بينما كان المحتجون السودانيون يحتشدون أمام بوابات مقر الجيش السوداني، مطالبين بالإطاحة بالرئيس عمر حسن البشير، خرج قائد سلاح الجو في البلاد لمخاطبتهم.
وقد أكد الفريق طيار ركن صلاح عبدالخالق، وهو من المحاربين القدامى في حروب السودان الكثيرة، للمحتجين أنهم لا يجب أن يخشوا من الجيش. وقال: "هذا الجيش هو جيشكم ولن نحاربكم".
لكن ما لا يعرفه سوى القليل من بين الحشود المتجمهرة أن ابن صلاح عبدالخالق كان من بين المحتشدين. قال الابن عبدالخالق صلاح، 28 عاماً، وهو طيار في شركة طيران تجارية دفعه إحباطه بسبب عقود من التراجع في عهد البشير إلى التظاهر خارج مكتب والده: "كان يجب أن أكون هنا".
الفريق طيار ركن عبد الخالق الذي كان جالساً بجانبه يوم السبت 20 أبريل/نيسان 2019 مرتدياً الزي العسكري في فيلتهما الغنية بالخرطوم، أومأ برأسه وقال: "لم أوافق في البداية، لكن هذا هو التغيير الذي أراده الشباب".
العائلات في السودان انقسمت حول البشير
تقول صحيفة The New York Times الأمريكية، إن الانقسام العائلي يعكس التوترات الأوسع في السودان، حيث يشارك القادة المدنيون والعسكريون في مفاوضات شاقة حول مستقبل هذا البلد الشاسع والفقير. يتنافس كل طرف للسيطرة، متعهداً بمحو تراث ثلاثة عقود من الحكم السيئ في ظل الزعيم الديكتاتوري، عمر حسن البشير.
أطاح الفريق طيار ركن عبدالخالق وغيره من كبار الجنرالات بالبشير في انقلاب غير دموي في ظلام ليلة 11 أبريل/نيسان 2019 قبل الفجر. وكشف عبدالخالق للمرة الأولى عن تفاصيل الانقلاب قائلاً إنهم استخدموا أجهزة التشويش لحجب هواتف البشير المحمولة، وعندما أدرك أنه جرى التغلب عليه، اندهش البشير واستشاط غضباً.
الآن الفريق طيار ركن عبدالخالق هو أحد أقوى رجال السودان، وهو جزء من المجلس العسكري الانتقالي المؤلف من عشرة رجال والمسؤول عن البلاد. ويقبع البشير، الرئيس السابق، في سجن سيئ السمعة في الخرطوم، ويخضع للتحقيق بتهمة غسل الأموال والجرائم المالية الأخرى. وقال الجنرال عبدالخالق إن النيابة العامة صادرت خلال عطلة نهاية الأسبوع 112 مليون دولار من منزل البشير.
الثورة لم تنتهِ بعد
لكن إسقاط البشير قد يكون الجزء السهل من ثورة السودان؛ إذ لا يزال عشرات الآلاف من المحتجين الشباب يعتصمون خارج مقر الجيش، ويرفضون المغادرة حتى يوافق الجيش على مطالبهم بتسليم السلطة سريعاً إلى حكومة مدنية. حتى الآن، كان الاعتصام سلمياً وضخماً، حيث جذب حشوداً كبيرة من الشباب السوداني الذين يغنون ويرقصون ويلقون الخطب، مرتاحين بشكل واضح من أن حكم البشير الكئيب قد انتهى.
لكن المحادثات حول مستقبل البلاد بين الجيش وقادة الاحتجاج، بقيادة اتحاد المهنيين السودانيين، انهارت في نهاية هذا الأسبوع، وتصاعدت التوترات.
في ليلة الأحد 21 أبريل/نيسان 2019، تجمع عشرات الآلاف من الأشخاص في واحدة من أكبر المظاهرات حتى الآن، حاملين هواتفهم الخلوية عالياً لخلق بحر من الأضواء. جلس المتظاهرون على حافة جسر السكك الحديدية، يدقون الحجارة في انسجام تام للتأكيد على هتافاتهم، الذي استهدفوا في بعضه الفريق عبدالفتاح البرهان الزعيم المؤقت للبلاد.
يوم الإثنين 22 أبريل/نيسان 2019، دعا الفريق البرهان المتظاهرين إلى التخلي عن نقاط التفتيش التي تطوق منطقة الاعتصام، حيث يقوم متطوعون يرتدون سترات صفراء بتفتيش المتظاهرين بأدب بحثاً عن الأسلحة. وأشار إلى أن الأمن هو مسؤولية الجيش فقط.
نظر المتظاهرون إلى التصريح بأنه محاولة أخرى لتقويض، وربما إنهاء الاحتجاج البهيج الذي يمثِّل أكبر نفوذ لهم.
وبعد يومين، في 24 من أبريل/نيسان، أعلن المجلس العسكري، مساء الأربعاء، أنه تم التوصل إلى اتفاق "على أغلب مطالب" قادة الاحتجاجات، بعد اجتماع بين الجانبين، بدون تقديم مزيد من الإيضاحات. وكان قادة الاحتجاجات قد دعوا إلى مسيرة مليونية، الخميس، للمطالبة بتسليم الحكم لسلطة مدنية، وهددوا بإضراب شامل.
ويقول الفريق طيار ركن عبدالخالق، في مقابلة، إنه يدعم الحكم المدني في نهاية المطاف. لكنه حذر من عواقب مظلمة إذا استمر قادة الاحتجاج في الضغط على الجيش لتنفيذ مطلبهم بتسليم السلطة على الفور إلى القادة المدنيين. وقال: "هذه الفكرة ستأخذنا إلى حرب أهلية".
خيبة أمل من الفساد
الأحداث الأخيرة تمثل تغييراً مفاجئاً للجنرال عبدالخالق، حيث كان منذ فترة ليست ببعيدة من أنصار البشير. مع تزايد الاحتجاجات في فبراير/شباط، قام البشير بترقية الفريق طيار ركن عبدالخالق إلى منصب قائد سلاح الجو كجزء من محاولة لدعم سلطته المتداعية.
لا تزال هناك صورة مؤطرة للرجلين تحتل مكانة زاوية في غرفة معيشة الجنرال عبدالخالق. ولكن بمجرد أن بدأ المحتجون اعتصامهم أمام بوابات مقر الجيش في 6 أبريل/نيسان، بدأ الجنرال في تغيير موقفه.
يقول الآن إنه شعر بخيبة أمل من الفساد، والعقوبات الأمريكية التي تسببت في رفض دخوله للعديد من الدول العربية والإفريقية والأوروبية.
ثم فقد السيطرة على قواته، عندما فتح مسلحون موالون للبشير النار على المتظاهرين، هجر بعض جنود سلاح الجو مواقعهم ودافعوا عن المحتجين. واندلعت معارك نارية متفرقة خارج البوابات العسكرية.
"عليّ أن أكون مع شعبي"
أصبح الحشد في تزايد، ثم تلقى الجنرال عبدالخالق رسالة نصية من ابنه صلاح تفيد بأنه انضم إلى الاحتجاج. جدير بالذكر أن الابن تعرف على البشير من خلال والده الجنرال.
يتذكر صلاح البشير قائلاً: "كان يتشارك النكات مع الجميع". لكن صلاح سئم من البؤس والعزلة التي ظهرت أثناء حكم البشير. كانت أسعار المواد الغذائية في ارتفاع، وكانت الأوراق النقدية في حالة نقص في المعروض بحيث كانت آلات صرف النقد فارغة.
تعرضت شركة الطيران الخاصة التي عمل صلاح فيها لصعوبات في الحصول على قطع الغيار نتيجة للتسمية الأمريكية للسودان كدولة راعية للإرهاب. في العام الماضي، تقدم صلاح بطلب للمشاركة في قرعة البطاقة الخضراء على أمل الهجرة إلى الولايات المتحدة.
قال: "كنت أعلم أن والدي داخل مقر الجيش. لكنني كسوداني. كان عليّ أن أكون مع شعبي".
البشير شعر أن رفاقه خانوه
وقال الفريق طيار ركن عبدالخالق إنه في منتصف ليلة 10 أبريل/نيسان، اجتمعت القيادة العليا العسكرية لمناقشة مصير الرئيس البشير. بعد ساعة وافقوا على الإطاحة به. خلال الساعات التالية، أطلع الجنرال عبدالخالق ضباطه الصغار على الأحداث. وقال الجنرال: "عليك التحدث معهم. من الخطير جداً عدم إخبارهم بما يجري".
في الساعة 5 صباحاً، غير الجيش الحرس المحيط بمنزل البشير، وحجب هواتفه المحمولة وغيرها من الاتصالات. وجرى إرسال ضابطين للتحدث مع البشير، الذي كان مرتبكاً، ثم أصبح غاضباً.
وقال الجنرال عبدالخالق: "لقد شعر أن الناس قد خانوه"، مضيفًا أن البشير ألقى اللوم على صلاح قوش، رئيس المخابرات في البلاد.
خارج بوابات مقر الجيش، انضم ابنه إلى المتظاهرين الذين كانوا يحتفلون في الشوارع. وقال: "احتفلنا، وحتى الآن أشعر أنه حلم. لا أحد يعتقد أن حكم البشير سيذهب هكذا".
منذ تلك اللحظة العصيبة، تبنت القيادة العسكرية مقاربة تصالحية مع المتظاهرين، ووافقت على العديد من مطالبهم. والبشير الآن محتجز في سجن كوبر، المكان الذي كثيراً ما يجري فيه حبس وتعذيب أعداؤه.
تُظهر الصور ومقاطع الفيديو التي قام الجيش بتوزيعها، والتي جرى التقاطها على ما يبدو في منزله، رزماً ضخمة من الفواتير بمئات الدولارات مكدسة على طاولة، وأكياس نقدية. وجرى وضع مساعدين آخرين للبشير رهن الإقامة الجبرية، مثل قوش، رئيس جهاز المخابرات المخيف، ونائب الرئيس السابق، علي عثمان طه، الذي هدد ذات مرة بإطلاق ميليشيات "الظل" ضد المتظاهرين.
وقال الفريق البرهان في بيانه يوم الإثنين 22 أبريل/نيسان 2019: "البعض منهم في سجن كوبر والبعض الآخر في أماكن أخرى".
يبدو أن القادة الجدد مرتاحون في المناصب الجديدة التي تولاها. بدأ الجنرال البرهان العمل من مكتب البشير القديم، في القصر الرئاسي على ضفاف النيل.
جدير بالذكر أن السعودية والإمارات العربية المتحدة اللتين أعلنتا يوم الأحد 21 أبريل/نيسان 2019 عن حزمة مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار للسودان، تدعمان الجنرالات.
لكن الجنرال عبدالخالق لا يزال في جو القصر والسلطة
ويعتقد الجنرال عبدالخالق أن "الشيوعيين" يقفون وراء المطالبة بالحكم المدني داخل صفوف المحتجين. وقال: "إنهم أقلية ولكن أصواتهم عالية. هؤلاء الناس يعارضون أي شخص في السلطة".
إن تحوّل الجنرال عبدالخالق إلى الحكم الديمقراطي له حدود صعبة. فهو يدافع عن الجيش السوداني ضد الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان في دارفور وجبال النوبة، حيث اُتهم سلاح الجو بقصف المدنيين. وهو يرفض إرسال البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، حيث يواجه الرئيس السابق تهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب.
وقال عن مسؤولين سودانيين متهمين بارتكاب مثل هذه الجرائم: "يمكنك محاكمتهم هنا. "لكن لا يمكنك تسليمهم لأشخاص بيض لمحاكمتهم. سنحاكم السود هنا".
ورداً على سؤال حول ما يشعر به البشير الآن، أجاب بابتسامة: "أنا سعيد لأنني لست في مكانه". وأضاف: "لا أدري ماذا سيكون شعوري إذا كنت في الشارع. لكنني في القصر".