ما أشبه اليوم بالبارحة، عبارة تلخص وتفسر ما يحدث في عالمنا العربي منذ الموجة الأولى من الربيع في عام 2011 وحتى الموجة الثانية الحالية التي يدور رحاها في الجزائر والسودان.
تاريخ يتم عامه المائة هذا العام من الانقسام والصراعات بين النخبة والإسلاميين أعطى الفرصة قديما للمحتل الأوروبي كي يواصل استعماره للمنطقة العربية، واليوم يعطي الفرصة لأعداء الديمقراطية والحرية من العسكر والطغاة كي يجهضوا كل تحرك شعبي نحو حكم دستوري قائم على المساواة والحرية والعدل لجميع المواطنين.
هذا الصراع بين المعسكرين (نخبة وإسلاميين) رصده معهد بحثي هو مؤسسة القرن من خلال مشروع بحثي مطول تم نشره بعنوان "الانقسام الليبرالي-الإسلامي في العالم العربي يتم عامه المائة"، ونقدم هنا تلخيصاً له.
معركة صياغة الدستور
شهدت مسألة صياغة الدستور في مصر في أعقاب الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك وصولاً إلى انتخاب الدكتور محمد مرسي انقساماً حاداً بين معسكرين هما النخبة والإسلاميون، وكانت نتيجة هذا الصراع خسارة الثورة الشعبية وعودة العسكر لسدة الحكم، وكما كتب سمير شحاتة في يوليو\تموز 2013، انقسمت الثورة بين المعسكر الإسلامي الديمقراطي والنخبة السياسية الليبرالية.
"لقد حسنت الانتخابات الحرة من مهارات الحشد لدى جماعة الإخوان، لكنها لم تلتزم بشكل تام بالتعددية ولا الحقوق المتساوية للأقليات، وربما يكون معارضوهم من أنصار حقوق الأقليات والحريات المدنية لكنهم تصرفوا كليبراليين دون أن يكونوا ديمقراطيين، لذلك احتشدوا معاً ضد الرئيس المنتخب كي يزيحوه وأرادوا من الجيش أن يتدخل".
ويتفق أستاذ العلوم السياسية نيثان براون مع نفس الطرح ولكن في نقده للدستور العراقي الفاشل في 2005 والذي تم فرضه من جانب الاحتلال الأمريكي، حيث أنه لا يوجد أي حل تكنوقراطي لمشكلة سياسية في جوهرها. فالدساتير يمكن فقط أن تتجاوز جسور الخلاف عندما يجري حولها نقاش مجتمعي معلن وليس عن طريق صياغتها في الغرف المغلقة.
وفي هذا السياق يأتي النموذج التونسي كحالة شاذة ضمن الدول العربية التي نالها نصيب من الربيع العربي، حيث نجحت هناك تجربة صياغة دستور بممارسة ديمقراطية سليمة لأن اللجنة الدستورية المنتخبة عقدت اجتماعات متعددة ومشاورات كثيرة مع مختلف أطياف المجتمع، وفي النهاية تمكن حزب النهضة الإسلامي والليبراليون العلمانيون من التوصل لأرضية مشتركة.
غياب الثقة بين الطرفين
أما في مصر فقد حاول مرسي قصر المشاركة في صياغة الدستور على عدد محدود مما أدى لتجييش المعارضة ضده وفي النهاية حدث ما حدث. وفي سوريا أعد النظام دستوراً دون مشاورة من الأصل وبالتالي جاء دستور 2012 ليزيد في الحقيقة من إضعاف الأقليات وعدم احترام حقوقها، بحسب أستاذ قانون دستوري بارز.
يلقي هذا التقرير الضوء من الناحية التاريخية على المأزق الدستوري في مصر وسوريا، حيث فشلت التحالفات في إنهاء الديكتاتورية لأسباب كثيرة ولكن السبب الجوهري للفشل هو غياب الثقة بين الليبراليين العلمانيين وشركائهم الإسلاميين الأكثر تنظيماً، وقد استغلت الأنظمة غياب الثقة لإضعاف التحالفات الثورية.
وفي كلا البلدين (سوريا ومصر)، كان غياب الثقة المتأصل بين المعسكر الإسلامي والمعسكر الليبرالي سبباً جوهرياً في هزيمة انتقال دستوري أخرى منذ قرن مضى من الزمان، حيث اندلعت أول – وآخر – حركات شعبية ليبرالية دستورية في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى للتخلص من الحكم الأجنبي وإقامة ديموقراطيات دستورية، ولكن نجح الاحتلال الأجنبي في شق صف التحالف بين المحافظين الدينيين والليبراليين العلمانيين وأجهض قاعدته الشعبية.
البداية كانت في سوريا
صحيح أن فشل محاولة الانتقال الديموقراطي عام 1919-1920 لم يكن سببه الجوهري انشقاقاً داخلياً ولكن بسبب الاحتلال الأجنبي، حيث تواطأت بريطانيا وفرنسا لتدمير المملكة العربية السورية لخشيتهما من نموذج ديمقراطي عربي يؤدي لتقويض حكمهما في العراق وفلسطين والمغرب العربي.
الأمر نفسه حدث في مصر حيث قوضت بريطانيا المطالب الدستورية لثورة 1919 وذلك عن طريق فرض دستور من أعلى بينما كان زعيم الثورة في المنفى.
لقد أدت هزيمة المملكة العربية السورية وثورة 1919 (في مصر) إلى الدخول في مرحلة سياسية جديدة عنوانها التعارض بين النخبة الليبرالية التي تحالفت مع المحتل الأجنبي وبين جماعات إسلامية جديدة اكتسبت أرضية شعبية عريضة بأجندة مضادة لليبرالية ومضادة للغرب.
وارتبط تطور الاتجاه الإسلامي في ثلاثينيات القرن الماضي في كل من مصر وسوريا بثلاث شخصيات بارزة هم رشيد رضا وحسن البنا (مؤسس جماعة الإخوان في مصر) ومصطفى السباعي (مؤسس إخوان سوريا).
تونس ليست الحالة الأولى
وفي هذا السياق تكشف لنا صفحات التاريخ أن الأرضية المشتركة بين الليبراليين العلمانيين والتيارات الإسلامية ليست حالة فريدة في تونس اليوم، حيث نجح السوريون والمصريون في التوصل لتلك الأرضية المشتركة منذ قرن من الزمان.
أوراق التاريخ نفسها تكشف لماذا وصل الخلاف بين المعسكر الليبرالي والمعسكر الإسلامي لتلك الدرجة من التشدد في المواقف، والسبب الجوهري وراء الاستقطاب السياسي هو التدخل الأجنبي وليس المبادئ الأساسية للإسلام أو الثقافة العربية، كما يكشف لنا نفس التاريخ أسباب اللغة المتناقضة في دساتير سوريا ومصر فيما يخص الحقوق المدنية والإسلام.
أول دستور توافقي بينهما
في الخامس من أكتوبر عام 1918 أعلن الملك فيصل قيام حكومة عربية دستورية مستقلة على كامل سوريا (التي تضم اليوم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين)، وكان ذلك الإعلان بناء على الوعد الذي قدمته بريطانيا لفيصل قائد الثورة العربية أثناء الحرب والذي وقف بجانب الحلفاء.
كانت سوريا الكبرى في ذلك الوقت (1919) يسكنها 3.5 مليون نسمة غالبيتهم عرب يتحدثون العربية، مع وجود أقليات تتحدث التركية والكردية والأرمنية والعبرية كلغتهم الأم، ورغم أن أكثر من نصف السكان كانوا مسلمين سنة إلا أنهم عاشوا بجانب مسيحيين ويهود ومسلمين دروز وعلويين، وكانت حلب أكبر المدن السورية وقتها يقطنها 300 ألف نسمة كثير منهم يتحدثون التركية وأقلية كبيرة تتحدث الأرمنية من لاجئي الحرب العالمية الأولى.
وفي خطاب له في حلب في 11 نوفمبر 1918، عرف فيصل "العروبة" على أنها برنامج سياسي قائم على المساواة بين جميع المواطنين. "أنا عربي وليست لي ميزة على أي عربي آخر وأدعو إخوتي العرب أياً كان دينهم إلى التمسك بالوحدة والتفاهم المشترك حتى ننشر الوعي ونقيم حكومة نفخر بها جميعاً، وأكرر ما أقوله دائماً، العرب كانوا عرباً قبل موسى وعيسى ومحمد والأديان جميعها تأمرنا بالسعي خلف الحقيقة والتآخي على الأرض، لذلك فكل من يشق صفوفنا مسلمين ومسيحيين وعرباً لا يمكن أن يكون عربياً".
واستجاب السياسيون من أنحاء سوريا الكبرى لدعوة فيصل إجراء الانتخابات للكونغرس السوري في يونيو/حزيران 1919، وقدم الكونغرس مشروع الدستور للجنة تقصي الحقائق الأمريكية التي أرسلها الرئيس وودرو ويلسون الشهر التالي للوقوف على نوع الحكومة التي يفضلها السوريون.
وأبلغت اللجنة مؤتمر باريس أن غالبية السوريين يفضلون الاستقلال في ظل حكومة فيصل العربية، وأن الفصيل الوحيد المعارض كان كتلة الكنيسة المارونية وأتباعها في جبل لبنان، وفي ظل هذا التقرير جاءت توصية احتفاظ سوريا بوحدتها تحت انتداب أمريكي محدود وليس الانتداب الفرنسي كما أوصى التقرير باحتفاظ لبنان بالحكم الذاتي تحت السيادة السورية إضافة لكبح جماح الطموح الصهيوني في فلسطين (التي كان يطلق عليها سوريا الجنوبية وقتها).
لم ترحب فرنسا وبريطانيا بالتقرير ولا حتى اعترفتا به وفي خريف 1919، وسعت فرنسا المناطق التي تحتلها وكذلك فعلت بريطانيا ولم يتبقَّ تحت الحكم العربي إلا سوريا ما بين حلب ودمشق، بينما دخلت بريطانيا وفرنسا في مفاوضات لتقسيم الكبرى فيما بينهما.
إما التوافق وإما الغزو
وتحت ضغط قبول الانتداب الفرنسي، أعلن الكونغرس الاستقلال وصاغ دستورا من 147 مادة في ربيع 1920، وما يعنينا هنا هو النقاش الجاد حول بنود الدستور ومتابعته من الصحافة، حيث قادت النخبة المحافظة من سكان دمشق حزباً من ملاك الأراضي ورجال الدين وزعماء القبائل في مواجهة حزب فيصل. كان يقود الحزبَ المعارض مسؤولون سابقون أثناء الحكم التركي ونخبة شابة من المصلحين الدينيين أمثال رضا مؤسس مجلة المنار واسعة الانتشار وقتها.
اللافت هنا هو نجاح الطرفين في الوصول لاتفاق حول قضايا خلافية متعددة منها دور الإسلام في الحكم وحقوق الأقليات وتوازن القوى بين الملك والبرلمان وبين الحكومة المركزية والولايات.
وفي يوليو/تموز 1920، قدمت اللجنة الدستورية دستوراً كاملاً أسس للمملكة العربية السورية كملكية مدنية، وعلى عكس الدستور العثماني في 1909، والذي كانت تحكم سوريا من خلاله أثناء الحرب، لم يعد الملك خليفة ولا قائداً للمسلمين، ولن يكون الملك (فيصل) مقدساً كما لن يكون هناك قوانين سماوية بل قانون وضعي إنساني.
هذا الكلام يعني أن سوريا وضعت دستوراً مدنياً قبل تركيا بثماني سنوات، وقد شرح رشيد رضا رئيس الكونغرس أسباب ذلك في مذكراته، حيث كان الوسيط بين الليبراليين العلمانيين الذين أرادوا تأسيس جمهورية وبين الإسلاميين المحافظين الذين أرادوا حكومة قائمة فقط على القانون الإسلامي.
وفي النهاية وعلى عكس جميع الدساتير العربية الموجودة الآن، لم يذكر الدستور الحكم الإسلامي ولا الإسلام كدين رسمي للدولة.
دستور مدني للجميع
وأعطى الدستور صلاحيات ديمقراطية لسوريا عن طريق منح الجهة التشريعية (البرلمان) صلاحيات أقوى مما كانت لديه في ظل الدستور السابق، ويكون مجلس الوزراء مسؤولاً أمام البرلمان وليس أمام الملك ويكون للبرلمان وليس الملك صلاحيات الإشراف على نظام المحاكم ويمكن لأعضاء البرلمان اقتراح مشاريع القوانين بعد أن كانت تلك السلطة حكراً على رئيس الحكومة، كما تم إجبار رئيس الحكومة بعد مشادات عنيفة على تقديم برنامج حكومته لأعضاء البرلمان ليحصل على الموافقة، ومرة أخرى ذكّر رضا الملك فيصل بأنه في الحكم الديمقراطي تشتق السلطة التنفيذية قوتها من إرادة الشعب وأن البرلمان هو الممثل للشعب.
كما قلل الدستور من سلطات النخبة الأرستقراطية عن طريق إلغاء التعيين مدى الحياة في مجلس الشيوخ وبالتالي أصبح لابد من انتخاب معظم أعضاء مجلس الشيوخ الذي تم تجريده من صلاحية مراجعة القوانين التي يقرها البرلمان.
كانت أبرز المواد الخلافية هي مادة الاقتراع أو من له حق التصويت في الانتخابات ودار حولها جدل كاشف حيث وافق النواب على أن التصويت حق لكل سوري يبلغ من العمر 20 عاماً فما فوق، ولكن عندما اقترح عدد من النواب إعطاء حق التصويت للمرأة السورية اعترض المحافظون مدعين أن القانون الإسلامي لا يجيز ذلك، وقد غادر مقر البرلمان عدد من القادة الإسلاميين الأقوياء بطريقة عاصفة تعبيراً عن اعتراضهم.
ومرة أخرى تدخل رضا وتوصل لحل وسط على أساس أن القانون الإسلامي ليس محل تطبيق في تلك النقطة وأن الأمور العامة التي لا تتعلق مباشرة بالأمور العقائدية يتم الاحتكام فيها للتشريع المدني وليس القانون الإسلامي.
واقترح رضا أن الحفاظ على وحدة البرلمان هو الأهم الآن بسبب الغزو الفرنسي المحتمل، حيث كان على سوريا أن تثبت للعالم قدرتها على إرساء قواعد الحكم الديمقراطي المدني الحديث حتى تهرب من فخ الانتداب الذي أقره مؤتمر فرساي.
هل يتعظ الطرفان؟
وبالتالي اقترح رضا عدم التطرق نصاً لتصويت المرأة ووضع كلمة (الإنسان) كحل وسط دون تذكير أو تأنيث، على أساس أن استقلال سوريا هو الغاية الأهم في ظل تربص فرنسا التي تريد أن تظهر عدم قدرة السوريين على حكم أنفسهم وبالتالي تغزوهم وتضعهم تحت الانتداب، وهذه النقطة هي التي وحدت المعسكرين الليبرالي والإسلامي فتم إقرار الدستور الأفضل في تاريخ سوريا والعرب.
إن تراث ما حدث منذ قرن مضى من صعود حركات إسلامية قوية وصياغة دساتير مسيسة ومقيدة للحريات لا يزال العقبة الرئيسية في طريق الانتقال لحكم تعددي ديمقراطي في مصر وسوريا حتى اليوم.
صحيح أن هذا التراث التاريخي ليس هو العقبة الوحيدة أمام هذا الانتقال، إلا أنه ليس من الممكن تجاهله أو التقليل من شأنه، ولكن من المهم جداً أن تتم مواجهة هذا الشقاق من جانب قادة التيارين على السواء حال حدث ما يبدو مستحيلاً الآن وهو جلوس الطرفين على مائدة المفاوضات مرة أخرى.