قصة غريبة لقرية ألمانية بالكامل وسط دولة في وسط آسيا يدين أهل هذه القرية بالديانة المسيحية بين شعب أغلبه مسلم، فيما يمارس أهل هذه البلدة معتقداتهم الدينية دون أي تضييق، لكن رغم ذلك يبقى هناك ما ينغصّ عليهم حياتهم.
صحيفة The New York Times الأمريكية رصدت طريقة العيش في هذه القرية التي فرّ أهلها من بطش الكنيسة المسيحية الألمانية قبل قرون واستوطنوا في قرغيزستان الدولة المسلمة التي كانت تتبع الاتحاد السوفييتي في السابق.
وتنطلق حافلة بيضاء متهالكة صباح كل يوم أحد في الشارع الرئيسي لأحد أكثر مناطق العالم المسيحي غرابة وبُعداً في العالم الإسلامي.
رحلة طويلة بدأت قبل نصف قرن
ولا تقطع الحافلة سوى بضع مئات من الأمتار، لكنها تواصل رحلة طويلة شاقة بدأها قبل حوالي 500 عام مسيحيو الطائفة المينوناتية الناطقون بالألمانية، فراراً من الاضطهاد في أوروبا. وبعد نجاتهم من بطش الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي من بعدهما، أصبح مجتمعهم اليوم في آسيا الوسطى محدوداً وآخذاً في التقلص، لكنه وبخلاف التوقعات لا يزال قائماً.
معقلهم الرئيسي هو قرية روت فرونت، أو الجبهة الحمراء، وهو الاسم الذي أُطلق عليها في الحقبة السوفييتية وهي قرية أنيقة مكونة من شارعين وتقبع عند سفح جبال تيان شان في قيرغيزستان، الدولة ذات الأغلبية المسلمة التي تتمتع بمناظر طبيعية خلابة ويسودها فقر مدقع بدأ مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وتُعتبر روت فرونت، التي كانت تُعرف باسم بيرغتال، أو وادي الجبل، أبعد المناطق من جهة الشرق التي اتجه إليها أعضاء الطائفة المينوناتية بعد هجرتهم الجماعية من أوروبا، التي فرّقت أيضاً المسيحيين في اتجاه الغرب إلى أمريكا الشمالية والجنوبية.
عاش المجتمع الألماني في روت فرونت لأجيال في عالم مغلق يتحدث الألمانية فقط، ويغلب عليه الطابع الديني، وينبذ الأجهزة الدخيلة الحديثة مثل التلفاز. ولا يزال يخشى الغرباء، ولكن مع بدء هجرة السكان إلى ألمانيا في التسعينيات، وبدء أولئك الذين تركوهم وراءهم في استخدام الهواتف المحمولة، تزايد تفاعل هذا المجتمع مع العالم الخارجي.
ومن أصل أكثر من 1000 شخص تضمهم القرية، لم يتبق سوى 10 أسر ألمانية. إذ أغلق المخبز الألماني أبوابه منذ سنوات وألغت المدرسة الابتدائية المحلية دروس اللغة الألمانية الإلزامية. وأصبح التعليم بكامله الآن باللغتين القيرغيزية والروسية.
ذهب كل شيء وبقيت حافلة الأحد
لكن حافلة صباح الأحد من كل أسبوع تساعد سكان هذه القرية على الحفاظ على هُويتهم ودينهم.
ويقود نيكولاي بولس، ميكانيكي السيارات الألماني الأصل، الذي رحل معظم أشقائه الـ11 إلى ألمانيا، الحافلة التي تقل المصلين- وهم مزيج من المينوناتيين الألمان من خارج منازلهم وتتوقف أمام أكبر بناء في القرية، وهو عبارة عن قاعة صلاة تزينها آيات الكتاب المقدس المكتوبة باللغتين الألمانية والروسية القديمتين، وبالخط القوطي، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وقالت إيرينا بولس، زوجة سائق الحافلة والمنشدة في جوقة الكنيسة، إنها وزوجها كانا يعتزمان الانتقال إلى ألمانيا قبل سنوات لكنهما بقيا لأن أبناءهما الخمسة لا يريدون الابتعاد عن أصدقائهم.
وقالت إن قرار الرحيل "مسألة مؤلمة للغاية".
وهي كثيراً ما تزور أقارب لها في ألمانيا، حيث يعيش الآن تسعة من إخوتها الـ 11، ويعجبها النظام والأناقة التي يتسم بها الألمان. وقالت: "يظننا الناس هنا في قرغيزستان مجانيين لأننا نشذب العشب".
وقد رحل ثلاثة من أبنائها البالغين إلى ألمانيا، وتشعر بالقلق إزاء فرص زواج الابنتين اللتين ما زالتا في روت فرونت. إذ نادراً ما يتزوج المينوناتيون من أناس يعتنقون ديانات أخرى، قالت السيدة إيرينا إنها تود أن يتزوج أبناؤها من مواطنين من أصول ألمانية مثلهم.
وقالت إيرينا (56 عاماً): "لا يزال هناك خط فاصل بيننا. الألمان على هذا الجانب، والقرغيز على الجانب الآخر".
وأوضحت أن العثور على أزواج وزوجات مناسبين لأبنائها الباقين يزداد صعوبة لأن الهجرة تستنزف العرسان والعرائس المناسبين الذين يعتنقون ديانة أسرتها ويتحدثون لهجة البلوتديتش، وهي إحدى لهجات اللغة الألمانية الدنيا.
قصة هذه القرية
ويتبع كل من المينوناتيين والأميش نهج الأنابابتست أو تجديدية العماد، وهي حركة إصلاحية تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي نبذت تقاليد الكنائس الرومانية الكاثوليكية والبروتستانتية. ويتشاركان الالتزام بالهدوء والحياة البسيطة، بحسب الصحيفة الأمريكية.
بدأ المينونايت الألمان الذين استقروا في قيرغيزستان رحلتهم شرقاً في أوائل القرن السادس عشر قادمين من المنطقة التي تُعرف الآن بشمال هولندا.
وبعد أن استقروا أولاً في غرب بروسيا، وهي الآن جزء من بولندا، انتقلوا إلى أوكرانيا التي كانت تسيطر عليها روسيا في القرن الثامن عشر، ثم إلى قيرغيزستان، واستقروا أولاً في الغرب ثم في الأراضي الزراعية الخصبة في وادي تشوي شرق العاصمة بيشكيك.
وقد فقدت معظم قراهم الجديدة أسماءها الألمانية الأصلية. أما الأسماء الألمانية التي استمرت فقد فرضتها موسكو على القرى وحوّرها السوفييت قليلاً، مثل اسم روت فرونت.
ومن أصل ما يقرب من 100 ألف من السكان ذوي الأصول الألمانية الذين كانوا يعيشون في قرغيزستان عندما انهارت الإمبراطورية السوفييتية في عام 1991، لم يتبق سوى 8300 شخص.
وفي روت فرونت، رافقت الهجرة إلى ألمانيا موجة من الوافدين الجدد، ومعظمهم من قيرغيزستان بالإضافة إلى عدد قليل من الغربيين، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وقد اشترى مسيحي كندي ثلاثة منازل بناها الألمان، وحولها إلى ملجأ للأيتام القيرغيز، ودار ضيافة ومزرعة.
لا ينتمي المُعلم ويلهلم لاتيغان إلى الطائفة المينوناتية، وقد جاء إلى روت فرونت من ألمانيا ضمن برنامج حكومي للترويج للغة الألمانية. وكان ينوي البقاء لعام أو ما إلى ذلك، لكنه بعد مرور ما يقرب من عقد من الزمان، لا يزال هنا. أنشأ لاتيغان متحفاً صغيراً تكريماً للإرث الألماني المتلاشي في القرية.
وفي المُصلَّى -الذي بُني عام 1987، بعد أن خفف الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف القيود على الدين- تجلس المُصليات على جانبٍ، بينما يجلس أزواجهن وآباؤهن وأبناؤهن على الجانب الآخر.
الحياة بين المسلمين
يختلط الألمان والقيرغيزيون باستمرار في الصلوات، والمدارس، والعمل في الحقول التي يزرع فيها السكان غذاءهم ويربون ماشيتهم. تعتبر اللغة الروسية هي لغة التواصل في الغالب، إذ إنها اللغة التي يتحدثها الجميع بطلاقة.
ويوجد مسجد أيضاً في القرية، لكنه أصغر بكثير من مُصلَّى الطائفة المينوناتية.
بعد أداء إحدى صلوات الأحد مؤخراً، وثب الأطفال الألمان والقيرغيزيون معاً في فرحٍ بطول الشارع الرئيسي، وكانوا يتحدثون بالروسية. قالت لوتي شميت (12 عاماً)، إنها اشتاقت إلى أصدقائها الذين انتقلوا إلى ألمانيا لكنها مازالت تريد لعائلتها أن تبقى في روت فرونت.
وحتى هؤلاء الذين غادروا مازالوا يعودون بانتظام في زيارات.
لا يزال أدولف كوب، الذي انتقل إلى ألمانيا في 2001، يحتفظ بالمنزل الذي بناه هو وزوجته عام 1958 في روت فرونت، وعاد مؤخراً مع ابنه وزوج ابنته لينفذوا بعض الإصلاحات.
قال كوب: "أشعر بملل كبير في ألمانيا، وأشتاق إلى كل أصدقائي هنا".
بالرغم من ذلك، لم تكن جميع ذكرياته في روت فرونت مبهجة على الدوام. إذ إن أباه، الذي كان يرأس المزرعة الجماعية للقرية التي تعود إلى العهد السوفيتي، أُلقي القبض عليه وأُعدم في ذروة الإرهاب الكبير لستالين في 1938، بحسب الصحيفة الأمريكية.
نتيجةً للغزو الألماني النازي للاتحاد السوفييتي عام 1941، اعتُبرت الإثنيات الألمانية أعداءً للشعوب. أُرسل أغلب السكان البالغين في روت فرونت إلى معسكرات العمل، تاركين وراءهم الأطفال الألمان ليُعيلوا أنفسهم بأنفسهم، وفي الغالب بمساعدة السكان المحليين من القيرغيزيين، الذين آووهم وأطعموهم في الجبال.
إشكالية العيش في ألمانيا
حطمت تجارب زمن الحرب كثيراً من عوائق الثقافة واللغة التي فرَّقت في الماضي بين الألمان والسكان الأصليين من القيرغيزيين. وصعَّبت أيضاً على الألمان الذين نجوا من الحرب في روت فرونت أن يجدوا راحة في ألمانيا.
حتى أن أبناءهم أيضاً يمكنهم أن يجدوا إشكالية في العيش في ألمانيا.
قال أندريه كيلر، صاحب الـ 59 عاماً ذو الأصول الألمانية الذي وُلد وتربّى في روت فرونت، إنه حاول الانتقال إلى ألمانيا في 2001، لكنه لم يستطع العثور على وظيفة وعاد إلى القرية القيرغيزية بعد 18 شهراً فقط.
وأوضح أنه، مثل كثيرين، أغرته وعود الحياة اليسيرة في أوروبا، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وأضاف: "الجميع يريدون قيادة سيارة مرسيدس حديثة، وتناول النقانق الكبيرة. لكني لم أكن معتاداً على تناول النقانق الكبيرة. الحياة هناك كانت مريحة، لكني لم أستطع التعود عليها. البشر يحتاجون إلى أشياء قليلة جداً ليكونوا راضين. ومثلما كانت أمي تقول: "تحتاج إلى القليل جداً كي ترضى، ومن يرضى يكون ملكاً". البشر لن يكون لديهم ما يكفي من كل شيء أبداً. عليك أن تكون سعيداً حيث أنت. إذا لم يكن هناك حرب، فما الذي أريده أكثر من هذا؟".
قال كيلر: "ألمانيا ليست بلدنا. بلدنا حيث وُلدنا، فهذا هو وطني. وهنا وتربيت".