لدى روسيا خطة لإعمار سوريا، وفي نفس الوقت استعادة الأموال التي أنفقتها، ولكن هذه الخطة تعثرت بسبب رفض الأسد عودة اللاجئين وتملصه من أي محاولات في هذا الشأن.
كانت الخطة الروسية محكمة وتحاول استغلال الأزمات التي سبَّبها تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا، ولكن رفضْ الأسد عودة اللاجئين أفسدت كل شيء، حسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
روسيا أنقذت الأسد
كانت لدى روسيا دوافع عدة عندما تدخَّلت في سوريا نيابة عن الرئيس بشار الأسد، في سبتمبر/أيلول 2015.
كان الكرملين يشعر بالتوتر من فقدان السيطرة على القاعدة البحرية في طرطوس، أهم أصوله الاستراتيجية في الشرق الأوسط، إذا أسقط الثوار المدعومون من الغرب النظام.
وعلى نطاق أوسع، كانت روسيا تأمل أنه من خلال إثبات أنها حليف للأسد يمكن الاعتماد عليه، ستكسب أوراق اعتماد بين الزعماء الاستبداديين الآخرين في المنطقة.
بعد أربع سنوات تقريباً، مع تخلي الثوار في الأغلب عن دعوات تغيير النظام وفقدانهم لمساحات شاسعة من معاقلهم، حققت روسيا معظم أهدافها قصيرة ومتوسطة الأجل في سوريا. يُظهر عددٌ متزايد من الإشارات أن موسكو تحول تركيزها الآن إلى هدف آخر: يرغب الكرملين في أن توفر له سوريا مكاسب مالية غير متوقعة.
والآن هي تريد جني الأموال من سوريا عبر عملية إعادة الإعمار
وفقاً لثلاثة سياسيين لبنانيين من تيارات سياسية متباينة، صار المال الآن هو المحفز الرئيسي لجهود السياسة الروسية في سوريا.
تود روسيا قبل كل شيء، استيعاب جزء كبير من المبلغ المقدر بحوالي 350 مليار دولار الضروري لإعادة إعمار سوريا، مما سيتيح لها تنويع اقتصادها القائم على موارد الطاقة، عبر تأمين عقود في مجموعة واسعة من القطاعات مثل بناء محطات توليد الطاقة وقطاعات البنية التحتية الأخرى.
وقال دبلوماسي بارز في الاتحاد الأوروبي، في حديثٍ إلى مجلة Foreign Policy الأمريكية: "روسيا تريد أموالنا لإعادة بناء سوريا، حتى تتمكن الشركات الروسية من الحصول على العقود". لم ينجح هذا الجهد حتى الآن، لأنه رغم انتهاء الحرب تقريباً، ما زالت جهود إعادة الإعمار الدولية بعيدة المنال، بسبب عدم تعاون سوريا إلى حد كبير.
وهاهي تستخدم اللاجئين كورقة لابتزاز الأوروبيين
ربما ستكون روسيا في موضع قوة بوضوح، للفوز بعقود إعادة الإعمار من سوريا، بالنظر إلى نفوذها السياسي على نظام الأسد. المشكلة هي أن سوريا تفتقر إلى المال، إلى جانب مصادر أخرى. حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استخدام اللاجئين السوريين ورقة للمساومة، وعرض تسهيل عودتهم إلى بلادهم في مقابل الحصول على مساعدة مالية غربية لسوريا.
في يونيو/حزيران الماضي في هلسنكي، وفي أغسطس/آب بالقرب من برلين، طلب بوتين من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دفع تكاليف إعادة الإعمار إذا كانوا يريدون عودة اللاجئين الذين تدفقوا إلى جميع أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا إلى ديارهم بالفعل، وتجنب موجة هجرة ثانية.
وشكلت لجان مشتركة لإعادة 1.7 مليون لاجئ على الأقل
ادعى بوتين أن 1.7 مليون لاجئ على الأقل يمكنهم العودة إلى سوريا في المستقبل القريب. أيضاً، أعلنت الحكومة الروسية أنها ستشكل لجاناً مشتركة مع الدول المستضيفة للاجئين مثل لبنان لتسهيل عودتهم.
وبعد مرور عشرة أشهر، أبلغت اللجان المشتركة عن إحراز تقدم ضئيل، ولم تكن هناك أي هجرة عكسية للاجئين تقريباً. باختصار، يبدو أن خطة موسكو لكسب أموال إعادة الإعمار من خلال إعادة اللاجئين إلى الوطن قد تفشل على الأرجح.
تشير الحوارات التي أجرتها مجلة Foreign Policy مع العديد من دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي، وسياسيين من البلدان التي تؤوي اللاجئين، ومحللين روس، إلى أن السبب الأكبر لهذا الفشل هو عناد الرجل الذي تدخلت روسيا لإنقاذه.
الخطة تعثرت بسبب رفض الأسد عودة اللاجئين
هناك إجماع متزايد بين المراقبين، في الغرب والشرق الأوسط، على أن الأسد لا يريد عودة اللاجئين المناهضين للنظام. ورغم عدم وجود بيانات رسمية، يُعتقد على نطاق واسع أن نسبة كبيرة من السوريين الذين أجبروا على الفرار من بلدهم، والبالغ عددهم 6 ملايين، يعارضون الأسد.
ولا يقتصر الموقف على رفض الأسد عودة اللاجئين، بل يقوم النظام بما هو أخطر تجاههم.
إذ يتعرضون لخطر مصادرة أملاكهم مع تزايد الدعوات لإسقاط الجنسية عنهم، في مؤشر على خطط الرئيس السوري بشار الأسد لتغيير الطبيعة الديمغرافية لسوريا.
ويسعى النظام من كل ذلك، إلى تحقيق هدفين: الأول سياسي وهو استبعاد اللاجئين وهم الفئة التي يفترض أنها الأكثر معارضة له.
والثاني طائفي، وهو إضعاف وزن الطائفة السنية باعتبار أن غالبية اللاجئين منهم.

ويشير موقع جنوبية الشيعي اللبناني إلى أن النظام السوري وحزب الله وغيرها من الميليشيات الشيعية التي تعمل تحت قيادة إيران قامت بحملات تطهير عرقي ممنهج في العديد من المناطق السورية، خاصة حول دمشق.
وسبق أن حذفت جريدة الأخبار اللبنانية الموالية لحزب الله، مقالاً للكاتب الأردني الراحل ناهض حتر، الصديق للنظام السوري، يقسم السوريين بين لاجئين ومقيمين، وقسمهم ما بين "إرهابيين" و "وطنيين" و "عبيد" و "مسلحين"، وهاجم اللاجئين معتبراً أن الأفضلَ بقاؤهم في الخارج.
وتتوقع مؤسسات دولية أن النظام لن يقبل بعودة اللاجئين حتى بعد انتهاء النزاع، عكس مع حدث في دولة أخرى كالبوسنة والعراق، ما يشير إلى أن أحد خياراته هو إسقاط الجنسية عن اللاجئين السوريين.
إذ إن النظام حريص على عدم عودة اللاجئين لتغيير طبيعة سوريا الديمغرافية للأبد، باعتبار أن أغلب اللاجئين من السنة، حسبما يشير تقرير لمركز كارنيغي.
اللاجئون في لبنان يريدون العودة، ولكن المخابرات ترفض
لنأخذ حالة السوريين الراغبين في العودة من لبنان، الدولة التي تستضيف 1.5 مليون سوري، وهي دولة صديقة للأسد مقارنة بتركيا أو أوروبا. حتى من هناك، ترفض حكومة الأسد باستمرار عودة السوريين، دون تقديم أي تفسير رسمي في العادة.
في إطار عملية الإعادة إلى الوطن، تجهز المديرية العامة للأمن العام في لبنان قائمة بأسماء السوريين المستعدين للعودة، وتشاركها مع نظرائها في المخابرات السورية. لا يحصل على حق العودة إلا أولئك الذين يسمح لهم النظام.
وقال معين المرعبي، وزير الدولة لشؤون النازحين في لبنان حتى يناير/كانون الثاني من هذا العام، وهو مؤيد لرئيس الوزراء السني سعد الحريري، إن حقيقة أن الحكومة السورية طلبت هذه القائمة هي مؤشر على عدم استعداد الأسد لقبول اللاجئين، مضيفاً: "كيف يمكنهم تفسير سبب طلبهم لقائمة العائدين؟ إنهم لا يسمحون لأي شخص بالعودة دون موافقة من المخابرات (المخابرات السورية)، هل من المنطقي أن يحتاج السوريون في لبنان إلى إذن للعودة إلى بلدهم؟".
وقال المرعبي إنه خلال فترة وجوده في منصبه، كان الفرق بين أرقام من تقدموا بطلب للعودة وبين أولئك الذين استطاعوا أن يعودوا في النهاية، هائلاً، مضيفاً: "لقد أخبرني مسؤولو الأمن العام لدينا أنه عندما أُرسلَّت قائمة تضم 5000 سوري، قُبل منهم ما بين 60 إلى 70 شخصاً في المتوسط".
حتى حلفاؤه في لبنان يستغربون ما يفعله مع اللاجئين
آلان عون، وهو نائب برلماني عن التيار الوطني الحر، حزب الرئيس اللبناني ميشال عون، وحليف سياسي لحزب الله، والأكثر تساهلاً بشكل عام حول الأسد، ينتمي إلى الشق الآخر من الانقسام السياسي في مواجهة المرعبي. ومع ذلك، فقد أيد تقييمه، وقال إن حكومة الأسد لا تبدو مهتمة كثيراً بعودة شعبها.
وقال: "النظام السوري لا يفعل أي شيء لاستعادة اللاجئين"، واستشهد عون بلقاء مع الكاردينال بول غالاغر، وزير خارجية الفاتيكان، التي أبدت اهتماماً وثيقاً بقضية اللاجئين، لإثبات موقفه قائلاً: "أخبر غالاغر وفداً لبنانياً زاره، أن الأسد لن يستعيد أبداً الملايين الذين فروا". ويمثل وضع اللاجئين في سوريا مشكلة كبيرة ليست فقط قلة موارد لبنان وضيق مساحته، ولكن بسبب الحساسية الطائفية في البلاد فيما يتعلق بانقسام البلاد الطائفي.

إذ يثير وجود هذا العدد من السوريين مخاوف المسيحيين اللبنانيين وكذلك الشيعة من أنه يُميل كفة التوازن السكاني في البلاد لصالح السنة، وهذه المخاوف كانت من أسباب اندلاع الحرب الأهلية في البلاد في السبعينيات جراء الوجود الفلسطيني.
ورغم أن حلفاء النظام السوري من الشيعة والمسيحيين هم الأكثر قلقاً من مشكلة وجود اللاجئين السوريين في البلاد، إلا أن النظام لا يعير قلقهم انتباها.
واتفق أربعة دبلوماسيين غربيين على الأقل على التصور نفسه في حديثهم إلى مجلة Foreign Policy.
خطة بوتين.. اللاجئون مقابل الأموال
أدركت روسيا، على نحوٍ صائب أن ارتفاع عدد اللاجئين السوريين وغيرهم ممن وصلوا إلى دول الاتحاد الأوروبي في السنوات الخمس الماضية قد ولَّد ضغطاً سياسياً داخلياً، بما في ذلك صعود الأحزاب الشعبية واليمينية المتطرفة.
ويبدو أن بوتين يعتقد بقدرته على ترتيب مقايضة: تخفيف عقوبات الاتحاد الأوروبي وحتى تقديم مساعدات لإعادة الإعمار، وستصبح سوريا في المقابل مكاناً أكثر جاذبية يمكن للاجئين العودة إليه.
إذا سمح الأسد لعدد صغير فقط من اللاجئين بالعودة، فسيكون من الصعب على حكومات الاتحاد الأوروبي تبرير رفع العقوبات، ناهيك عن إنفاق أموال دافعي الضرائب على مشروعات إعادة الإعمار.
علاوة على ذلك، كما قال دبلوماسيان، من المتوقع أن يصل جزء كبير من هذه الأموال إلى جيوب روسية.
والأسد اكتفى بإطلاق سراح بضع مئات من شهادات الوفاة
هناك انقسام في الاتحاد الأوروبي على أي حال حول أخلاقية مثل هذا الترتيب، لكن جميع الأطراف تتفق، علناً على الأقل، على أنه يتعين على روسيا انتزاع ضمانات سلامة اللاجئين، وفي الحد الأدنى بعض الوعود بالإصلاحات السياسية.
ومع ذلك، فقد حصلت روسيا على تنازلات قليلة من الأسد، بخلاف الإفراج عن شهادات وفاة بضع مئات من المعتقلين من عشرات الآلاف الذين يُزعم أنهم قُتلوا في سجون الحكومة، ولا شيء يتعلق بضمانات سلامة العائدين أو التغيير السياسي الحقيقي.
لقد كانت روسيا تأمل في إقامة نظام طائفي في سوريا على غرار لبنان
يقول محللون روس إن موسكو كانت تتصور في الأصل ترتيباً لتقاسم السلطة على أساس طائفي، على غرار لبنان، بين الحكومة السورية وعدة جماعات معارضة باعتباره الحل الأمثل للنزاع.
لكن روسيا لم تستطع إقناع النظام ولا الثوار بالتسوية وتخلت عن الخطة. الآن قلصت طموحاتها وتركز على استخدام نفوذها مع الأسد، للاتفاق على لجنة دستورية عيّن النظام والمعارضة وممثلون عن المجتمع المدني السوري أعضاءها.
وقال ماكس سوكوف، وهو محلل روسي، إن موسكو قد تحقق إنجازاً أكثر بقليل فيما يتعلق بالتسوية السياسية، مضيفاً: "روسيا ليست متفائلة للغاية بشأن التوصل إلى تسوية سياسية ترضي جميع الأطراف السورية، أعتقد أن روسيا اقتنعت بأن سوريا ستظل دولة مركزية، لكن هذا بالتأكيد يجعل من الصعب إقناع الاتحاد الأوروبي بالدفع مقابل إعادة الإعمار".
أمل أبو زيد ممثل وزارة الخارجية اللبنانية الرسمي في لجنة الإعادة الروسية-اللبنانية، وهو شخص معروف بقربه من روسيا، قال إنه ينبغي على الغرب تخفيض سقف توقعاته، مضيفاً أن الأسد انتصر في الحرب، وليست المعارضة.
وتابع: "لقد استرد الأسد أكثر من 80% من الأراضي في سوريا، مما يعني أن ما قد قُبل في العام الماضي، قد لا يكون مقبولاً لدى الحكومة الآن، بينما يعبر الآخرون عن رأيهم، فإن له اليد العليا في إملاء الشروط".
على الرغم من اعترافه بأن المبادرة الروسية فشلت في الانطلاق، فقد ألقى باللوم على العناد الأمريكي. حافظت الولايات المتحدة على موقف قوي معادٍ للأسد. ولإغراء أمريكا للتعاون، ألمح أبوزيد إلى أن موسكو اقترحت أن تتعاون الشركات الروسية والأمريكية بنشاط في البحث عن الفرص في سوريا.
وقال: "في النهاية، الروس موجودون على الأرض في سوريا، والأمريكيون يفهمون ماذا يعني ذلك، يمكن أن يكون هناك اتفاق بين الاثنين. أنا لا أستبعد إمكانية أن يكتبا عقوداً مشتركة".
والآن أنظار روسيا تتجه صوب أموال الدول الخليجية
تصر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الانتقال السياسي كشرط مسبق للعودة للمشاركة في إعمار سوريا، لكن أبو زيد كان متفائلاً بأنه إذا لم يكن الغرب مستعداً لضخ الأموال، فإن روسيا ستقنع الدول العربية.
وقال إن روسيا ضغطت بقوة على دول الخليج لإلغاء تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، وتمهيد الطريق أمام دولارات نفطهم كي تُعيد بناء سوريا.
لم يقبل الغرب ولا العرب حتى الآن على الإغراءات الروسية بالمشروعات المشتركة وتقسيم غنائم الحرب.
وعلى الجانب الآخر، قال مصدر دبلوماسي يزور سوريا كثيراً، إن من الواضح أن نظام الأسد ليس في مزاج لتقديم تنازلات، وإن أي تغييرات سياسية أخرى ستكون تجميلية. وهكذا تظل روسيا عالقة في انتظار حدوث مفاجآت مالية، قد لا تصل أبداً.