في الرابع عشر من أبريل/نيسان الجاري، حلَّقت طائرة منفردة من طراز MiG-21 أو "ميغ-21" على ارتفاعٍ منخفض فوق العاصمة الليبية طرابلس. اشتهرت تلك الطائرة الأيقونية العتيقة سوفيتية الصُّنع بدخولها في معارك أمام المقاتلات أمريكية الصنع إبَّان الحرب الباردة. لكنَّ هذه الميغ على وجه التحديد كان يُحلِّق بها العقيد طيار جمال بن عامر لصالح قوات حفتر.
وبينما كان جمال يُحلِّق فوق المدينة المُطِلَّة على البحر المتوسط، فتح مقاتلو حكومة الوفاق الوطني المُنافِسة النيران باستخدام مدافع رشاشة ثقيلة سوفيتية. أثارت الأسلحة الكبيرة المُحمَّلة على الشاحنات سُحباً من الغبار أثناء إطلاقها وابلاً من طلقات مدافع رشاشة عيار 50 و57.
تقول مجلة The National Interest الأمريكية: بالتزامن تقريباً مع ذلك، فتح فريقان مزودان بصواريخ مضادة للطائرات محمولة على الكتف النار بعدما دخلت الطائرة بسرعة في نطاقهما. اندفع الصاروخان إلى السماء بضعفَي سرعة الصوت، وتقاطعت آثار الدخان الذي خلَّفاه وراءهما. أخفق أحد الصاروخين بوضوح في إصابة أهدافه، في حين اقتفى الصاروخ الحراري الآخر أثرَ عادم طائرة MiG-21 الساخن مباشرةً.
وفيما يهتف المقاتلون بحماس "الله أكبر"، يبدو أنَّ الصاروخ الثاني، وهو وفق بعض الروايات صاروخ FN-6 صيني الصنع، انفجر قريباً من هدفه. ومع أنَّ الإصابة لا تظهر في المقطع، فإنَّها تأكَّدت لاحقاً بصورٍ للحطام على الأرض، والتي يمكن مضاهاتها بصور واحدة من طائرات MiG-21 القليلة التي يُشغِّلها الجيش الوطني الليبي في قاعدة الوطية. أقرَّت قوات حفتر في النهاية بخسارة الطائرة. والتُقِطَت صور لابن عامر وهو يهبط بالمظلة. وأُنقِذ لاحقاً بمروحية تابعة لقوات حفتر من طراز Hind.
مواجهة عنيفة في طرابلس
جُهِّز المشهد الذي انطوى على تلك الأحداث المثيرة قبل ذلك بعشرة أيام في الرابع من أبريل/نيسان، حين دفع اللواء خليفة حفتر جزءاً كبيراً من مقاتليه البالغ عددهم 25 ألفاً في هجومٍ مفاجئ على مدينة طرابلس الساحلية، مقر حكومة الوفاق الوطني المُعتَرَف بها دولياً. وتقع قاعدة قوة الجيش الوطني الليبي في شرق ليبيا، في ظل وجود حكومة تتخذ من مدينة طبرق مقراً لها.
قبل هجوم حفتر، كانت هناك آمال بالتوصل إلى اتفاق سلامٍ جديد. في الوقت الراهن، تسيطر قوات حفتر على جزء كبير من ليبيا، لكنَّ حكومة الوفاق الوطني لا تزال تسيطر على مدينتَي طرابلس ومصراتة الساحليتين. ومع أنَّ حكومة الوفاق الوطني تحشد 5 آلاف مسلح في طرابلس، فإنَّ قوتها القتالية تنبع بالأساس من 18 ألف مقاتل تابعين لفصيل "فجر ليبيا" الإسلامي من مدينة مصراتة المجاورة.
وسعت قوات حفتر لتصوير حكومة الوفاق، التي لديها أيضاً علاقات مع الإخوان المسلمين، بأنها "تُروِّج للإرهاب". لكنَّ صفوف قوات حفتر أيضاً تضم الكثير من المقاتلين السلفيين المتشددين، أو "المدخليين"، المعروفين بآرائهم الثيوقراطية السلطوية وميلهم إلى التضييق على البدع مثل الاحتفال بـ "يوم الأرض".
الفصائل الليبية والولاءات المتغيّرة
وتُحبط الولاءات المتغيرة باستمرار للفصائل الليبية أي محاولة لتحديد "الرجال الجيدين" و "الرجال السيئين"، خصوصاً بعد القضاء على جيبٍ من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذين تحصّنوا في مدينة سرت بمساعدة قرابة 500 غارة جوية أمريكية.
وفي ظل غياب حكومة موحَّدة مختلة وظيفياً حتى، تكثُر الفظائع مثل أسواق النخاسة التي يُقايَض ويُبَاع فيها الأفارقة، وحلقات العنف الجنسي الجماعي، وحوادث القتل السياسي على يد الميليشيات المحلية. وتدفَّقت مخازن السلاح الضخمة، التي خلَّفها نظام القذافي الذي كان مُدجَّجاً بالسلاح، عبر الحدود لتؤجج التمردات في مالي والنيجر وبوركينافاسو.
اجتذبت الفصائل المتنافسة داعمين دوليين عديدين. فتدعم الإمارات وفرنسا وروسيا والسعودية ومصر قوات حفتر المعروفة باسم "الجيش الوطني الليبي"، وهذه الأخيرة تدعمه لأنَّ الحكومة العسكرية الحالية في القاهرة تُضيِّق الخناق على جماعة الإخوان المسلمين، الذي أطاحت أحد أفرعه من السلطة في عام 2013. وفي الوقت نفسه، تدعم قطر وتركيا حكومة الوفاق الوطني، التي تحظى كذلك رسمياً باعتراف (لكن دون الحصول على دعمٍ عسكري من) روما وواشنطن.
تقول الصحيفة الأمريكية، كانت الميغ-21 التي فُقِدَت يوم 14 أبريل/نيسان على ما يبدو منقولة من سلاح الجو المصري.
وعلى الأخص تجلَّت المساعدة الدولية لقوات حفتر وحكومة الوفاق الوطني في صورة التدريب، ودعم الصيانة، وحتى تقديم الطيارين المرتزقة. فشنَّت مقاتلاتٌ مصرية عدة غارات جوية نيابةً عن حفتر، في حين نشرت الإمارات سرباً من طائرات Air Tractor AT-802 (طائرات لرش المحاصيل زُوِّدَت بأسلحة) وطائرات بدون طيار صينية من طراز Wing Loong دعماً للجيش الوطني الليبي عام 2016. وبَنَت الإمارات كذلك منشآت طيران كبيرة يمكن استخدامها في عمليات الدعم التي ستنفذها مقاتلاتها في المستقبل.
ويحتفظ كلا الفصيلين بقرابة 12 طائرة مقاتلة عاملة، بالإضافة إلى حفنة من طائرات الشحن والنقل ومروحيات هجومية من طراز Mi-35، إمَّا قُدِّمَت سراً من الخارج أو موروثة من سلاح جو القذافي.
حرب جوية طويلة في سماء طرابلس
ووثَّق أرنو ديلالاند الحرب الجوية الطويلة بين الفصيلين بالتفصيل. تُحلِّق مقاتلات حكومة الوفاق الوطني من مطار معيتيقة في طرابلس، وكذلك من أحد المطارات في مصراتة. وتُشغِّل حكومة الوفاق طائرتين ثنائيتَي المحرك من طراز MiG-23MLD وطائرة أحادية المحرك من طراز Mirage F1EQ، وتنتمي مقاتلات كلا الطرازين إلى مقاتلات الجيل الثالث. لكنَّ قوة حكومة الوفاق القتالية الأساسية تنبع من طائرات التدريب البالغ عددها 12 تقريباً من طرازَيL-39ZO Albatros تشيكية الصنع وG-2 Galeb يوغوسلافية الصنع.
وتُعَد طائرات التدريب أسهل وأرخص في التشغيل، وبإمكانها أن تظل فعَّالة في مهام الهجوم الأرضي في الصراعات منخفضة الحدة. ويمكن لطائرات تدريب L-39ZO التي تستخدمها حكومة الوفاق حمل ما يصل إلى 1134 كيلوغراماً تقريباً من المتفجرات في نقاط التعليق الأربع الموجودة بها، في حين تحمل طائرات Galeb مدفعي رشاش عيار 50، لكن لا يمكنها حمل سوى 300 كيلوغرام تقريباً من الذخيرة.
وقبل بضعة أيام، زعمت "قوات الجيش الوطني الليبي" إسقاط طائرة من طراز L-39 من مصراتة فوق طرابلس. لكن بعكس حادثة MiG-21، لم تظهر بعد أدلة تدعم مزاعم الإسقاط.
نفَّذ سلاح الجو التابع لحفتر الجزء الأكبر مما يزيد على 1200 غارة جوية مُوثَّقة في ليبيا. كانت قاعدته الرئيسية هي قاعدة الجفرة الجوية في وسط ليبيا، لكنَّه يستخدم قاعدةً فرعية في الوطية، التي تبعد ثمانية أميال (13 كيلومتراً تقريباً) فقط من طرابلس، للهجمات التي يشنها على غربي ليبيا.
وبالإضافة إلى ثلاث طائرات من طراز MiG-23 وMirage F1، تسير قوات حفتر أيضاً ثلاث مقاتلات هجومية أرضية كبيرة من طراز Su-22 (سوخوي-22) وما يزيد على 12 مقاتلة خفيفة أحادية المحرك من طراز MiG-21، ولو أنَّ عدداً قليلاً فقط من تلك الأخيرة يعمل. وقد حصلت قوات حفتر على نصف طائراتها تقريباً من مصر والإمارات، بالإضافة إلى طائرتَي استطلاع بدون طيار. ومنذ أقامت موسكو علاقاتٍ مع حفتر، قدَّمت قطع غيار للطائرات الحربية السوفيتية.
وعادةً ما يرسل سلاحا جو الطرفين مقاتلاته بصورة مُفرَدة أو في ثنائيات لإطلاق قنابل وصواريخ غير مُوجَّهة. وفي معركة طرابلس الحالية، رُصِدَت مقاتلات قوات حفتر الهجومية من طراز Su-22 ومروحيات Mi-35 المُسلَّحة وهي تنفذ العشرات من مهمات الهجوم الأرضية، تماماً مثلما رُصِدَت طائرات L-39 التابعة لحكومة الوفاق.
وليس من المفاجئ أنَّ تلك الهجمات أسفرت عن سقوط ضحايا مدنيين. فيُحصي موقع Airwars.org مقتل 37 شخصاً على الأقل في الهجمات الجوية الأخيرة من كلا الجانبين، بينهم "طبيبان، وسيدة حامل، وصبي". وعلى ما يبدو تسبَّبت قذيفة تابعة لحكومة الوفاق الوطني في تحطُّم مجموعة كاملة من سيارات الإسعاف في طرابلس.
وسعى الجانبان كذلك لتدمير طائرات الآخر على الأرض. فنجحت طائرة MiG-21 أقلعت من قاعدة الوطية في تدمير مروحية نقل ثقيل من طراز CH-47 تابعة لحكومة الوفاق بمطار معيتيقة بتفجيرات قذائف دمَّرت المدرج. وردَّت حكومة الوفاق بغارة مضادة على قاعدة الوطية حاولت تفجير طائرة شحن متوقفة من طراز Il-76 لكنَّها أخطأت الهدف.
مَن يتقدم في المعركة على الأرض؟
تقول مجلة The National Interest، لم يجد هجوم حفتر حتى الآن إلا نجاحاتٍ متضاربة وغير أكيدة. فقواته تسيطر على منطقة أكبر بكثير من حكومة الوفاق، لكنَّ هذا يعني أيضاً أن لديه خطوط إمداد أكبر لحمايتها.
في غضون ذلك، أفادت الأمم المتحدة بفرار أكثر من 18 ألف مدني من القتال في طرابلس. ولا يمكن للمواطنين الليبيين الذين طالت معاناتهم إلا أن يأملوا اقتراب التوصُّل إلى نهاية لتلك الحرب، لكنَّ أحداث السنوات التسع الأخيرة بدَّدت آمال المتفائلين مراراً. وفي الوقت الراهن، قد يواصل سلاحا الجو المتعارضان في ليبيا تبادل الضربات، بمساعدة أكبر من كونها مجرد مساعدة بسيطة من داعميهما الدوليين.