دول عديدة أصبحت في حيرة، هل تختار أمريكا أم الصين، حتى حلفاء واشنطن وقعوا في هذا المأزق بسبب سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
يُعد رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، حتى وفقاً لمعايير إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ضيفاً مثيراً للجدل في البيت الأبيض. إذ يعتبره كثيرون في أوروبا مستبداً، لذا تجنَّب الرئيسان السابقان جورج بوش الابن وباراك أوباما استضافته بشدة.
لكنَّ أمريكا صارت تحت قيادة ترامب الآن. ومع تراجع مؤشر داو جونز الصناعي يوم الإثنين 13 مايو/أيار، بأكثر من 600 نقطة وسط جولةٍ جديدة من التعريفات الجمركية المتبادلة في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، استضاف ترامب أوربان في البيت الأبيض، وربما يكون أقل اهتماماً بشأن سياساته غير الليبرالية، وأكثر اهتماماً بإيجاد حليفٍ في معركته ضد بكين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
رغم أنه صديق لترامب ولكنه لن يستجيب لطلبه بالتخلي عن الصين
وذكر كين وينشتاين، رئيس معهد هدسون وهو مؤسسة فكرية مُحافِظة، لمجلة Politico الأمريكية أنَّ الصين هي السبب الأكثر إلحاحاً وراء زيارة أوربان، قائلاً إنَّ السبب الكامن وراء الزيارة هو "الصين على الأرجح، نظراً إلى علاقات أوربان مع الصينيين، ومحاولة الحصول على مزيد من التعاون بشأن هذه المسألة".
لكن على الرغم من بعض علامات التقارب الشخصي بين أوربان وترامب، فمن المرجح أن يخيِّب الأول آمال الأخير في التعاون معه ضدّ الصين. إذ نمت المجر تحت قيادته لتصبح أقرب إلى بكين في السنوات الأخيرة، في إطار مساعيها إلى الابتعاد عن الغرب، وتضمنت هذه المساعي أيضاً إقامة علاقاتٍ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
فتح ذراعيه لهواوي ومبادرة الحزام والطريق
إذ فتح أوربان بلاده أمام شركة هواوي الصينية العملاقة للاتصالات، وكان أول زعيم في الاتحاد الأوروبي يعرب عن دعمه مبادرة الحزام والطريق، وهي مبادرة استثمارات ضخمة دولية في البنية التحتية، برعاية الرئيس الصيني شي جين بينغ، تتعرض لانتقادات متكررة من واشنطن.
وفي الشهر الماضي أبريل/نيسان، زار أوربان بكين، حيث ذكرت وسائل الإعلام الصينية أنَّه قال إنَّ مبادرة الحزام والطريق "فرصة وليست تهديداً".
رغم أنه يفق مع ترامب في مواقفه العنصرية من الهجرة والدين
إذاً، هل ينبغي أن يصطفّ أوربان مع ترامب ضد الصين؟ إذ إنَّ المجر حليفةٌ للولايات المتحدة ضمن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فضلاً عن أنَّ رئيس الوزراء المجري صاحب اللهجة الحادة كان من أوائل أنصار حملة ترامب الرئاسية. وهو يتفق مع ترامب كذلك بشأن مجموعة من القضايا الدولية المثيرة للجدل، بما في ذلك الهجرة والدين.
وفي الوقت نفسه، تُمثِّل سياسات الصين التجارية الجائرة وانتهاكاتها الفاضحة لحقوق الإنسان وطموحاتها الجيوسياسية المثيرة للقلق مشكلةً للعديد من الدول في جميع أنحاء العالم. بالإضافة إلى أنَّ الولايات المتحدة هي القوة الاقتصادية الأكبر، وأنَّ معظم الخبراء يقولون إنَّ قدرة واشنطن على إلحاق الضرر بالاقتصاد الصيني أكبر من قدرة بكين على إيذاء الاقتصاد الأمريكي.
يبدو أنَّ أوربان يبقى على الحياد، ولكن ليس وحده
وفي الواقع، فالمجر ليست الحليفة الوحيدة للولايات المتحدة التي تحاول تجنُّب الانحياز إلى أحد طرفي الحرب التجارية.
وليس من الصعب معرفة السبب وراء ذلك، بالنظر إلى مقدار الخسائر التي قد تتكبَّدها هذه الدول الأخرى إذا انحازت إلى أحد الطرفين.
وإذا كان الأمريكيون يشعرون بالقلق من تعثر سوق الأسهم في الأسبوع الجاري، بسبب الحرب التجارية مع الصين، فمصير البلدان الأخرى التي لا تُعتبر عملاقة اقتصادياً مثل الولايات المتحدة قد يكون أسوأ بكثير إذا تخلَّت عن حيادها.
فالاستغناء عن التكنولوجيا الصينية الرخيصة ليس بالقرار اليسير
وبعض الدول مترددة للغاية في التخلِّي عن العلاقات الاقتصادية التي أقامتها مع الصين في السنوات القليلة الماضية. ولعل أبرز مثالٍ على ذلك هو شركة هواوي، التي تُمثِّل أهم جوانب القلق الأمريكي حيال النفوذ الصيني في المجر.
فصحيح أنَّ واشنطن تُحذِّر من المخاطر الأمنية لمنتجات شركة هواوي، لكنَّ تقنياتها ذات التكلفة المنخفضة مُستخدمة بالفعل في عدة دول حليفة للولايات المتحدة، وتجدر الإشارة إلى أنَّ الاستغناء عن الشركة قبل تطوير شبكات الجيل الخامس سيكلف العديد من البلدان تكلفةً باهظة، وحينئذٍ لن تُقدِّم الولايات المتحدة الكثير لتعويض هذه التكلفة.
بالإضافة إلى ذلك، تعرَّضت بعض الدول أيضاً لأضرار جانبية خطرة، بسبب التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب، إذ إنَّ بعض التعريفات التي تستهدف بكين، مثل تلك المفروضة على واردات الصلب والألومنيوم استناداً إلى حجة "الأمن القومي"، قد ألحقت أضراراً كبيرة ببعض حلفاء الولايات المتحدة.
وبدلاً من حشد حلفاء أمريكا المحتملين للتعاون معها في حربها ضد الصين، يتعرضون للعقاب تحت وطأة الإجراءات التجارية أحادية الجانب التي اتخذها ترامب.
هل تختار أمريكا أم الصين .. كندا تدفع الثمن
لكن إذا اشتدَّت هذه الحرب التجارية، فربما تجد هذه الدول نفسَها في نهاية المطاف عالقةً بين الطرفين. وقد اكتشفت كندا ذلك بالطريقة الصعبة، بعدما ألقت القبض على مينغ وانتشو، المديرة المالية لشركة هواوي، بناءً على مذكرةٍ أمريكية في ديسمبر/كانون الأول الماضي. إذ لم تكن عواقب هذه الخطوة ماليةً فقط، بل تحتجز الصين المواطنين الكنديين مايكل كوفريغ ومايكل سبافور منذ نهاية العام الماضي بتهمٍ مشكوك فيها بشدة.
وفضلاً عن ذلك، تحب إدارة ترامب التحدث بلهجةٍ حادّة عن التجارة والسياسة الخارجية. لذا فاللهجة الفظَّة للغاية، التي يُمكن القول إنَّها تتسم بكراهية الأجانب، ويستخدمها حلفاء ترامب وموظفوه الكبار ضد الصين، ربما تكون نفَّرت بعض الحلفاء بعيداً، لاسيما أنَّ الإدارة الأمريكية توشك على الدخول في نزاعاتٍ في إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية.
وحلفاء ترامب يعانون من تقلباته
غير أنَّ الأسباب التي قد تُقلق حلفاء أمريكا لا تقتصر على ميول إدارة ترامب إلى النزاعات والحروب، بل تشمل كذلك ميولها غير المتوقعة إلى الحلول السلمية. ومنذ أسبوع واحد فقط، كان معظم العالم يتوقع أن يقبل ترامب، الذي يُحب الصفقات، اتفاق تهدئة من جانب الصين. ولكن الآن، عادت الحرب التجارية وصارت أشد من أي وقت مضى.
ويبدو أنَّ السبب الأكبر وراء تراجع ترامب عن موقفه المتوقع كان بطء الصين في التفاوض، لكنَّ بعض النقاد يعتقدون كذلك أنَّ ترامب يستعد للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في العام المقبل 2020، اعتقاداً منه بأنَّ الصين يمكن أن تصبح قضيةً رئيسية حينئذٍ في المعركة ضد منافسه الديمقراطي. فهل من الممكن أن يتراجع ترامب مرة أخرى، أم هل ينبغي أنَّ يتعرَّض الاقتصاد الأمريكي لضربةٍ أكبر، أم هل يجب أن تتغير الحسابات السياسية بطريقةٍ أخرى؟
وفي هذا السيناريو، قد تتحسن علاقات بكين مع واشنطن، لكنَّ حلفاء أمريكا الأصغر قد يظلون عرضةً للخطر (مثل كندا). وحتى لو تمسَّك ترامب بموقفه المتشدد تجاه الصين، فقد يفشل في الفوز بولايةٍ رئاسية ثانية، ومن غير الواضح مَن سيحل محله، وما هي سياسته تجاه الصين.
وقد يُجدي هذا العجز عن التنبؤ نفعاً في مفاوضاتٍ ثنائية معقدة، لكنَّه لا يُشجِّع إقامة تحالفات. وبالنظر إلى هذه الظروف، فليس من الغريب أن يظل الحلفاء الأضعف خارج هذه الحرب.
وقد أشار نيل إيروين، المُراسل لدى صحيفة The New York Times الأمريكية، في مقالةٍ كتبها في نهاية الأسبوع الماضي، إلى أنَّ "نظام التجارة العالمي المتشعب خلق حاجةً ملحة جديدة إلى محاولة الإمساك بالعصا من المنتصف".
وبالنسبة لبلدٍ صغير مثل المجر، وهو بلدٌ "هشٍّ ومُهدَّد" بسبب حجمه، على حد تعبير أوربان، قد يكون الخيار الأفضل هو عدم الانحياز إلى أحد الجانبين، بل الانتظار ورؤية ما يمكنه انتزاعه من كلا الطرفين في حرب مزايدة. وبالفعل حصل أوربان هذا الأسبوع على لقاء في البيت الأبيض مع ترامب قبل انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة، وهذا شيء جيد بالنسبة له.
صحيحٌ أنَّ هذه السياسة التي تُفضِّلها المجر تتعارض مع المصالح الأمريكية، لكن من يستطيع أن يلوم أوربان؟ فحتى ترامب نفسه ربما يُقدِّر البجاحة، إذ قال للصحفيين في البيت الأبيض اليوم إنَّ رئيس الوزراء المجري "ربما يكون مثيراً للجدل بعض الشيء مثلي، لكن لا بأس في ذلك".