يشهد عالم اليوم صراعاً محموماً لفرض النفوذ بين القوة العظمى الأبرز على الساحة الدولية وهي الولايات المتحدة الأمريكية وبين قوى أخرى تنازعها تلك المكانة أبرزها الصين، لكن يبدو أن هناك لاعباً آخر يزحف بهدوء نحو قمة سلم النفوذ العالمي وهو الشركات العملاقة أو المؤسسات الاقتصادية عابرة الحدود والتي لا تنتمي لجنسية بعينها ولا ولاء لها لعلم محدد بقدر ما تسعى لبسط نفوذها على السياسات والقوانين في جميع الدول لتحقق مزيداً من الثراء والنفوذ.
هذا الطرح ليس مجرد نظرية في بحث أو رسالة دكتوراه بل هو واقع نعيش تفاصيله يومياً دون أن ننتبه، وفي هذا السياق نجد أن 157 من أقوى 200 كيان اقتصادي عالمي هي شركات وليست دولاً، وذلك بحسب أحدث تقرير اقتصادي في هذا الشأن تم نشره أكتوبر/تشرين الأول 2018.
الشركات عابرة الحدود
نحن نعيش في عصر الشركات العابرة للحدود، وهو مصطلح طرح للمرة الأولى عام 2001 كعنوان كتاب ألفه خبراء استراتيجية الأعمال التجارية يفيز دوز وخوسيه سانتوس وبيتر ويليامسون، وكانت وقتها مثل تلك الشركات ظاهرة صاعدة، كتطور للشركات العملاقة التي كانت تفتخر بجذورها القومية أو الوطنية، مثل شركة جنرال موتورز الأمريكية.
ففي خمسينيات القرن الماضي، قال رئيس جنرال موتورز تشارلز ويلسون في خطاب شهير: "إن مصلحة بلدنا (الولايات المتحدة) هي مصلحة جنرال موتورز والعكس صحيح"، لكن هذا الأمر اختلف تماماً اليوم، بحسب تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية.
الشركات عابرة الحدود (ومنها على سبيل المثال لا الحصر آبل وإيكسون موبيل ويونيليفر وبلاروك وإتش إس بي سي ودي إتش إل وفيزا) تختار مقرها الرئيسي أو مقر مصانعها أو أماكن إقامة كبار مسؤوليها ليس على أساس جنسية الشركة (إن وجدت أصلاً) ولكن في ضوء محددات عملية أهمها "القوانين الصديقة" ووفرة الموارد الطبيعية والبشرية الأقل تكلفة والبنية التحتية الأفضل، وبالتالي نجد أن الشركات العابرة للحدود تختار مقراً قانونياً في دولة ما ومقراً إدارياً لمسؤوليها وعملياتها في دولة أخرى وأصولها المالية تكون في دولة ثالثة، بينما يكون هيكلها الإداري موزعاً بين عدة دول أخرى.
القوة العظمى لم تعد دولة
صحيح أنه من الطبيعي أن تبحث الشركات ورجال المال عن تحقيق الأرباح بغض النظر عن أين يمكن تحقيق ذلك، لكن الأمر تخطى الأموال وتحقيق الأرباح وأصبح مفهوم الشركات عابرة الحدود يمثل تحدياً جديداً لتعريف "القوة العظمى".
كان مصطلح القوة العظمى يشير للولايات المتحدة وقبل ذلك أثناء الحرب الباردة كان يقصد به الاتحاد السوفيتي أيضاً، وفي عام 2015 أجرى مركز بو للأبحاث استطلاعاً للرأي في 40 دولة كان رأي 48% منهم أن الصين إما تخطت الولايات المتحدة بالفعل أو سوف تتخطاها كقوة عظمى، لكن أي استطلاع للرأي الآن في هذا السياق يجب أن يضم منافسين جدداً للقوى العظمى وهي الشركات التي من المحتمل أن تتفوق على كل الدول من ناحية التأثير، بحسب تقرير آخر نشره موقع فورين بوليسي الأمريكي.
دخل شركة أعلى من دخل ثلثي دول العالم
في هذا السياق نجد أن بعض الشركات الآن لديها موظفين أكثر عدداً من سكان بعض الدول، وشركات أخرى يتخطى دخل الواحدة منها الناتج المحلي الإجمالي للدول الكبرى في العالم.
على سبيل المثال تمتلك شركة آبل سيولة نقدية تتخطى إجمالي الناتج المحلي لثلثي دول العالم مجتمعة، ومع كل منتج جديد يطرح في الأسواق يرتفع هذا الرقم بصورة كبيرة، ولكن آبل ليست الشركة الوحيدة، وبينما تتطور الشركات من شركات عابرة للحدود إلى عالم مؤسسي افتراضي، كما تشير مجلة فورين بوليسي، سوف تتغير موازين القوى أكثر لصالح الشركات ويتعاظم دورها في صياغة السياسات والقوانين حول العالم.
التقرير يشير إلى أن نمو الشركات عابرة الحدود وصعود نفوذها لا يرتبط فقط بتحقيق الأرباح المالية ولكنه يسبب هدماً منظماً لمصطلح القوة العظمى في العالم، حيث أن المصطلح يشير عادة للدول ولكن تلك الشركات من المحتمل جداً أن تتخطى كل الدول فيما يتعلق بالنفوذ.
أسباب النمو الصاروخي
أبرزَ تحليل لمؤسسة العدالة الدولية الآن في أكتوبر/تشرين الأول 2018، أسباب النمو المتزايد لأرباح تلك الشركات عابرة الحدود وأهمها التخفيضات الضريبية الكبيرة وترتيبات تجنب التواجد القانوني في البلاد ذات القوانين الضريبية المزعجة لتلك الشركات إضافة لانتشار ما يعرف بقوانين تشجيع الاستثمار والتجارة في بلدان أخرى.
وبفضل تلك السياسات أصبحت تلك الشركات أكثر ثراء من معظم حكومات العالم مما أدى لتعاظم قدرتها على التحكم في السياسات والقوانين التي تخدم مصالحها كمؤسسات وتقوض من سلطات الهيئات التي يفترض أنها تراقب أعمال تلك الشركات.
هذا التحليل تم إصداره كنوع من الضغط على الحكومة البريطانية للعمل بجدية أكثر على توقيع معاهدة ملزمة من خلال الأمم المتحدة تضع الشركات عابرة الحدود أمام مسؤولياتها في مجال حقوق الإنسان التي لا تحترمها تلك الشركات، خصوصاً في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية حيث تكون تلك الشركات أقوى بكثير من الحكومات نفسها.
تحليل منظمة العدالة الدولية الآن أظهر أن "الفجوة بين المؤسسات والدول تتسع بشكل متزايد لصالح المؤسسات، فمن بين أقوى 200 كيان اقتصادي في العالم عام 2018، 157 هي شركات وليست دولاً، وفي نفس القائمة نجد أن أقوى 100 كيان اقتصادي 69 مؤسسة.
وأضاف نفس التحليل أن "شركات مثل وولمارت وآبل وشيل تحقق دخلاً أعلى حتى من دول غنية مثل روسيا وبلجيكا والسويد".
مشاكل العالم تتفاقم
وقد أصدر رئيس المؤسسة، نيك ديردين، بياناً مصاحباً للتحليل الذي كشف الأرقام الصادمة، حمَّل فيه الحكومة البريطانية مسؤولية "المساعدة في تنامي نفوذ المؤسسات العملاقة من خلال الهياكل الضريبية والاتفاقات التجارية وحتى برامج دعم المؤسسات التجارية العملاقة".
وأضاف ديردين: "إن الثروة الهائلة للمؤسسات العملاقة هي السبب الجوهري وراء مشاكل العالم من عدم مساواة وتغيرات مناخية، ويبدو أن السعي المحمومَ لتحقيق الأرباح على المدى القصير يدهس في طريقه حقوق الإنسان الأساسية لملايين البشر حول العالم، ورغم ذلك لا توجد وسائل فعَّالة أمام المواطنين لمساءلة تلك الشركات، والأدهى من ذلك أن تلك الشركات تملك النفوذ الكافي لجعل الحكومات تخوض المعارك نيابة عنها من خلال اتفاقيات الاستثمار والتجارة".
وندَّد ديردين في بيانه بحكومات الدول القوية لأنها تعارض وتجهض أي تحرك من جانب جماعات حقوقية أو حكومات الدول النامية من أجل تطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان على تلك الشركات العابرة للحدود من خلال اتفاقية مُلزمة لها تحت مظلة الأمم المتحدة، مضيفاً أن منظمة العدل الدولية الآن ستنضم للحملات حول العالم من أجل اخبار الحكومة البريطانية بألا تتدخل لمنع المطالب الدولية لتحقيق العدالة.
نموذج يوضح ما حدث
دعونا نتوقف هنا عند نموذج لتطور ونموِّ واحدة من تلك الشركات كي تتضح لنا الصورة أكثر. الشركة اسمها "أكسينتشور" وهي الآن واحدة من أكبر الشركات الاستشارية في العالم ويتخطى دخلها السنوي عشرات المليارات من الدولارات. هذه الشركة تأسست في خمسينيات القرن الماضي كقسم محاسبة صغير تابع لشركة آرثر أندرسون للخدمات المالية.
وكان أول مشروع كبير للشركة هو تقديم المشورة لشركة جنرال موتورز لتركيب كمبيوتر عملاق في مقر الشركة بولاية كنتاكي بغرض حوسبة العمليات المالية، وبعد عدة عقود من النمو المطرد وفي عام 1989 تحديداً تحول القسم الناجح إلى مؤسسة مستقلة باسم أندرسون للاستشارات.
لكن نظرة أكثر عمقاً على تاريخ ونمو تلك الشركة يكشف كيف أنها بدأت في سياق وطني أمريكي ووصلت الآن لسياق مختلف تماماً، والسياق المختلف هنا لا يعني أن الشركة افتتحت فروعاً لها في بلدان أخرى مثل المكسيك واليابان وغيرها، حيث إن التوسّع حول العالم لا يقلل أو يلغي السياق الوطني أو جنسية الشركة. لكن السياق المقصود هنا هو بحث شركة أندرسون للاستشارات عن الربح بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى ووسائل تحقيق ذلك النوع من الربح تتمثل في البحث عن ضرائب أقل وعمالة أرخص وإجراءات رقابية غير صارمة، وهذه كلها أمور دفعت الشركة لإعادة الهيكلة بشكل جذري لتصبح "عابرة للحدود"، لذلك غيّرت الشركة اسمها لأكسنتشيور عام 2001 وأصبحت مسجلة كشركة سويسرية قابضة تتبعها شركات متنوعة منتشرة حول العالم، ونقلت مقرها المؤسسي لبرمودا وظلت هناك حتى عام 2009 حينما أعادت توطين مقرّها في أيرلندا وهي دولة أخرى ضرائبها منخفضة.
اليوم يعمل بشركة أكسنتشيور 373 ألف موظف منتشرون في أكثر من 200 مدينة داخل حدود 55 دولة، وتقوم طريقة عملها على أساس الحصول على عقد لمشروع في أي مكان في العالم ترسل موظفيها إلى المكان دون أن تكون لهم صفة الإقامة الدائمة فيه، ويكون الإشراف عليهم وعلى المشروع من خلال مكاتب إقليمية في براغ أو دبي، حيث قوانين الضرائب والمحاسبة يسيرة أو على هوى الشركة، ولتجنب مسائل الإقامة وغيرها تحرص الموارد البشرية على عدم استقرار الموظف في نفس الموقع لفترات طويلة.
ماذا يعني هذا الكلام؟
بما أننا لسنا جميعاً خبراء اقتصاد ولسنا رجال أعمال، فالسؤال هو ماذا يعني هذا بالنسبة لحياتنا اليومية كموظفين أو عمال في المنطقة العربية مثلاً أو في الشرق الأوسط أو في إفريقيا وآسيا أو حتى في أوروبا وأمريكا؟
الإجابة بشكل مبسّط تكمن في قوانين العمل ومبادئ حقوق الإنسان، فعند صياغة قوانين العمل المنوط بها تنظيم العلاقة بين المستثمر أو أصحاب الأعمال من ناحية وبين العمال من ناحية أخرى تكون الحكومات (السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية) بمثابة الوسيط في هذا الأمر.
المستثمر أو رجل الأعمال في هذه الحالة يسعى لأن تكون قوانين العمل غير صارمة ومليئة بالثغرات التي تمكنه من فصل أو تغيير أو معاقبة العامل وحرمانه من حقوقه بينما العامل يريد قانون عمل يضمن له تلك الحقوق ويحميه من نفوذ صاحب العمل. فإذا كان الوسيط (الحكومات) أضعف من رجل الأعمال (الشركات) فالنتيجة هي ما نراه الآن من قوانين عمل ترفضها النقابات العمالية ومنظمات حقوق الإنسان وترى فيها تفضيلاً للمستثمر وتعظيماً لأرباحه على حساب حقوق من يعملون لديه.
الأمر نفسه ينطبق على قوانين الضرائب، حيث تسن الحكومات (خصوصاً في الدول النامية) قوانين تعطي للمستثمرين كل شيء وتجرد العمال من أبسط الحقوق كحد أدنى للأجر يضمن حياة كريمة أو ضرائب باهظة تبتلع نسبة كبيرة من ذلك الأجر المتدني.
وفي هذا السياق يمكن أن ننظر للأوضاع في أكبر دولة عربية وهي مصر لنقف على خطورة تعاظم نفوذ الشركات ورجال الأعمال وانعكاس ذلك على حقوق العمال الأساسية عند سن القوانين المنظمة للعلاقة بين صاحب العمل والعمال.
غياب الدور الاجتماعي للدولة
الأثر الأبرز الآخر لتعاظم دور الشركات وتحكمها في رسم السياسات والقوانين يكمن في الغياب التدريجي لمفهوم جوهري من مفاهيم الدولة وهو المسؤولية الاجتماعية للدولة تجاه رعاياها.
هذا المفهوم يعني ببساطة دور الحكومة في ضمان الخدمات الأساسية للمواطن وتقديم ضمانات الحياة الكريمة لغير القادرين على العمل، وبالتالي إذا كانت الحكومة أضعف من الشركات يصبح هذا الدور الأساسي للحكومة محل شك وهو ما نراه بوضوح في الشرق الأوسط وبالتحديد في البلاد العربية بشكل عام.
النقطة الأخرى الأكثر خطورة في هذا السياق هي التطور التكنولوجي المذهل وميكنة كل شيء في حياتنا كبشر تقريباً ما يعني خروج أعداد هائلة من العمال من سوق العمل إلى جحيم البطالة، الأمر الذي يؤدي لتفاقم مشكلة عدم قدرة الدول على القيام بواجبها تجاه مواطنيها، فالشركات عابرة الحدود لا تهتم سوى بتحقيق الأرباح والبعد الإنساني أو الاجتماعي لا يعنيها.
لابد هنا أن نذكر مصطلح المسؤولية الاجتماعية للشركات، وهو مصطلح غربي يُقصد به أن تقوم الشركات بدور اجتماعي في المحيط المجتمعي الذي تتواجد به. تم إطلاق هذا المصطلح بهدف التركيز على أن الشركات لا تسعى فقط للربح بأي وسيلة مركزاً على الجانب الأخلاقي والإنساني في كيفية ممارسة الشركات لأنشطتها وكان يعرف في بدايات إطلاقه أيضاً بـ "المواطنة المؤسسية" أي الدور الوطني للمؤسسات.
وبالتالي في عصر الشركات عابرة الحدود "عديمة الوطن" فقد المصطلح معناه وتحول أكثر لآلة من آلات الدعاية للشركات، إضافة إلى أن ما تنفقه الشركات تحت هذا البند يتم خصمه من دخلها الخاضع للضرائب، أي أن الشركات تستخدمه الآن كدعاية مجانية لها.