بينما يتساءل العالم لماذا تؤيد فرنسا حفتر؟، كانت باريس تقول إنها "مصدومة، مصدومة" لاكتشاف أنَّ القائد العام الليبي، الذي ساعدت سراً في تسليح وتدريب قواته بدأ يزحف باتجاه طرابلس.
ربما أدَّى توقيت هجوم اللواء خليفة حفتر في وقتٍ سابق من هذا الشهر، أبريل/نيسان، على حكومة الوفاق التي يقودها رئيس الوزراء فايز السراج والمُعترَف بها من الأمم المتحدة –بالتزامن مع وجود الأمين العام للأمم المتحدة في المدينة للتحضير لمؤتمر سلامٍ طال تأجيله- بالفعل إلى إحراج باريس.
لكنَّ نية حفتر في الاستئثار بالسلطة، وليس تقاسمها، لم تكن مفاجأة، حسبما ورد في مقال لبول تايلور، المُحرِّر المساهم بمجلة Politico الأمريكية، والمتخصص في الشؤون الأوروبية.
لماذا تؤيد فرنسا حفتر؟ وأغضبت جارتها إيطاليا
انخرطت باريس بهدوء منذ عام 2015 على الأقل، في تمكين بارون بنغازي العسكري المتلألئ ليصبح رجلاً قوياً، تأمل أن يتمكَّن من فرض النظام في البلد الشاسع قليل السكان والمنتج للنفط في شمال إفريقيا، وتضييق الخناق على المجموعات الإسلامية التي ازدهرت في الفضاءات غير المحكومة في تلك الدولة الفاشلة.
وأثناء قيامها بذلك، دعست بلا أي لباقة على المصالح الاقتصادية والأمنية لجارتها بالاتحاد الأوروبي إيطاليا، القوة الاستعمارية السابقة في ليبيا، واللاعب الأجنبي الرئيسي في قطاعها النفطي. وتحمَّلت روما تدفق مئات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين الاقتصاديين عبر وسط البحر المتوسط، منذ أطاحت الحملة الجوية التي قادتها فرنسا بالديكتاتور معمر القذافي في 2011، الأمر الذي خلَّف فوضى ما بعد الحرب عقب ذلك.
وهي تدعم عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة علناً بينما ترسل جنودها سراً
تدعم فرنسا ظاهرياً عملية السلام التي تجري بوساطة الأمم المتحدة ويقودها وزير الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة، أستاذ العلوم السياسية المخضرم، المقيم في باريس.
ولم تعترف أبداً بتقديم الأسلحة والتدريب والمعلومات الاستخباراتية والقوات الخاصة لمساعدة حفتر. ومثَّل مقتل ثلاثة جنود فرنسيين سريين في حادث مروحية بليبيا عام 2016، اعترافاً نادراً بحضورها السري في العمليات ضد المقاتلين الإسلاميين آنذاك.
من جانبه، لم يبذل حفتر -وهو مواطن أمريكي ويُزعَم أنَّه حليفٌ مُبعَد للقذافي تلقَّى تدريباً من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) ويحظى بدعم تحالفٍ مُكوَّن من الإمارات والسعودية ومصر إلى جانب روسيا- جهداً لإخفاء سلاحه الفرنسي الحديث، الذي حصل عليه على الرغم من فرض الأمم المتحدة حظراً للسلاح.
جنود حفتر ليسوا كما تتمناهم فرنسا.. مرتزقة وسلفيون وميليشيات قبلية
بعض أتباع حفتر ليسوا بالضبط هم المحاربين العلمانيين الذين قد ترغب فيهم باريس، حسب وصف كاتب المقال.
وقالت ماري فيتزجيرالد، الباحثة في الشأن الليبي: "بعيداً عن نواة الجيش، تتألَّف القوات غير المتناغمة التي يشرف عليها حفتر من ميليشيات قَبَلية، وسلفيين متشددين على صلة بالسعودية، ومتمردين سودانيين، وقائد مطلوب من المحكمة الجنائية الدولية على خلفية ارتكابه جرائم حرب مزعومة".
لكنَّ هذا لم يمنع باريس من الأخذ بيده سياسياً.
ماكرون دعا حفتر إلى قصره وتجاهل الإيطاليين
فكانت واحدة من أول وأبرز مبادرات الرئيس إيمانويل ماكرون بُعيد فوزه بالرئاسة في 2017 دعوة حفتر والسراج إلى قصرٍ خارج باريس، لمحاولة التوسط في اتفاقٍ لتقاسم السلطة.
ولم يُكلِّف نفسَه عناء إشراك الإيطاليين. ففي نهاية المطاف، كان ذلك جزءاً من حملة من اجتماعات القمة لإظهار عودة فرنسا إلى الساحة الدولية.
ويبدو أنَّ وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، مهندس استراتيجية "دعم حفتر" حين كان وزيراً للدفاع، على خلافِ ما كان يراه خبراءُ وزارة الخارجية، قد أقنع الرئيس الشاب بأنَّ ليبيا ثمرة سهلة القطف.
فهنا كانت تكمن الفرصة لإظهار مهارات ماكرون في بلدٍ لطَّخ فيه سلفه قبل الأخير، نيكولا ساركوزي، سمعته بالتقرُّب من القذافي، ثُمَّ قاد حملةً جوية للإطاحة به باسم "التدخُّل الإنساني".
الرئيس الشاب استخفَّ بتعقيدات الوضع الليبي، هؤلاء لن يقبلوا حفتر
وقال طارق المجريسي، الباحث الليبي بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "أُسيء تقديم النصح لماكرون على نحوٍ دفعه للتفكير في أنَّ ليبيا قد تُمثِّل فوزاً سريعاً لتعزيز كاريزمته. لقد استخفَّ بتعقيد البلاد. وحاول الاعتماد على الأفراد العسكريين لحل مشكلةٍ سياسية".
ويُصِرُّ المسؤولون الإيطاليون على أنَّهم يفهمون الديناميات الاجتماعية المعقدة في ليبيا أفضل، ويؤكدون أنَّ حفتر لن يتمكَّن من نيل ولاء قبائل التبو والطوارق التي تهيمن على جنوب ليبيا أو الفصائل المحلية المتعددة شمال غربي البلاد.
النفط الحرام.. فرنسا تريد الامتيازات من الإيطاليين
يقول منتقدو فرنسا إنَّ "المكاسب" المحتملة من عقود إعادة الإعمار وزيادة أعمال شركة النفط الفرنسية الكبيرة Total تُمثِّل أحد مُحرِّكات باريس في سياستها تجاه ليبيا.
إذ انتزع حفتر، الذي يسيطر على شرقي ليبيا من معقله خارج بنغازي، حقول النفط الرئيسية التي تُشغّشلها شركة إيني الإيطالية في الجنوب في وقتٍ سابق من هذه السنة، قبل أن يُوجِّه بنادقه باتجاه العاصمة.
فالحصول على امتيازات النفط الليبي هو أحد أهداف دعم فرنسا لحفتر حسبما يلمح الكاتب.
وقالت شخصية فرنسية بارزة مطلعة على سياسة الحكومة إنَّ دعم حفتر مدفوع جزئياً بضرورة وقف إمدادات الأسلحة للمجموعات الجهادية التي تُهدِّد الحكومات الهشَّة في النيجر وتشاد ومالي، المدعومة من "عملية برخان" العسكرية الفرنسية.
ولكن أهم ما يجعل حفتر جذاباً لباريس هو حلفاؤه
لكنَّ المسؤول الفرنسي قال إنَّ حب باريس لرجل ليبيا القوي يتعلَّق بتحالفاته الاستراتيجية في أنحاء الشرق الأوسط، الأوسع نطاقاً بدرجة أكبر بكثير من الاعتبارات التجارية.
فباريس تصطف إلى جانب الحكام الإماراتيين والسعوديين والمصريين، الذين باعتهم أسلحة بالمليارات، في مقابل تحالفٍ أكثر تفكُّكاً يضم قطر وتركيا وجماعة الإخوان المسلمين العابر للحدود الوطنية، التي حكمت مصر لفترة وجيزة قبل أن يُطاح بها في انقلابٍ عسكري عام 2013.
يربط صانعو السياسة الفرنسيون هذا الصراع الإقليمي بمعركتهم ضد التمرُّد الإسلامي في حزام الصحراء والساحل والإرهاب في داخل فرنسا، الذي يُمثِّل أولوية الأمن القومي الأولى لديهم، لاسيما منذ هجمات نوفمبر/تشرين الثاني 2015، في باريس، التي أسفرت عن مقتل 130 شخصاً.
فبعد الربيع العربي أصبحوا يبحثون عن الرجل القوي في كل مكان
فبعد عدم الاستقرار الذي أطلقته انتفاضات الربيع العربي، أصبحت الرؤية المهيمنة داخل الدوائر الحكومية في باريس هي أنَّ حلول الرجال الأقوياء هي السبيل الوحيد لكبح التشدُّد الإسلامي والهجرة الجماعية، أمَّا حقوق الإنسان والديمقراطية فلهما الحظ العسر.
لهذا ينظر الفرنسيون بقلقٍ إلى الأحداث في الجزائر، مستعمرتهم السابقة والمُورِّدة الرئيسية للغاز إليها، حيث أُجبِر الرئيس المريض عبدالعزيز بوتفليقه (82 عاماً) على الاستقالة بعد 20 عاماً في السلطة، بفعل احتجاجات جماهيرية داعمة للديمقراطية لم تخفت حدتها على الرغم من تحذيرات الجيش.
ويشير سقوط بوتفليقة إلى السبب الذي يجعل استراتيجية باريس محفوفة بالمخاطر. فحفتر ليس شاباً، بل يبلغ من العمر 75 عاماً، وخضع لستة أسابيع من العلاج الطبيعي في فرنسا العام الماضي، ولا يوجد خليفة واضح له على الرغم من أنَّه عيَّن أبناءه في مواقع رئيسية. كما أنَّه يُقدِّم أداءً قوياً في دور الرجل القوي كذلك.
وها هو يتعثر على أبواب طرابلس
وقال أرتورو فارفيلي، رئيس مركز الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية في ميلانو: "أراد (حفتر) دخول طرابلس دون حمام دم، باعتباره مُنقِذاً وطنياً من الميليشيات، لكنَّ الأمر لم يسر على هذا النحو".
إذ واجه الهجوم على طرابلس مقاومةً أقوى مما توقَّع حفتر. فلم تُبدِّل الميليشيات ولاءها وتنضم إلى صفّه. وقُتِل العشرات ونزح الآلاف. وربما تواجه ليبيا جولة أخرى طويلة من القتال، بدلاً من السيطرة السريعة على العاصمة.
وبعيداً عن الضرر الذي لحق ليبيا والليبيين، يصعب تصوُّر كيف يمكن لهذا الوضع أن يساعد معركة فرنسا، سواء مع الإرهاب أو الهجرة غير المنضبطة.