عندما اشتعلت النيران في كاتدرائية نوتردام التاريخية، فتح الناس من جميع أنحاء العالم محافظهم وبدأوا في تقديم التبرعات. في غضون يومين، جرى جمع ما يقرب من مليار دولار للمساعدة في دفع تكاليف ترميم الكاتدرائية التي يبلغ عمرها 856 عاماً في باريس.
كانت تلك الاستجابة انعكاساً لمكانة نوتردام لدى الفرنسيين والعالم، باعتبارها معلماً تذكارياً للتراث الثقافي الفرنسي. فقد تعهَّد بعض المتبرعين بتقديم أكثر من 100 مليون دولار، كل على حدة، بما في ذلك فرانسوا هنري بينولت، الذي جمع ثروته من علامات تجارية فاخرة مثل Gucci وإيف سان لوران، وبرنارد أرنو، أغنى شخص في أوروبا، والرئيس التنفيذي لمجموعة شركات LVMH.
انتقادات شديدة وجدل واسع
تقول صحيفة New York Times الأمريكية، لكن تدفق التبرعات واجه انتقادات شديدة، حيث تساءل النقاد: لماذا لم تحصل مآسٍ مثل حريق المتحف الوطني في البرازيل في ريو دي جانيرو في سبتمبر/أيلول 2018 على درجة الدعم نفسها. كذلك أثارت التبرعات استياء المجتمع في العاصمة الفرنسية باريس المضطربة بالفعل من احتجاجات حركة السترات الصفراء، وهي حركة استجابة شعبية لعدم المساواة الاقتصادية في فرنسا، استغلت حركة عالمية متصاعدة ضد تركيز الثروة بيد فئة من المجتمع.
من ناحية أخرى، جرى توجيه بعض الانتقادات إلى المتبرعين لعدم دفع نصيبهم العادل في الضرائب، وبالتالي حرمان الحكومة الفرنسية من الإيرادات لإصلاح كاتدرائية نوتردام نفسها. وندَّد آخرون باستغلال المتبرعين الحادث لتعزيز سمعتهم في وقت مأساة وطنية. وهاجم البعض فرضية تقديم أموال كثيرة للكاتدرائية المدمرة، في حين يمكن الاستفادة من تلك الأموال بصورة أفضل من خلال تقديمها لمنظمات الخدمات الاجتماعية، التي يمكن أن توفر الغذاء أو المأوى أو التعليم الأفضل للمواطنين المحتاجين.
لكن خبراء ومستشاري الأعمال الخيرية قالوا إنهم لم يستغربوا رد الفعل هذا غير الممتن للتبرعات. وقال نيكولاس بيرغروين، وهو ملياردير خيري أسس معهد بيرغروين في لوس أنجلوس، وهو يهدف إلى إعادة تشكيل المؤسسات السياسية والاجتماعية لتطوير حلول طويلة الأجل لتحديات المجتمع: "هذا الأمر ليس مفاجئاً. ففي أوقات القلق والهلع، يتطلع الناس إلى اتهام مجموعات مختلفة من الأفراد بارتكاب كل الأعمال الشريرة أو بعضها. الأثرياء بالتأكيد يكونون في مرمى هذه الهجمات، كما ينال رجال البر والإحسان نصيباً من ذلك الهجوم"، بحسب تعبيره.
غضب ناجم عن التوزيع غير المتكافئ للثروة
واتخذ آخرون مقاربة أقل فلسفية، قائلين إنه لكي يكون المجتمع أكثر فاعلية، يحتاج المتبرعون إلى العمل مع الحكومة والقطاع الخاص، وليس وحدهم أو ضد بعضهم البعض.
وقال نيك تيديسكو، أحد كبار مستشاري الأعمال الخيرية في مؤسسة J.P. Morgan Private Bank المالية لصحيفة نيويورك تايمز: "بدلاً من الإشادة بالعمل الخيري نفسه، يقول الناس إن الأموال لم توجه إلى الاستخدام الصحيح، متى سنصل إلى وقت نشعر فيه بالراحة عند انتقاد إيثار الآخرين؟"
إذا أصبحت ردود الفعل هذه، المنتقدة للتبرعات الكبيرة اتجاهاً سائداً، فقد يضطر المتبرعون إلى إعادة التفكير في تقديم المنح الكبيرة. يشعر البعض بالقلق من أن يكون لهذا الأمر تأثير سلبي على الإحسان، بينما يأمل آخرون أن يُجبر هذا الانتقاد المتبرعين على التفكير بطريقة مختلفة، حول توجيه تبرعاتهم إلى الأماكن الصحيحة.
أولئك الذين يشعرون بالقلق من ردِّ الفعل العكسي يعتقدون أن الغضب الناجم عن التوزيع غير المتكافئ للثروة يصبُّ في المناطق الخطأ.
وقال فيل بوكانان، الرئيس التنفيذي لمركز Center for Effective Philanthropy ومؤلف كتاب "Giving Done Right": "هناك الكثير من القلق المفهوم بشأن عدم المساواة في الثروة، والكثير من القلق بشأن السلوك السيئ للبعض".
وأضاف: "لكنني قلق من أننا نخلط المخاوف بشأن نهجنا في فرض الضرائب بنقد العمل الخيري، وأنا لا أتبع هذا المنطق في الواقع. لا أعتقد أن حافز معظم المتبرعين الكبار هو الرغبة في الحفاظ على الوضع الراهن، من خلال منحهم أو حماية أنفسهم من فرض ضرائب أعلى".
وقال بوكانان إن المنظمات الخيرية الخاصة مثل مؤسسة Robert Wood Johnson Foundation دعمت الأفكار التي أصبحت جزءاً من النسيج الاجتماعي، مثل نظام الطوارئ 911، ومجال الممرضات الممارسات. وقدمت مؤسسة Libra Foundation، المدعومة من جزء من عائلة بريتزكر، 350 ألف دولار في صورة منح للمنظمات التي تلبي احتياجات الأسر التي تعرَّضت للفصل عند الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك.
قال بوكانان إنه لحلِّ المشكلات الاجتماعية "تحتاج جميع قطاعات المجتمع الثلاثة، العامة والخاصة والخيرية، إلى أداء الوظائف التي كان من المفترض أن تؤديها على مستوى عالٍ، وليس الانحراف عنها بسبب ردود الفعل العنيفة".
وأضاف: "ما يقلقني أكثر هو النقد الواسع للمفهوم الكلي للعطاء، وانعدام التقدير لكل العطاء الجيد المقدم. نحن بحاجة إلى مجتمع مدني صحي يفعل أشياء مختلفة"، بحسب تعبيره.
لماذا كانت كل هذه الأموال "الخيرية" خاملة؟
وكان لدى تيديسكو قلق مختلف: أن كثيراً من الأموال المخصصة بالفعل للأعمال الخيرية لم تُستخدم للأغراض المخصصة لها.
وقال: "مع حادث نوتردام، تمكنا من الاستفادة من الأموال الخيرية التي كانت راكدة، لكن هذا يقودنا إلى السؤال التالي: لماذا كانت هذه الأموال الخيرية خاملة؟ ربما لا تعرف المنظمات غير الربحية كيفية إجبار المانحين على تقديم التبرعات".
وقال تيديسكو إنه بدلاً من الخجل من التعرُّض للنقد، ينبغي على المتبرعين أن يقبلوا هذا النقد باعتباره تكلفة لتجربة أشياء جديدة قد لا تنجح، مضيفاً: "يجب أن تكون أكثر استعداداً لأن يوجه لك هذا النقد، لأنه يُظهر أنك تحاول إيجاد حلول أو أساليب ستنجح في النهاية".
لكن بالنسبة لأولئك الذين يفضلون تجنُّب رد الفعل هذا، فإن إخفاء الهوية هو دائماً خيار متاح. قالت كارولين هودكينسون، مديرة الاستشارات الخيرية في Bessemer Trust، إن بعض أغنى عملاء الشركة يختارون استخدام شركات ذات مسؤولية محدودة تكون مالكة للأموال المخصصة للأعمال الخيرية، لكن يمكن استخدامها أيضاً في الاستثمار ذي المردود الاجتماعي والمادي في آنٍ واحد. تتيح أدوات الاستثمار للمانحين مرونة أكبر في كيفية إدارة الأموال، ولكنها توفر أيضاً إخفاء شبه كامل للهوية.
وقالت كارولين: "المؤسسة الخاصة تمثل أقل شيء خاص يمكنك امتلاكه"، مضيفة أنه بتلبية متطلبات تقديم التقارير الخاصة بمصلحة الضرائب الداخلية "فأنت تنفتح على العالم فيما يتعلق بأعمالك".
لكن حتى إخفاء المتبرع لهويته يمكن أن "يخفي صراعات محتملة"
إن عدم كشف هوية المتبرعين في المنح الكبيرة من السهل الترتيب له. وقال جاريد فيلدمان، الذي عمل بصفته الشريك المسؤول عن مجموعة عملاء من القطاع الخاص في شركة Anchin للمحاسبة، على أربع عمليات تبرع تزيد قيمة كل منها عن 100 مليون دولار: "إنه تفاوض تجاري".
لكن إخفاء الهوية يمثل مشكلة بسبب افتقاره المتأصل للشفافية. وقال لوسون بدر، الرئيس التنفيذي لصندوق Donors Trust للمتبرعين: "أنا قلق بشأن مسألة عدم الكشف عن هوية المتبرعين". وأضاف أن معرفة هوية المتبرع تساعد في بناء الثقة، في حين أن إخفاء الهوية يمكن أن يخفي صراعات محتملة. على سبيل المثال، تُعيد المتاحف فحص التبرعات المقدَّمة من عائلة ساكلر، وهي أحد المانحين البارزين في عالم الفن، بعد أن أصبح تورُّط العائلة في أزمة المواد الأفيونية معروفاً. لو جرى تقديم التبرعات دون الكشف عن هوية المانحين، فلن تخضع للتدقيق الآن.
يأمل بعض النقاد أن يتجاوز رد الفعل تقييم جدارة بعض المانحين والتبرعات، ويفرض بدلاً من ذلك عملية إعادة تقييم شاملة للعمل الخيري.
وقال أناند جيريداراداس، مؤلف كتاب "Winners Take All: The Elite Charade of Changing the World" لنيويورك تايمز، إنه يرى أن الانتقادات الموجهة للتبرعات المقدمة إلى كاتدرائية نوتردام "صحية وجيدة" ويريد رؤية المزيد منها، مضيفاً: "كنت أدافع عن هذا النوع من رد الفعل بالضبط. إنه ليس عداءً للعطاء، بل ببساطة مجرد جرعة من التشكيك في هذا النوع من محاولة التأثير".
تشكيك المجتمع بأمر التبرعات الضخمة أمر صحي
وقال جيريداراداس إنه عندما يُعلن المتبرعين، وخاصة في عالم التكنولوجيا، عن تحركات كبيرة مثل خطة مارك زوكربيرغ بقيمة 3 مليارات دولار لعلاج جميع الأمراض، يحتاج المجتمع إلى تخفيف حدة المداهنة ويكون متشككاً.
وتابع أنه يودّ أن يرى المتبرعين يقدمون التبرعات بدلاً من ذلك للمنظمات التي تعمل على إحداث توازن في النظام الاجتماعي، مضيفاً: "نوع العطاء الذي أدعو له هو "الانحياز لتقديم التبرعات للطبقات الأخرى من المجتمع".
بخلاف جيريداراداس، الذي يدعم قلب الأوضاع، يركز بيرغرين على مساعدة الديمقراطيات على العمل بشكل أفضل، من خلال الاعتماد على أفضل التقاليد المتبعة في الأعمال الخيرية.
وقال: "ما فعله الأشخاص الخيّريون في أمريكا هو زيادة استغلال أموالهم في المجتمع. للدولة دور، لكن بيل غيتس يمكنه المخاطرة أكثر مما يمكن للقطاع الخاص أن يتحمله، ويمكن أن يتَّخذ أنواعاً مختلفة من المخاطر أكثر مما يمكن للدولة أن تتخذ. في أمريكا، بشكل عام، كان ذلك مفيداً".
بصرف النظر عن رد الفعل العكسي تجاه التبرعات، فالجدل الذي أثارته التبرعات المقدمة إلى نوتردام يبعث على الأمل.
وقال روب هانسن، مؤسس شركة Goodnation، التي تقيس أثر التبرعات: "نموذج التبرعات السريعة في حالة كاتدرائية نوتردام، إذا كان ذلك يمكن أن يحدث في غضون 24 ساعة، يشير إلى توافر الموارد للتعامل مع القضايا الرئيسية، تخيل بدلاً من إعادة توجيه مبلغ المليار دولار ذاك أن بإمكاننا جمع مليار دولار أخرى لصالح قضايا أخرى".