"إذا كان العصر الماضي هو عصر الإمبراطورية والفوضى والإرهاب، فإن الحالي هو عصر النساء"، كلمات للشاعرة السودانية الشابة فاتن علي (25 عاماً)، تراها معبرة عن مشاركة الكثير من الفتيات والنساء في التظاهرات التي أطاحت بالرئيس عمر البشير.
فبقوة، وبشكل منقطع النظير، فرضت المرأة السودانية نفسها على المواكب الاحتجاجية التي شهدتها البلاد بشكل شبه يومي منذ أشهر، وحتى عزل البشير في الحادي عشر من الشهر الجاري، وما تلا عزله من احتجاجات ضد المجلس العسكري الذي يقود البلاد حالياً.
مشاركة قوية وفعّالة
وتعظيماً لهذه المشاركة الفعالة نظّم "تجمع المهنيين السودانيين" الذي يقود الاحتجاجات في البلاد، أحد الموكب في وقت سابق، تحت شعار "إحياء نضالات المرأة السودانية"، وذلك عرفاناً بدور المرأة في تلك الاحتجاجات، التي كانت تشعلها بالزغاريد تارة وبالهتافات تارة أخرى.
مشاركة قوية وفعّالة، لم يخفض صوتها أو ينل من عزيمتها، تعرض الناشطات للمضايقات التي وصلت أحياناً إلى الاعتقال والضرب والعنف اللفظي، كما تعرّضت صحفيات وقيادات حزبيات للاعتقال أكثر من مرة إبان الاحتجاجات. تلك المشاركة النسائية البارزة، ارتبط اسمها في الإعلام المحلي بلقب "الكنداكات"، الذي نقله أيضاً إعلام غربي، وهو لقب أتى من قلب التاريخ القديم.
ويُطلق هذا اللقب في السودان على الفتيات والنساء السودانيات بغرض تمجيدهن، و"الكنداكة" لفظ يستخدم لملكات "مملكة مروي" التاريخية في القرن الثالث قبل الميلاد.
وفي 11 أبريل/نيسان الجاري، عزل الجيش السوداني الرئيس عمر البشير، بعد 3 عقود من حكمه البلاد، على وقع احتجاجات شعبية متواصلة منذ نهاية العام الماضي.
وشكّل الجيش مجلساً عسكرياً انتقالياً، وحدد مدة حكمه بعامين، إلا أن رئيسه وزير الدفاع عوض بن عوف، استقال بعد يوم من توليه المنصب جراء رفض شعبي، وخلفه "عبدالفتاح البرهان"، وسط محاولات للتوصل إلى تفاهم مع أحزاب وقوى المعارضة بشأن إدارة المرحلة المقبلة.
"حكم البشير كان الأعنف في تغييب النساء"
ووفق الشاعرة فاتن علي، فإن النساء المشاركات في المظاهرات التي اندلعت 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، يرين أن حكم البشير الذي امتد لثلاثين عاماً كان الأعنف في تغييب النساء وتهميشهن وكبتهن، ما خلق لديهن "طاقةً تراكمية قويّةً جداً.. طاقة رفض، وتمرّد ضد هذا النظام".
"تلك الطاقة تحولت إلى مساهمة لصالح استمرار المظاهرات بمشاركة نسائية كبيرة"، على حد قول فاتن، وهي إحدى الناشطات اللائي ارتبط اسمهن بالحرك الدائر في السودان.
وتؤكد فاتن من الخرطوم أنها شاركت مع أخريات كثيرات في جميع المظاهرات التي دعا إليها "تجمعُ المهنيين السودانيين" الذي يقود الاحتجاجات في البلاد.
ووفق مراقبين، عرف عهد البشير تهميشاً كبيراً لدور المرأة في المناصب الحكومية والمجالس المنتخبة، فلم تتولّ سوى حقائب وزارية قليلة جداً وهامشية، ربما لا تتعدى الحقيبة أو الاثنين في كل حكومة، كما لم تسلم النساء المعارضات من الاعتقالات والتضييقات الأمنية في عهده أيضاً.
أكاديميات في مواكب السودان
وإلى جانب الشاعرة فاتن، هناك الأكاديمية غادة كدودة، نجلة القيادي الشيوعي الراحل، فاروق كدودة، وشاركت هي الأخرى في المظاهرات المستمرة لأربعة أشهر، ونالت كذلك لقب "كنداكة".
وفي حديثها للأناضول، تقول كدودة إنها تعيش الآن "أحلى" أيامها بعد إسقاط البشير، و"إن يوم 6 أبريل (نيسان) 2019 أعاد إليّ ذكريات طفولتي عندما شهدت سقوط حكومة الرئيس جعفر نميري في اليوم نفسه من عام 1985″.
وتوضح: "في يوم 6 أبريل الماضي، كنا نمضي بمظاهراتنا نحو المجهول.. لم أصدق نفسي وأنا بين الآلاف نقتحم الساحة المحيطة بقيادة الجيش (بالخرطوم) ونؤسس للاعتصام المستمر حتى الآن.. كانت لحظات عصيبة بالنسبة إليّ".
وكدودة التي تخرجت في جامعة الخرطوم، كلية العلوم الرياضية، والحاصلة على الدكتوراه في "هندسة البرمجيات" من جامعة "لفبرا" بالمملكة المتحدة، تضيف: "أنا أطالب بالتمثيل المتساوي للنساء في الحياة العامة".
وتشير كدودة إلى أنها كانت شديدة الانحياز للتدريس في الجامعات السودانية، "لمساعدة الأهالي على تحسّس مشاكلاتهم ومخاطرهم الحياتية والتعبير عنها مباشرة، إلى جانب استقاء المعرفة من المفاهيم العامة لدى الناس في أماكنهم".
ونشطت كدودة، قبل تفرغها للمظاهرات الأخيرة، في "توطين دراسات ومعارف سودانية" بعيداً عن العلوم والمعارف المستوردة، إلى جانب بحثها في مجال الإنثربلوجي والدراسات النسوية، وفق حديثها. وتقول: "لا أستطيع حصر نفسي في حقل معرفي واحد، فأنا متشعبة.. والهدف الرئيسي لديَّ هو أن أساعد في تحقيق العدالة الاجتماعية قدر المستطاع".
وكانت تعمل بحماس في (الجمعية السودانية للمعرفة) التي تأسست في 2013 لتعمل في حقل المعرفة وتوظيفها ومشاركتها، ومساعدة المؤسسات والأفراد في الانغماس في الحياة المعرفية، وصولاً إلى مجتمع معرفي في السودان.
وعاشت كدودة جزءاً من حياتها في الجزيرة الكاريبية "باربيدس"، إلى أن عادت إلى السودان عام 2005، وتقول إن وجودها في تلك الجزيرة ومعايشتها لمشكلات سكانها، مثل مشكلة الصرف الصحي الذي ابتدعه السكان محلياً، فتح ذهنها للاشتباك بين مسارين، تقني وتنموي، إلى جانب التفكير العميق فيما يمكن أن تقدمه لبلدها.
وترى كدودة في التعليم المستمد من البيئة المحلية، وسيلة للثورة على القهر، وصولاً إلى الحرية وإلى تمكين المقهورين من مقدراتهم. وتقول عن نفسها: "أنا أكاديمية.. وواحدة من المشروعات المولعة بها هو تصميم التقنية في التنمية لتدرَّس في الجامعات، وكيفية الاستفادة من حماس الطلاب واندفاعهم للاشتباك مع المعرفة المحلية".