معضلة حقيقية يعيشها أبناء العائلات الملكية في العالم، وهي كيفية الجمع بين العادات الملكية والطقوس الأميرية التي تقيد اختلاطهم بعوام الشعب وبين العالم بشكله الحديث الذي يفرض على القادة التقرب من شعوبهم حتى ينالوا الشرعية.
النموذج الياباني
وبحسب CNN الأمريكية، كان الإمبراطور الياباني يُنظر إليه قبل أقل من 100 عام باعتباره إلهاً في صورة إنسان. لكن على مدار العقود الثلاثة الماضية، فعل الإمبراطور أكيهيتو كل شيء لإضفاء الطابع الإنساني على نفسه.
التقى أكيهيتو بزوجته، ميتشيكو شودا، في بطولة تنس ليصبح في وقتٍ لاحق أول إمبراطور ياباني في تاريخ العائلة المالكة الممتد على مدار 1500 عام يتزوج امرأة من خارج الطبقة الأرستقراطية. عندما أنجب الزوجان أطفالاً، اعتنيا بتربيتهم دون مساعدة وتعليمهم الاعتماد على النفس على عكس السائد بالنسبة لأطفال العائلة المالكة – ويقال إنَّها كانا يجعلان أطفالهما يعبئون بأنفسهم وجبات الغداء المدرسية الخاصة بهم، بحسب الشبكة الأمريكية.
وبعد أن شهدت اليابان زلزالاً مدمراً وإعصار تسونامي في عام 2011، ارتدى الإمبراطور أكيهيتو وزوجته الإمبراطورة ميتشيكو ملابس عادية غير رسمية للجلوس إلى جانب الناجين في إحدى صالات الألعاب الرياضية المدرسية – وهو أمر غير مسبوق بالنسبة لأباطرة سابقين.
والآن، سيصبح أكيهيتو أول إمبراطور في التاريخ الحديث يتنازل عن العرش.
ومع تسليم "إمبراطور الشعب" ذي الحديث الطيب ولاية العرش لابنه ناروهيتو البالغ من العمر 59 عاماً في نهاية الشهر الجاري أبريل/نيسان، سيذكر التاريخ أكيهيتو بأنَّه رجلٌ تمرَّد على التقاليد الملكية.
لكن زعيم اليابان ليس الوحيد الذي لديه الرغبة في تحديث النظام الملكي. إذ ثمة حوالي 43 دولة حول العالم تحكمها عائلات ملكية. يعمل بعضهم على تحديث صورتهم لكسب -أو الاحتفاظ- بدعم وتأييد الشعب.
البحث عن طريقة لكسب قلوب الشعب
بالنسبة إلى أفراد العائلات المالكة، قد يكمن مفتاح بقائهم في اكتشاف طريقة للبقاء على اتصال بالشعب.
وفي حين أن أفراد العائلات المالكة، الذين بالسلطة المطلقة، غير مضطرين للتواصل مع جمهورهم، فإنَّ أولئك المُنتمين إلى ملكيات دستورية -كما في اليابان والمملكة المتحدة- يمكن إزاحتهم خارج السلطة إذا انقلب الرأي العام السائد ضدهم. وعلى الرغم من أَّن إزالة العائلة المالكة البريطانية، على سبيل المثال، ستكون عملية مضنية ومطولة، ستواجه دول الكومنولث صعوبة أقل لتتحول إلى جمهوريات.
إنَّه بالفعل شيء تسعى إليه دولة واحدة منها، على الأقل.
قال زعيم المعارضة في أستراليا، بيل شورتن، إنَّه إذا فاز حزبه في الانتخابات المقبلة، سيعقد استفتاء بشأن ما إذا كان ينبغي أن تصبح بلاده جمهورية. وإذا صوَّت الشعب لتصبح أستراليا جمهورية، ستكون الخطوة الأولى هي عملية التخلّص من الملكة بوصفها رئيسة للدولة.
في السياق ذاته، قالت آريان تشيرنوك، الأستاذة المساعدة في جامعة بوسطن والباحثة في الأنظمة الملكية الأوروبية: "يتعين على العائلات الملكية في جميع أنحاء العالم الانخراط في عملية موازنة دقيقة للغاية بين التقاليد والحداثة. فإذا انحرفوا بعيداً بطريقة أو بأخرى، سيكونون عرضة للخطر".
مواكبة العصر
وتضيف تشيرنوك أنَّ أعضاء العائلة المالكة البريطانية كانوا يحاولون بالفعل الموازنة بين البقاء على صلة بعامة الشعب مع الحفاظ على ما يجعلهم مميزين لعدة قرون. كانت الملكة فيكتوريا، ملكة إنجلترا التي حكمت من عام 1837 إلى عام 1901، تشعر بالقلق في البداية من أن التقاط صور لها قد يجعلها تبدو متاحة للغاية أمام الجمهور قبل أن تدرك دور ذلك في مساعدتها على التواصل مع رعاياها.
في الوقت الحاضر، يعتبر الأمير هاري البالغ من العمر 34 عاماً عضو العائلة المالكة الذي يدفع النظام الملكي البريطاني نحو مواكبة العصر، على الرغم من أنَّه يحاول أيضاً إيجاد طريقة للموازنة.
اشتهر هاري، في سن المراهقة، بحبه للسهر والموسيقى والحفلات.
لكنَّه نضج وتقبَّل بسرور دوره سفيراً للعائلة الملكية البريطانية.
يشتهر هاري بطبيعته الاجتماعية الودودة، إذ يشترى بنفسه مستلزمات البقالة الخاصة به، حتى أنَّه شارك في مسابقة في إحدى الحانات خلال رحلته إلى نيوزيلندا في عام 2015.
وقال هاري لمجلة Newsweek الأمريكية في عام 2017: "نحن نشارك في تحديث الملكية البريطانية. ونحن لا نفعل ذلك من أجل أنفسنا، بل من أجل الصالح العام".
الأمير هاري يتخطى قيود الملكية
تخطَّى هاري التقاليد الملكية مُجدَّداً في العام الماضي من خلال الزواج من الممثلة الأمريكية المطلقة مختلطة العرق، ميغان ماركل. وقد ألقى رئيس الكنيسة الأسقفية الأمريكية، مايكل كاري، عظة عاطفية مؤثرة في حفل زفافهما بكنيسة سانت جورج في قلعة وندسور، وكذلك شهد الحفل إنشاد فريق الترانيم الإنجيلية، فيما يُعد تخطّياً آخر للتقاليد الملكية.
ومع ذلك، قال الأمير هاري إنَّه من الصعب تحقيق الموازنة بين أن تبدو "عادياً" -أي متصل بشعبك- وفي نفس الوقت تحافظ على سحر تميُّز العائلة المالكة.
وقالت تشيرنوك إنَّه قد تتأثر الملكية البريطانية سلباً عندما يصبح أفراد عائلتها متاحين ويسهل الوصول إليهم بدرجة كبيرة. "لأنه حينذاك، أين التميُّز الساحر، وأين الجاذبية، ولماذا يوجد دافعو الضرائب يدعمون هذه المؤسسة؟"، بحسب الشبكة الأمريكية.
ومع ذلك، يبدو أنَّ الأعضاء الشباب داخل العائلة المالكة البريطانية قد حققوا هذا التوازن على نحوٍ صحيح.
فقد أظهر استطلاع رأي أجرته شركة Ispos MORI في شهر يناير/كانون الثاني 2018 شمل مواطنين بالغين بريطانيين أنَّ الأمير هاري وشقيقه الأمير ويليام هما أكثر الأفراد المحبوبين في العائلة المالكة. ارتفعت شعبية هاري ودرجة الإعجاب به على نحوٍ كبير للغاية منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2012، في حين تراجعت شعبية والده الأمير تشارلز، وريث العرش.
حتى أنَّ جدته الملكة إليزابيث الثانية كانت تجري تغييرات، إذ نشرت في الشهر الماضي على موقع إنستغرام رسالة من الأرشيف الملكي كتبها جدها الأكبر الأمير ألبرت.
نتيجة عكسية
أدَّى فشل العائلة المالكة الإسبانية في تحديث صورتها تماشياً مع المشاعر العامة آنذاك إلى تعرضها لبعض الهجوم في الصحف.
تعرَّض خوان كارلوس، ملك إسبانيا آنذاك، لموجة من الانتقادات في عام 2012 بعد تداول صور له واقفاً أمام فيل ميت.
وكان كارلوس قد نقل لتوه إلى الوطن لتلقي العلاج الطبي إثر سقوطه أثناء رحلة صيد في بوتسوانا دفع نفقاتها رجل أعمال سعودي من أصل سوري. لم يكن الشعب الإسباني غاضباً بسبب جوائز بطولاته الظاهرية في الصيد فحسب، بل بسبب تكلفة الرحلة في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية.
وأعقب ذلك سلسلة من فضائح رحلات الصيد الأخرى، من بينها مزاعم بأنَّه أطلق النار على رجل روسي مخمور.
وبعد رحلة بوتسوانا المثيرة للجدل، تراجع تأييد الملك في استطلاعات الرأي إلى أدنى مستوى على الإطلاق، إذ طالب 62% من المواطنين الإسبان بعزل الملك، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في السابق.
وحمل الناس صورة فيل أثناء مظاهرة ضد الملكية الإسبانية في 28 سبتمبر/أيلول 2013 في مدريد، إسبانيا.
وعلى الرغم من تنازل كارلوس عن العرش في عام 2014، لم تستقم الأمور بالنسبة للعائلة المالكة الإسبانية: سُجن صهر الملك فيليب، إيناكي أوردانجارين، بتهمة الاحتيال والتهرّب الضريبي في شهر يونيو/حزيران العام الماضي.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2018، قالت الأغلبية الساحقة بنسبة 93%، في استفتاء غير رسمي أُجرِيَ في منطقة مدريد ذاتية الحكم على شكل الحكم إسبانيا، إنّهم يفضلون أن يتولى حكم إسبانيا رئيس بدلاً من ملك.
قيمة بقاء العائلة المالكة
يُعد الحفاظ على بقاء عائلة ملكية على رأس الدولة أمراً مكلفاً، لذا يحتاج الملوك لإثبات جدواهم وقدرهم.
في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، دفع دافعو الضرائب البريطانيون للعائلة المالكة 76.1 مليون جنيه إسترليني (100.5 مليون دولار في ذلك الوقت) في السنة المالية 2017-2018.
وقالت غيزيل باستن من جامعة فلندرز الأسترالية إنَّ التحدي الذي يواجه العائلات الملكية مثل عائلة ويندسور (العائلة المالكة البريطانية الحالية) يتمثَّل في إقناع الجمهور بأنَّهم يستحقون المال الذي يحصلون عليه ليصونهم ويحافظوا عليهم".
لكن الملكيات قد يكون لها فائدة حقيقية، إذ إنَّها تدر أموالاً ضخمة. ضخَّت الملكية البريطانية 1.77 مليار جنيه إسترليني (2.34 مليار دولار) إلى الاقتصاد البريطاني في عام 2017 فقط، وذلك وفقًا لتقييم شركة Brand Finance للاستشارات الاستراتيجية وتقييم الأعمال ومقرها لندن.
وقالت تشيرنوك إنَّ أفراد العائلة المالكة يستطيعون تعزيز شعور الوطنية دون الاضطرار إلى الانخراط في العمل السياسي القذر. وأضافت أنَّ النظام الملكي قد يخدم أيضاً الهوية الوطنية، وهو أمر إيجابي للمملكة المتحدة في وقت تتعامل فيه مع المفاوضات الخلافية المطولة المتعلقة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بحسب الشبكة الأمريكية.
وعلى الرغم من أنَّ الإمبراطور المنتهية ولايته أكيهيتو اتَّخذ القرار الصائب بالابتعاد عن السياسة، لكنَّه أعرب عن "شعور عميق بالندم" حيال إجراءات اليابان خلال الحرب العالمية الثانية. تتناقض مشاعره مع مشاعر رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، الذي قال إنَّ الأجيال المقبلة لا ينبغي لها الشعور بالأسف والاعتذار عن ماضي البلاد.
وعلى الرغم من أنَّ اسم ناروهيتو يعني "رجلاً سيحظى بفضائل سماوية"، لم يُظهِر الإمبراطور الياباني القادم أيَّ علامة على رغبته في العودة إلى عهد أنصاف الآلهة، بل أظهر كل ما يدل على حرصه على اتباع خطى والده عندما يعتلي عرش اليابان في الأول من مايو/أيَّار.
تزوج ناروهيتو من ماساكو أوادو، وهي امرأة غير ملكية، في عام 1993.
وقد أشار بالفعل إلى أنَّه سيواصل علناً انتقاد التاريخ المُحرّف للحرب العالمية الثانية.
وقال في عيد ميلاده الـ55 عام 2015: "أنا شخصياً لم أشهد الحرب، لكنني أعتقد أنه عندما تتلاشى ذكريات الحرب، من المهم اليوم أن ننظر إلى أحداث الماضي بكل تواضع، وأن ننقل بنزاهة التاريخ والتجارب المأساوية التي انتهجتها اليابان من الجيل الذي عاصر الحرب إلى أولئك الذين ليس لديهم معرفة مباشرة بها".
وأكَّد ناروهيتو أيضاً إّأنه سيستفيد من إرث والده. إذ قال في مؤتمر صحفي في فبراير/شباط: "أريد تأدية مهامي ومسؤولياتي بجدية من خلال الوجود دائماً بالقرب من الناس ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم".
ومن جانبها، قالت باستن إنَّ بقاء الملكيات الدستورية في نهاية المطاف سيكون مرهوناً دائماً برغبة الشعب في بقائها، وبقدرتها على مواصلة أسر مخيلة العامة".
وأضافت: "العائلات المالكة موجودة بسببنا، وليس رغماً عن أنوفنا".