من أجل فهم استراتيجية الرياض الجديدة في نيودلهي، ليست هناك حاجة للنظر إلى ما هو أبعد من المحاولة الأخيرة لشركة النفط السعودية التي تديرها الدولة (أرامكو) لشراء ما يصل إلى 25% من أكبر مصفاة هندية –بل هي في الواقع أكبر مصفاة في العالم- من شركة Reliance Industries، بحسب مجلة Foreign Policy الأمريكية.
وتحاول كل من الهند والسعودية طيّ صفحة القضايا التي فرَّقت بينهما، بما في ذلك الدعم السعودي التاريخي لباكستان في أفغانستان وكشمير، وتكوين شراكة تكتيكية جديدة من أجل الإدارة الفعَّالة للتجارة والاستثمارات الثنائية المتزايدة بين مركز الثقل في مجلس التعاون الخليجي وما قد يكون قريباً ثالث أكبر اقتصادٍ في العالم.
النفط هو أكبر ما يربط السعودية والهند، ومن المرتقب أن يرتفع مع العقوبات الأمريكية على طهران
يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الرياض ونيودلهي حالياً 28 مليار دولار، يتمثَّل أساسها في براميل النفط الـ800 ألف تقريباً التي تستوردها الهند من السعودية يومياً، بحسب مجلة Foreign Policy الأمريكية.
ومن المؤكد زيادة هذا الرقم في ظل ضغط الإدارة الأمريكية تحت حكم الرئيس دونالد ترامب على مستوردي النفط الإيراني، حيث تُعَد الهند ثاني أكبر زبون لإيران، ولن تحب السعودية شيئاً أكثر من التهام الحصة السوقية لخصمتها.
السعودية تعلم أن الهند مقبلة على احتياجات أكبر من الطاقة في السنوات المقبلة
وبالتالي من المنطقي أن تفكر شركة أرامكوا السعودية في استثمارات كبيرة النطاق في صناعة التكرير والبتروكيماويات الهندية لإقامة موطئ قدم دائم هناك. ففي نهاية المطاف، ستتزايد احتياجات الهند من الطاقة في السنوات المقبلة، والأمر نفسه ينطبق على قدرتها على استيعاب مشروعات كبيرة الحجم لتلبية تلك الاحتياجات.
تهدف "أرامكو" لأن تصبح رائدة في مجال التكرير والصادرات
وتُظهِر تحرُّكات أرامكو في الهند أنَّها لم تَعُد محصورة في دورها التقليدي المتمثل في مجرد تلبية احتياجات الهند من الطاقة. بل تهدف أرامكو لأن تصبح رائدة في مجال التكرير والصادرات.
ولتحقيق هذا الهدف، تسيطر الشركة بالفعل على أكبر مصفاة في الولايات المتحدة في مدينة بورت آرثر بولاية تكساس.
وفي فبراير/شباط الماضي، وقَّعت على مشروعٍ مشترك بقيمة 10 مليارات دولار مع المجموع الدفاعية الصينية Norinco لإقامة مجمع بتروكيماويات وتكرير شمال شرقي الصين. ويتناسب استثمارها في قطاع الطاقة الهندي مع محفظة متنامية من استثمارات الشركة في آسيا.
في الوقت نفسه، ومن منظورٍ هندي، يُعَد إحضار شركة أرامكو السعودية لتكون شريكاً في الطاقة مجرد قطعة واحدة في لعبة الصور المتقطِّعة الأكبر مع الرياض.
إذ يُشكِّل المواطنون الهنود أكبر جالية للمغتربين في السعودية. ويرسل هؤلاء المواطنون، الذين هم بالأساس من العُمال ذوي الياقات الزرقاء، ويُشكِّلون العمود الفقري لصناعة البناء والتشييد، إلى بلدهم الأهم 11 مليار دولار تقريباً سنوياً.
وفي عام 2014، وفي إشارة على نضوج العلاقات، وقَّعت نيودلهي والرياض اتفاقية لإدارة عملية التوظيف والاحتياجات الاجتماعية لأكثر من مليوني عامل هندي في المملكة.
في نفس الوقت تقيم السعودية علاقات مع باكستان التي لديها مشاكل كبيرة مع الهند
ولعقود، وفي ظل محاباة السعودية لباكستان في صراعاتها الجيوسياسية في شبه القارة الهندية، بدت علاقات المملكة مع الهند في كثيرٍ من الأحيان في إطار المصلحة وليست متجذرة في أي مجموعة من القيم المشتركة.
ومع أنَّ الرياض لا تدير بأي شكلٍ من الأشكال ظهرها لحليفتها طويلة الأمد –إذ تعهَّدت مؤخراً ببناء مصفاة بقيمة 10 مليارات دولار في ميناء غوادار الباكستاني- فمن الواضح أنَّها ستوازن تلك العلاقات بعلاقاتٍ أقوى مع الهند.
ويُعَد الاقتصاد الهندي أكبر بسبعة أضعاف من الاقتصاد الباكستاني، والفرص هناك أكثر ربحية بكثير. وتعتقد الرياض بوضوح أنَّه لا يوجد تعارض في أن يكون لديها علاقات اقتصادية قوية مع كل من نيودلهي وإسلام أباد.
وبالنسبة للهند، فبعدد سكانها المسلمين البالغ 200 مليون نسمة (وهو ثالث أكبر عدد للسكان المسلمين في دولة بالعالم)، ستجلب الصداقة مع السعودية بالتأكيد شرعية كذلك. ومن المؤكد أنَّ الهند لديها عملية التوازن الخاصة بها؛ إذ كانت تاريخياً أقرب بكثير إلى إيران، التي تُطوِّر معها ميناء جابهار جنوب شرقي إيران.
العقوبات الأمريكية على طهران تصب في مصلحة العلاقات السعودية الهندية
لكن في ظل دفع الضغط الأمريكي لنيودلهي بعيداً عن طهران، سيكون عليها أن تبحث في مكان آخر عن الطاقة والاستثمارات.
وفي حال تغيَّر الموقف الأمريكي من إيران بمجيء إدارة أمريكية مختلفة بعد انتخابات 2020، قد تعيد الهند موازنة علاقتها.
مع ذلك، يصعب تصوُّر أن تمتلك إيران الآن أو المستقبل المنظور الموارد المالية الكافية للقيام بتلك الاستثمارات التي يمكن للرياض القيام بها في مجال البنية التحتية الطاقوية في الهند.
وبحلول الوقت الذي تخرج فيه إيران من دائرة العقوبات، سيكون لدى السعودية "ميزة المبادر الأول" كبيرة في شبه القارة الهندية وستجعل نفسها جزءاً لا يتجزأ من النظام البيئي الطاقوي في جنوب آسيا.
وفي السنوات المقبلة، ستواجه أرامكو السعودية منافسة شديدة في الأسواق التي كانت تسيطر عليها في ظل مد الولايات المتحدة وروسيا صراع القوى الكبرى بينها ليشمل مجال الطاقة. وستحتاج شركة النفط إلى الاستفادة من زبائنها الحاليين وتقديم أكثر من مجرد النفط الخام. ودخولها إلى السوق الهندية المُربِحة هو إشارة إلى أنَّها تشرع في عمل هذا.
ويصب صراع القوى الكبرى الذي يحدد شكل القرن الحادي والعشرين في مصلحة الهند. فثقلها الاقتصادي وطبقتها الوسطى المتنامية يجعلانها مستهلكاً للطاقة لا يُقدَّر بثمن ليس فقط بالنسبة للخصمين الاستراتيجيين السعودية وإيران، لكن كذلك للولايات المتحدة وروسيا. وهذا يُبشِّر بالخير لمستقبل نيودلهي.