ينتظر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتصالاً هاتفياً من إيران. صحيحٌ أنَّ العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن وطهران قُطعت في عام 1980، لكن هناك قنوات اتصال خلفية، بل وجرت بينهما مفاوضات في كثيرٍ من الأحيان، لكنَّها عادةً ما تحدث عبر وزارتي الخارجية في البلدين. لذلك بعدما أعرب ترامب للصحفيين في يوم الخميس الماضي 9 مايو/أيار عن رغبته في اتصال إيراني به، قدَّم مسؤولون أمريكيون رقماً هاتفياً مباشراً خاصاً بالبيت الأبيض للحكومة السويسرية، التي -بصفتها دولة محايدة- تُمثِّل المصالح الأمريكية في طهران في غياب السفارة الأمريكية هناك، لتقديمه بدورها إلى إيران.
تقول شبكة CNN الأمريكية في تقرير لها، ربما يتعامل الرئيس الأمريكي مع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي والرئيس الإيراني حسن روحاني بثقةٍ كبيرة مثلما يفعل مع ديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون. لكنَّ ترامب يمكن أن يصبح "عدوانياً" إذا لم يتواصل النظام الإيراني معه بسلام قريباً. إذ أرسلت وزارة الدفاع الأمريكية مؤخراً تشكيل "يو إس إس أبراهام لينكولن" البحري العسكري ووحدة قاذفات إلى الخليج لمواجهة "تهديد موثوق به". وحذرت وزارة الخارجية الأمريكية الأمريكيين من السفر إلى إيران، مع نقل جميع الموظفين الأمريكيين غير الأساسيين من دولة العراق المجاورة خشية تنفيذ "أعمال عنف" ضدهم من جانب وكلاء طهران.
وتضيف "سي إن إن" أنه ينبغي للقيادة الإيرانية أن تضع في اعتبارها أنَّ ترامب يرى أي اتفاقٍ "فظيعاً" ما لم يكن من اقتراح إدارته. حينئذٍ فقط، يمكنه اعتبار الاتفاق "عادلاً" إن لم يكن "رائعاً". وبإشارة ترامب إلى استعداده لإجراء مكالمة هاتفية، يضع الرئيس الأمريكي الأساس -عن طريق أسلوبه ثنائي القطب في التفاوض- لمحاولة إبرام اتفاق يحمل توقيعه، بدلاً من توقيعات الإدارة الأمريكية السابقة والقوى العالمية الأخرى. إذ ذكر ترامب حين انسحب من الاتفاق النووي الإيراني في مايو/أيار من العام الماضي 2018 أنَّه يسعى "للتفاوض على اتفاقٍ جديد".
"أود أن أراهم يتصلون بي"
وتزامناً مع مرور عام على انسحابه الأحادي الجانب من الاتفاق النووي، أدرج ترامب الحرس الثوري الإسلامي الإيراني ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، وألغى إعفاءات كبار مستوردي النفط والغاز الإيرانيين مثل الصين والهند، وفرض عقوبات أشد على تصدير إيران الحديد والصلب والألومنيوم والنحاس. وبعدما زاد من الضغوط على القيادة الإيرانية بفرض مزيدٍ من القيود على نفوذها الجيوسياسي واقتصادها، مدَّد ترامب عرضه للتفاوض شخصياً. ففي حديثه مع الصحفيين في البيت الأبيض يوم الخميس الماضي، قال ترامب: "أود أن أراهم (قادة إيران) يتصلون بي… ما ينبغي لهم فعله هو الاتصال بي، والجلوس معي. حينئذٍ، يمكننا الوصول إلى اتفاق، اتفاق عادل".
لكنَّ مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون ووزير الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو لديهما متطلباتٌ كبيرة لأيِّ تسوية. إذ يسعيان إلى "سد أوجه القصور" في الاتفاق النووي التي تشمل محدودية التحقُّق من المنشآت والمواد النووية المعلنة، والافتقار إلى حق دخول مواقع تطوير الأسلحة النووية المشتبه فيها، والمدة الزمنية القصيرة التي يُسمَح بعدها باستئناف الأنشطة النووية، وعدم فرض قيود على أنظمة إيصال الأسلحة النووية.
ويؤكد الرجلان أنَّ "طهران يجب أن تمتثل امتثالاً تاماً لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية بالتوقف عن مشاركة التكنولوجيا النووية. ومن مصادر القلق الرئيسية الأخرى صواريخ إيران، التي يمكن أن تصل عبر الشرق الأوسط إلى أجزاء من أوروبا وآسيا، والتي يجب الحد منها". ويرى بولتون وبومبيو أنَّ "توسُّع إيران الإقليمي لا يزعج حلفاء أمريكا مثل إسرائيل والسعودية فحسب، بل يثير كذلك عدم الاستقرار والاستبداد".
وبينما يُقِرُّ ترامب بـ "مخاوف" بولتون وبومبيو، ويردِّد في كثير من الأحيان تصريحاتهما العدوانية، فقد شدَّد على غايةٍ أكثر تحديداً. إذ أوضح في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2017 أنَّ هدفه هو "ضمان ألَّا تمتلك إيران سلاحاً نووياً أبداً". وقد أكَّد ترامب تمسكه بهذا الموقف في حديثه إلى الصحفيين يوم الخميس الماضي، قائلاً: "لا نريدهم أن يمتلكوا أسلحة نووية. هذا ليس طلباً صعباً". حتى إنَّ الرئيس الأمريكي انتقد التقارير التي تفيد بأنَّ مسؤولي إدارته يعتزمون نشر أعدادٍ كبيرة من القوات الأمريكية في الشرق الأوسط لمواجهة إيران، ووصفها بأنَّها "أخبار كاذبة".
إلى ذلك، ترى "سي إن إن"، أنَّ تصرُّفات ترامب على الساحة العالمية ليست نابعة من مُنطَلَق "أيديولوجي"، على عكس تصرفات بولتون وبومبيو، لكنَّ ترامب هو من يتحكم في مقاليد الأمور. لذلك، حين عرض إجراء مكالمة مع إيران، قال: "لا نبحث عن إيذاء إيران. أريدهم أن يكونوا أقوياء وعظماء، وأن يكون لديهم اقتصاد عظيم". أي أنَّ المهم بالنسبة لترامب هو أن يحصل على نتيجةٍ تجعله يبدو شخصاً "جيداً"، وفي المقابل، سيعيد دمج إيران في النظام العالمي، حتى "تستطيع أن تكون قويةً اقتصادياً للغاية". وحينئذٍ، يُمكِن لنظام آيات الله والحرس الثوري الإيراني، الذين يسيطرون معاً على ثلث الاقتصاد الإيراني، المحافظة على بقاء النظام وجني أرباحٍ طائلة، بحسب وصف "سي إن إن".
السعوديون أدركوا رغبات ترامب.. يريد أرباحاً طائلة
تضيف "سي إن إن": يتضح هنا أنَّ تحركات ترامب تهدف إلى تعظيم ذاته مع جني أرباحٍ طائلة. وقد أدرك آل سعود رغباته جيداً، لذا استقبلوه في الرياض في مايو/أيار من عام 2017 بصورٍ شخصية عملاقة له، ورقصاتٍ بالسيف، ومآدب فخمة، وفرصٍ اقتصادية. وفي المقابل، أكَّد ترامب مجدداً أن المملكة العربية السعودية "حليف عظيم"، مما أدى إلى تجاهل دورها في "تغذية التطرُّف" في جميع أنحاء العالم، ودعم أنظمة عربية استبدادية أخرى، وقمع المواطنين في داخل بلدان تلك الأنظمة.
وبالمثل، ستحتاج السلطات الإيرانية إلى التخلُّص من أيديولوجية "الموت لأمريكا والموت لإسرائيل"، والتركيز على المنافع المادية. ولكن حتى إذا استعاد البلدان العلاقة الإيجابية بينهما، فالوصول إلى اتفاقٍ جديد يُمثِّل الخطوة الأصعب والأقل فرصاً في النجاح. فرغم كل شيء، أعلنت إيران يوم الأربعاء الماضي، 8 مايو/أيار، أنَّها في غضون ستين يوماً ستُقلِّص التزامها بتطبيق المادتين 26 و36 من الاتفاق النووي -أي القيود المفروضة على تخزين اليورانيوم المُخصَّب والماء الثقيل- إذ لم تجد بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين طُرُقاً للتغلب على العقوبات الأمريكية المفروضة على القطاع المصرفي وقطاع الطاقة.
ولكن بعد ذلك بيومٍ واحد فقط، أشار ترامب إلى أنَّ كل ذلك جزءٌ من "فنِّ إبرام الاتفاقات"، وقال: "ينبغي لهم الاتصال بنا، وإذا فعلوا ذلك، فنحن مستعدون للتحدث إليهم". وهو بذلك يُكرِّر عرضه الذي قدمه أثناء مؤتمرٍ صحفي آخر في البيت الأبيض في يوليو/تموز من العام الماضي حين قال: "لا توجد شروط مسبقة. إذا أرادوا الاجتماع، سألتقي بهم. في أي وقت يريدون. فهذا أمر جيد للبلد، ولهم، ولنا، وللعالم كله".
تختم "سي إن إن" تقريرها بالقول: ينبغي لخامنئي أن يأمر روحاني بتلبية دعوة الاتصال بترامب. صحيحٌ أنَّ هذه المحادثات قد تنتهي بمأزقٍ آخر، لكنَّ وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف والمسؤولين الإيرانيين الآخرين يجب ألَّا يتجاهلوا كلمات ترامب ويعتبروها عروضاً فارغة. ففي ظل تعرُّض البلاد لـ "أسوأ ضغوط اقتصادية في السنوات الأربعين الماضية" وحربٍ سياسية "كاملة غير مسبوقة"، على حد وصف روحاني نفسه، ما الذي ستخسره؟ أمَّا ترامب، فما زال متفائلاً، إذ قال: "أنا واثقٌ من أن إيران ستريد التحدث قريباً".