاحاً في مجال الرأي والممارسة الديمقراطية، لم يكن مسبوقاً حتى في العهد الملكي، لكن التقلبات الأمنية والصراعات المسلحة أدت إلى "تراجع كبير في عدد المؤسسات الإعلامية وعدم احترام الآراء بين مختلف أطراف النزاع".
وليس بعيداً عن الإعلام والصحافة، التقت "عربي بوست"، الباحثَ والكاتب المهتم بالتوثيق الأدبي عبد الله مليطان، الذي يصر على أن النظر إلى المراحل يجب أن يكون بمقاييس أزمانها وظروفها؛ ومن ثم نستطيع أن نقيّم عطاء كل جيل.
مليطان، يرى أن أسماء عديدة في مجالات العلوم الاجتماعية والتاريخ والفلسفة واللغة والإبداع شعراً ونثراً، بالواقع الثقافي الليبي، في عصرنا الحديث، تعود جميعها في تكوينها إلى مرحلة ما قبل سبتمبر/أيلول 1969.
ويعدد الباحث عشرات الأسماء اللامعة في تاريخ الثقافة الليبية التي تشكلت معرفياً خلال عهد المملكة، كما يحاول أن يبرهن على ذلك، مؤكداً في الوقت ذاته أن ما جاء من بعد هذا الجيل لم يكن له الأثر الذي خلّفه جيل ما قبل 69، والسبب "ظروف معيشتهم السيئة للغاية، وضحالة تحصيلهم المعرفي، حيث لا جامعات كبرى ولا معاهد تكوين عالية".
نترك الشيخ عبد المولى البغدادي في مناجاة مع كتبه التي تختصر التاريخ الليبي القديم والحديث، يبحث بين صفحاتها عن إجابة سؤاله الحارق.. ليبيا كانت مشروعاً حقيقياً لدولة متطورة، "لماذا توقفنا.. بل وعُدنا إلى الوراء؟!".