في 4 أبريل/نيسان، شن اللواء العسكري المتقاعد خليفة حفتر، قائد قوات "الجيش الوطني الليبي" هجموماً ضد حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة في العاصمة الليبية طرابلس. وحتى 21 أبريل/نيسان، تسبب الهجوم في قتل ما لا يقل عن 227 شخصاً، وجرح أكثر من 1100 شخص، وتسبب في تهجير 30 ألف شخص، حسب منظمة الصحة العالمية.
لكن العملية العسكرية التي يقودها حفتر لم تحقق الهدف المرجو منها بالرغم من نشره ما كان يُعتقد أنهم جنود أقوياء وأسلحة حديثة. ففي واقع الأمر، لم تعد القوات التي تدافع عن العاصمة في وضع دفاعي وبدأت في الاضطلاع بعمليات هجومية في جنوب طرابلس وجنوب غربها، حيث تتركز قوات الجيش الوطني الليبي.
يقول عماد حرب، مدير قسم البحوث والتحليل بالمركز العربي في واشنطن، في مقالة كتبها بموقع Lobe Log الأمريكي، إن اللواء حفتر يبدو مُصراً على تصديق أنه "الوحيد القادر على قيادة البلاد وإخراجها من غياهب الظلمات التي انتشرت في البلاد خلال الأعوام القليلة الأخيرة".
على الصعيد السياسي، أدى هجوم حفتر على طرابلس إلى الإجبار على تأجيل المؤتمر الوطني الليبي الذي يحظى برعاية أممية إلى أجل غير مسمى بعد أن كان من المقرر عقده في 14 أبريل/نيسان في مدينة غدامس. وفي واقع الأمر، جرى الاتفاق على الاجتماع في أبوظبي في 27 فبراير/شباط عندما دُعي حفتر وفايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني من أجل مناقشة الترتيبات السياسية المستقبلية. وكان ما أسفر عنه هذا اللقاء اتفاقٌ على عقد المؤتمر الذي كان تمهيداً لعقد انتخابات واستفتاء على دستور جديد.
وفي ظل تطورات الأحداث منذ 4 أبريل/نيسان، يبدو أن اللواء حفتر ارتأى أن هذه الترتيبات لن تقدم له احتمالات جيدة. ومع ذلك، يبدو غسان سلامة، مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، عازماً على عدم إضاعة الفرصة من أجل اعتماد حل سياسي للمأزق الليبي، كما يقول الباحث عماد حرب.
يضيف حرب: ليس اعتداء حفتر على حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً أقل من أن يُوصف بمحاولة انقلاب وتهديد مباشر لعملية السلام التي يرعاها سلامة. ويضاف إلى خطورة اعتدائه زوجٌ من الديناميات الخطيرة والمتشابكة: الدعم الصارخ من مصر والسعودية والإمارات وروسيا، وتواطؤ الولايات المتحدة عبر إحباط جهود مواجهة حفتر. غير أنه من المشكوك فيه أن حملة حفتر ضد طرابلس سوف تنهي الفوضى الليبية. والواقع أنها من المحتمل أنها ستؤدي إلى مفاقمة وتوسع الحرب الأهلية التي تشهدها البلاد، وزيادة انعدام الاستقرار الإقليمي، ولا سيما في ضوء تطورات المحيط السياسي في الجزائر والسودان.
الهجوم المتعثر وأوجه الإحراج التي تبعته
يقول حرب، كان هجوم حفتر على طرابلس متوقعاً منذ مدة طويلة، وظاهرياً يبدو أن السبب في هذا أنه يريد تخليص المدينة من الميليشيات والقوى الإسلامية. لكن محاولته الأخيرة، التي انهت أسبوعها الثالث، تعثرت على ما يبدو عندما رفضت القوات التي تقودها حكومة الوفاق الوطني التقهقر في جنوب العاصمة.
وبالرغم من أن حالة الهجوم ما زالت قابلة للتغيير لأسباب عديدة، فإن تباطؤ وتيرته يحرج القائد العسكري وأنصاره. وينعكس كذلك بالسلب على سمعة الجيش الوطني الليبي والقوى السياسية التي منحته بعض الشرعية في شرق ليبيا. والحقيقة أنه بعد حوالي ثلاثة أسابيع من القتال المتوقف تارة والمتواصل تارة أخرى، تقف القوى المؤيدة لحكومة الوفاق الوطني راسخة أمام مقاومة حفتر، الذي يلجأ إلى التجنيد الإجباري للمقاتلين في المناطق الواقعة تحت سلطته لزيادة صفوف جيشه.
وأيما يكون الأمر، يمنح عجزه عن الاستيلاء على العاصمة حتى الآن زخماً لحكومة الوفاق الوطني وقائدها فايز السراج، الذي شعر بالثقة الكافية للمطالبة بمحاكمة حفتر أمام المحكمة الجنائية الدولية بدلاً من المطالبة بوقف الأعمال العدائية.
فشل حفتر ينعكس على داعميه في الرياض وأبوظبي
ينعكس فشل حفتر بصورة سيئة أيضاً على داعميه المتحمسين في السعودية ومصر والإمارات وروسيا. قبل الإقدام على هذه الخطوة الجريئة، زار حفتر السعودية والتقى بالملك سلمان وابنه ولي العهد محمد بن سلمان وحصل على دعمهما غير المشروط.
وقد منحاه أيضاً التمويلات اللازمة للحصول على ولاء قادة القبائل في جنوب طرابلس، حسبما أفادت تقارير إعلامية نقلاً عن مسؤولين سعوديين. استقبل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي هو الآخر حفتر في حضور عباس كامل، رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، وأعلن تأييده لجهود القائد العسكري دون نُصحه بإنهاء الأعمال العدائية.
أما الإمارات، التي أعلنت دعمها لجهود الأمم المتحدة في ليبيا، فتخضع لتحقيق من الأمم المتحدة في إمدادها لحفتر بالأسلحة في انتهاك لحظر الأسلحة إلى ليبيا الذي تفرضه الأمم المتحدة. وأخيراً، تعيق روسيا تبني قرار مقترح من المملكة المتحدة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يطالب بوقف الأعمال العدائية في حال انتقد نص المقترح حفتر، الذي بدأ الأعمال العدائية في المقام الأول. فيما رفضت فرنسا التوقيع على قرار مماثل من الاتحاد الأوروبي.
يجب أن تعاني فرنسا الإحراج ذاته بسبب دعمها لحفتر
ينبغي أن تعاني فرنسا من درجة مماثلة من الإحراج بسبب قبولها لحفتر بالرغم من تخريبه عملية السلام الأممية. قطعت حكومة طرابلس مؤخراً علاقاتها مع فرنسا احتجاجاً على دعم باريس للواء المنشق.
ومن جهتها، أنكرت باريس تواطؤها مع حفتر وأعلنت مرة أخرى دعمها لحكومة الوفاق الوطني وجهود الأمم المتحدة. وسلطت الضوء كذلك على تدريب باريس لقوات الشرطة التابعة لحكومة الوفاق الوطني وفريق المهام الأمنية الخاصة للسراج. بيد أن عدم إعلان النبذ الكامل لجهود حفتر المستمرة لتخريب حكومة الوفاق الوطني والاتفاق السياسي الليبي لعام 2015، يضع فرنسا في معسكر البلاد التي تساعد على إحداث انقلاب عسكري في ليبيا.
تغيّر مفاجئ في موقف إدارة ترامب
يقول حرب، أجرى ترامب، "المُتيَم" بالمستبدين والسلطويين، تغييراً سريعاً كاملاً ومفاجئاً عن مواقف الإدارة السابقة بشأن ليبيا، فتسبَّب بمشكلةٍ كبيرة لخطة الأمم المتحدة الخاصة بالبلاد. فعلى مدار سنوات، كانت الولايات المتحدة تدعم التوصُّل إلى حلٍ سياسي للحرب الأهلية الليبية، حلٌ يُمثِّل اتفاق توافقي يحافظ على مصالح جميع الأطراف، ودعمت إدارة أوباما الاتفاق السياسي الليبي الذي قادته الأمم المتحدة في 2015.
وظلَّ هذا الموقف يُمثِّل السياسة الرسمية حتى بعدما وجَّه حفتر الأوامر لقواته بمهاجمة طرابلس. فأعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أنَّ إدارة ترامب "تشعر بقلقٍ عميق" من الهجوم، وعارض "الهجوم العسكري من جانب قوات خليفة حفتر"، وحثَّ على "الوقف الفوري لتلك العمليات العسكرية".
لكن في التاسع عشر من أبريل/نيسان، أعلن البيت الأبيض أنَّ الرئيس تحدث هاتفياً مع حفتر يوم 15 أبريل/نيسان واعترف بدوره "المهم" في محاربة الإرهابيين في ليبيا. ولا يمكن النظر إلى محادثةٍ كهذه إلا باعتبارها تأييداً لموقف حفتر، وذلك بالنظر إلى علاقة الحب التي تجمع الرئيس بالسلطويين وقربه من قادة السعودية ومصر والإمارات.
وبالفعل، أعلن الجيش الوطني الليبي سريعاً اعتباره موقف ترامب تأييداً لمهمته. ويُفسِّر إعلان السعودية ومصر والإمارات دعمها لحفتر وتعهُّدها بالدعم المالي والعسكري لقواته الكثير من التغيُّر الذي طرأ على موقف ترامب. وعلى وجه التحديد، التقى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع ترامب يوم 9 أبريل/نيسان، ووجد الرجلان توافقاً حول كل شيءٍ تقريباً. وفي ظل موقف السيسي الداعم لحفتر، من الصعب تصوُّر أن يكون لترامب وجهة نظر مختلفة.
وربما كان الأمر الكاشف أكثر هو التنسيق بين الإمارات وإدارة ترامب بشأن ليبيا واليمن وإيران والقضايا الأخرى في الشرق الأوسط. بلا شك كان للإمارات مصلحة كبرى في رؤية ترامب يصبح رئيساً؛ فكان ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد هو القائد العالمي الوحيد الذي ظهر في تقرير المحقق الخاص روبرت مولر بشأن التدخُّل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016 بسبب مساعيه الرامية لتوصيل إدارة ترامب بالمسؤولين الروس.
ومنذ عام 2011، جعلت الإمارات محاربة الإسلاميين في البلدان العربية هدفها الرئيسي. وفي عام 2014، شنَّت المقاتلات المصرية والإماراتية غارات جوية على الإسلاميين في ليبيا لتكون باكورةٍ لدعم مصر والإمارات للواء حفتر الذي بدأ في وقتٍ لاحق من ذلك العام. وبالتالي، فإنَّ تأييد ترامب الجوهري للواء حفتر يخدم مهمة الإمارات وكذلك مصر والسعودية، التي تسعى لضمان فرض الحكم السلطوي في ليبيا.
غموض في الجوار الليبي
لابد أنَّ هجوم حفتر على طرابلس قد استفاد من الظروف المضطربة في كلٍ من الجزائر والسودان. في الواقع، لابد أنَّ قواته استغلَّت الوضع الجزائري للسيطرة على المناطق القريبة من الحدود الليبية الجزائرية كمرحلةٍ أخيرة في انتزاع اللواء حفتر لجنوب وجنوب غربي ليبيا.
ولا شك أنَّ المؤسسة العسكرية الجزائرية كانت منشغلة للغاية بالدفع باستقالة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، والترتيب لصيغة سياسية جديدة في البلاد، والتخطيط لانتخاباتٍ رئاسية جديدة في الرابع من يوليو/تموز المقبل بدرجة أعاقتها عن الانتباه لخطط حفتر.
من جهتها، دعت حكومة الوفاق الوطني في طرابلس الجزائر للمساعدة في منع استيلاء حفتر على العاصمة. وعلى أي حال، لا يبدو أنَّ لدى حفتر أصدقاء كُثراً في الجزائر. ففي سبتمبر/أيلول 2018، صوَّر حفتر نفسه باعتباره المتحدث باسم ليبيا وهدَّد بغزو البلد المجاور بعدما شُوهِد جنودٌ جزائريون يدخلون إلى الأراضي الليبية بصورة "غير مشروعة". كما أنَّه وصف دولاً عربية أخرى بـ"الأعداء".
وبالمثل، وانطلاقاً من إحساسٍ بانتشار عدم الاستقرار، دعا وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي حفتر إلى إنهاء الأعمال العدائية والسعي إلى اتفاقٍ سياسي في البلاد. وأبلغ كذلك الرئيس التونسي باجي قايد السبسي وفداً من الكونغرس الأمريكي أنَّ ما يحدث في ليبيا مثار قلقٍ بالغ لحكومته.
مع ذلك، منعت تونس وزير خارجية حكومة شرق ليبيا الداعمة لحفتر من عقد مؤتمرٍ صحفي في تونس العاصمة، مُشيرةً إلى أنَّ تونس لا تعترف إلا بحكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة وأنَّها تُفضِّل أن تظل محايدةً في النزاع. ولا شك أنَّ تحقيق حفتر انتصار في طرابلس على الأرجح سيُعرِّض التفاهم السياسي الهَش في تونس للخطر لأنَّه يضم عناصر من حركة النهضة الإسلامية.
من ناحية أخرى، يُمثِّل السودان حالة صعبة لدولة تمر بظروف سياسية مضطربة وتدخُّلاً صريحاً في شؤونها، وهما ديناميتان انعسكتا على ما يحدث في ليبيا وتأثَّرتا به. ففي حين يُصِرُّ المجلس العسكري السوداني الذي أطاح بالرئيس عمر البشير على قيادة مرحلة ما بعد البشير، تتعهَّد السعودية والإمارات بتقديم 3 مليارات دولار في صورة مساعدات. ويفترض المرء أنَّ هذه المساعدة ستتوقف على كيفية تعامل السلطات الجديدة مع القوى الإسلامية في البلاد. من جهتهم، أعلن المحتجون السودانيون وقوى سياسية سودانية على الفور رفضهم للمساعدات لأنَّهم يرون أنَّها تمنح الدولتين نفوذاً لا داعي له في الخرطوم.
مع ذلك، يمكن القول إنَّ هناك أمراً واحداً مؤكداً: نجاح السعودية والإمارات في التأثير على الجيش السوداني لإجهاض عملية التغيير السياسي في الخرطوم قد يبشِّر بخيرٍ كبير لفرص حفتر في طرابلس.
أوضحت التطورات أنَّ الانتقال الليبي في عام 2011 من سلطوية معمر القذافي لم تسر على ما يرام بالنظر إلى السنوات العديدة من الشِقاق والحرب الأهلية والعنف المتطرف. إنَّ ما نحتاجه الآن هو إعادة التزامٍ من الفاعلين الإقليميين والدوليين بتحقيق قدرٍ ضئيل على الأقل من الاستقرار في ليبيا حتى تمكّن الدولة الليبية من إعادة تأسيس مؤسساتها وإعادة إطلاق حملة التنمية التي توجد حاجة ماسّة إليها.
لا يزال اللواء حفتر يحاول إحباط جهود الأمم المتحدة لتجميع الليبيين معاً في مسعًى لتحقيق المصالحة الوطنية يمكن أن يُمهِّد الطريق باتجاه تحقيق هذا الهدف. ولابد أن يعترف داعموه الإقليميون والدوليون –مصر والسعودية والإمارات وروسيا والولايات المتحدة وربما آخرون- بأنَّ تدليله يلحق ضرراً كبيراً بليبيا، ويُؤخِّر سلامها الاجتماعي، ويُهدِّد بإحياء حكم القذافي القمعي.