كان مشهد لاري فينك من شركة BlackRock، وجون فلينك من بنك HSBC، ودانيال بينتو من JPMorgan، في الرياض أمراً لا يمكن تصوره منذ 6 أشهر، وذلك لأن كبار المديرين التنفيذيين قد انسحبوا من مؤتمر استثمار "دافوس الصحراء" الذي عقدته السعودية في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018، وسط ضجة عالمية أحدثها مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
ظهور المستثمرين الكبار الأجانب بالسعودية لا يعني تعافي المملكة من آثار مقتل خاشقجي
ويشير هذا الظهور، الذي جاء بعد ساعات فحسب من إعلان السعودية أنها أعدمت 37 شخصاً، إلى أنَّ غمامة مقتل خاشقجي قد انقشعت، وأنَّ الرياض قد عادت إلى العلاقات الجيدة مع الشركات العالمية.
لكنَّ الواقع أكثر تعقيداً، فالشركات تعود إلى السعودية لكن على نحو فاتر، ولا تدل عودتها على ثقتها بالسعودية بقدر ما تدل على بحثها عن العوائد العالمية.
وأفضل مثال على ذلك بيع سندات شركة أرامكو السعودية، ذلك أنَّ الطلب على أول عرض تجاوز 100 مليار دولار، وهو ما سمح لـ "أرامكو" بجمع 12.5 مليار دولار.
إقبالهم على السعودية يبقى حذراً، ويستغلون الظروف الاستثنائية
وفي حين بإمكان المسؤولين السعوديين الترويج لهذا الطلب، باعتباره علامة على تجدُّد الثقة بالمملكة، فإنَّ إصدار سندات "أرامكو" يُظهر تعطش المستثمرين المؤسسيين إلى العائدات.
فمع بقاء أسعار الفائدة منخفضة في الأسواق المتقدمة، يلجأ المستثمرون إلى الأسواق الناشئة، لإشباع شهيتهم في تحقيق عوائد أعلى، وهو عامل كبير يدفعهم ناحية "أرامكو"، وهي الشركة الأكثر ربحية في العالم، إذ بلغ صافي دخلها 111 مليار دولار العام الماضي (2018).
ويؤكد حرص المديرين المصرفيين والماليين على العودة إلى الرياض ديناميكية مشابهة. إذ رتبت JPMorgan وHSBC، من بين آخرين، لبيع سندات "أرامكو"، وكلا البنكين رتَّب أيضاً إصدارات الديون السيادية للسعودية.
ونظراً إلى أنَّ الديون السيادية للخليج تشكل قرابة 25% من إصدارات الديون في الأسواق الناشئة الجديدة خلال السنوات الثلاث الماضية، فإن الخليج منطقة يشعر المصرفيون والمستثمرون بالتردد في تجاهلها، باستثناء الظروف الاستثنائية.
وعلاوة على ذلك، فإن شهية دول الخليج للديون السيادية لا تُظهر أي إشارة على التراجع، ومن المرجح أنهم سوف يستمرون في استغلال أسواق السندات الدولية، لسد العجز بالميزانية الناتج عن انخفاض أسعار النفط.
ويبقى الاستثمار المباشر في المملكة لا يتم بالشكل الذي يُرضي الرياض
ربما تعود البنوك إلى الرياض، لكنَّ الاستثمار الأجنبي المباشر يشير إلى أنَّ الشركات الأخرى لا تشارك البنوك حماستها؛ إذ تراجعت الاستثمارات إلى 1.4 مليار دولار عام 2017 بعد أن كانت 7.5 مليار دولار عام 2016، حيث تسببت المخاطر السياسية الناجمة عما يسمى حملة مكافحة الفساد التي شنها ولي العهد محمد بن سلمان، في إخافة المستثمرين.
وعلاوة على ذلك، فقد تباطأ عقد الصفقات بين السعودية والشركات الغربية قليلاً، إذ انسحبت كثير من الشركات من مشاريعها مع صندوق الاستثمارات العامة، وهو صندوق الثروة السيادي السعودي والأداة الاستثمارية الأساسية لرؤية 2030، وذلك بعد مقتل خاشقجي، وضمن ذلك Virgin Group لريتشارد برانسون. وبالإضافة إلى ذلك، لم تعلن عن أي صفقات كبيرة منذ مقتل خاشقجي.
وأكثر ما يخيف الشركات العالمية التي تنوي التعامل مع السعودية السمعة، خاصة بعد مقتل خاشقجي
وما تزال هناك مخاوف متعلقة بالسمعة بالنسبة للشركات التي تتعامل مع المملكة، التي من الممكن القول إنَّ سجلَّها في مجال حقوق الإنسان قد ازداد سوءاً منذ وفاة خاشقجي.
ففي شهر مارس/آذار 2019، بدأت المملكة محاكمات جنائية لناشطات بارزات بمجال حقوق المرأة، وضمن ذلك لُجين الهذلول، بزعم التواصل مع صحفيين أجانب، من بين تُهم أخرى. ووسَّعت السعودية أيضاً من مدى مناهضتها للمعارضة، فاعتقلت مواطنين أمريكيين مزدوجي الجنسية أوائل العام الجاري (2019).
وعلى الرغم من مخاوف كثير من الشركات، فمن غير الواضح ما إذا كان محمد بن سلمان يدرك، أو يهتم، بمدى خطورة الضربة التي وُجِّهت إلى صورة المملكة. ولذلك، ربما تواجه الشركات الغربية المتعاملة مع السعودية تحدياً عند محاولتها حماية سمعتها بعد كل موجة غضب جديدة.
وفي ظل هذه الظروف، من غير المرجح أن تحصل السعودية على كمية الأسهم التي تريد شراءها من مجتمع الأعمال. ربما يعود المديرون التنفيذيون إلى المؤتمرات، وربما يسعى المستثمرون وراء العوائد، لكن إلى أن تحصل السعودية على نوع الشراكات العميقة طويلة المدى، التي تحتاجها رؤية 2030، والتي بإمكانها تعزيز توظيف المواطنين السعوديين ونفع المجتمع السعودي، فإنَّ العمل لم يرجع بعدُ إلى المعتاد في الرياض.