تتواصل آلية فرض العقوبات. كانت ردود الفعل سريعة عندما صنّفت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحرس الثوري الإيراني منظمة أجنبية إرهابية، في خطوة أذن بها البيت الأبيض، إذ إنَّها المرة الأولى على الإطلاق التي تُسمّي فيها الولايات المتحدة كياناً تابعاً لحكومة أخرى أنَّه منظمة إرهابية أجنبية.
وقد أدان قادة إيرانيون من مختلف الأطياف السياسية في طهران هذا التصنيف، فقد أعرب جميع أعضاء البرلمان الإيراني تقريباً عن تضامنهم بحضورهم جلسة اليوم التالي، مرتدين الزي العسكري للحرس الثوري. وفي واشنطن، اعتبر خبراء أن هذا التصنيف استفزاز سياسي محفوف بالمخاطر، لن يسهم كثيراً في إضافة ضغط مُجدٍ على إيران، المُستهدفة بالفعل بالعشرات من الأوامر التنفيذية والتشريعات مثل قانون العقوبات الشاملة على إيران والمساءلة وسحب الاستثمارات لعام 2010 وقانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات لعام 2017.
ترامب يريد تعقيد جهود أي رئيس بعده يحاول الدخول في صفقة مع إيران
وتقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، لكن هذه الاعتراضات تغاضت إلى حدٍّ كبيرٍ عن المنطق الكامن وراء إضافة مسمّيات، على الرغم من المكاسب المحدودة الناجمة في نهج الضغط الاقتصادي. فأصبح لدى واشنطن حالياً بنية تحتية مؤسسية وقانونية، وأخرى للرصد واسعة النطاق، مُكرّسة للحفاظ على استمرار العقوبات الاقتصادية.
يسعى مؤيدو العقوبات حالياً إلى تطبيق قيود جديدة بطرق تزيد من صعوبة رفع العقوبات في نهاية المطاف، وذلك جزئياً للحفاظ على عمل المجموعة الصناعية المتشابكة والناشئة الخاصة بالعقوبات، وهي شبكة من الوكالات الحكومية ومكاتب المحاماة والشركات التقنية والمراكز البحثية لديها مصلحة راسخة في التوسَّع المستمر لبرامج العقوبات.
دعا مارك دوبويتز، الرئيس التنفيذي لأحد مراكز الأبحاث، الذي كان من أشد المؤيدين علناً لتسمية الحرس الثوري "منظمة إرهابية أجنبية"، إدارة ترامب، إلى فرض عقوبات على إيران بطريقة تُلحق ضرراً جسيماً بطهران من الناحية السياسية، وتعقّد قانونياً جهود أي رئيس ديمقراطي محتمل لإعادة الدخول في صفقة نووية عام 2021. وعلى هذا النحو، ثمة خطر أن تصبح الحروب المالية الأمريكية الآن هي الحروب الأبدية الجديدة. بالنسبة لأولئك الملتزمين باستخدام العقوبات أداةً لممارسة الدبلوماسية القسرية، لم يعد السؤال المهم بعد الآن يتمثَّل في كيفية توجيه العقوبات على نحو فعال، بل فيما إذا كان التخفيف الفعَّال لها ممكناً عندما تتطلب الظروف السياسية المتغيرة رفعها.
تضيف Foreign Policy، يُعتبر مصطلح "تخفيف العقوبات" مصطلحاً غريباً، لأنَّه يهدف إلى إبطال نتائج السياسات المختارة عمداً، على عكس جهود الإغاثة لتخفيف آثار الكوارث الطبيعية. يبدو تخفيف العقوبات أيضاً أداة واهنة للغاية في مواجهة برامج العقوبات التي يجري تصويرها على نحوٍ متزايد باعتبارها وسيلة لشن حرب مالية.
عندما تنتهي النزاعات وتتحول السياسات من الإكراه إلى التعاون، يتطلب رفع العقوبات بطريقة فعّالة تجاوز مجرد التخفيف. ومع تراكم آثار الضغوط الاقتصادية، يتحتم أن تأتي جهود إعادة الإعمار، وليس مجرد التخفيف، في أعقاب الرفع القانوني للعقوبات. فقد تصبح المنافع الناجمة عن تخفيف العقوبات أكثر مصداقية وجدوى فقط في حالة اتخاذ إجراءات فعَّالة لإعادة الاقتصادات المستهدفة سابقاً بالعقوبات إلى حالة النمو والرخاء المستدام.
وهذا بدوره سيعطي الدبلوماسيين نفوذاً أكبر على طاولة المفاوضات. لكن لسوء الحظ، يفتقر صانعو السياسات الأوروبيون والأمريكيون حالياً إلى الأدوات المناسبة الكافية للحد من الضرر، وذلك وفقاً لما أظهرته الأحداث الأخيرة في إيران والسودان.
الإدارة الأمريكية تفتقر للتعامل مع برامج تخفيف أو تصعيد العقوبات
يوضّح مسار إيران خلال السنوات الثلاث الماضية كيف أنَّ المستخدمين الشرهين للعقوبات، مثل الحكومة الأمريكية، غالباً ما يفتقرون إلى الوسائل اللازمة لرفعها على نحوٍ فعّال، وهو قصور قد تكون له آثار خطيرة على السياسة الدولية. في 16 يناير/كانون الثاني 2016، نفَّذت الولايات المتحدة الأمريكية تخفيفاً واسعاً للعقوبات، في مقابل تشديد الرقابة على برنامج إيران النووي في إطار الاتفاق النووي مع طهران.
وقد أشار نصُّ الاتفاق إلى أنَّ الصفقة تهدف إلى "الوصول إلى رفع شامل لجميع العقوبات التي فرضها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على طهران، وكذلك العقوبات الأمريكية ومتعددة الأطراف المُتعلّقة بالبرنامج النووي الإيراني، من بينها اتَّخاذ خطوات نحو إمكانية الوصول الإيراني إلى مجالات التجارة والتكنولوجيا والتمويل والطاقة".
لكن بينما رفعت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما العقوبات فعليّاً من الناحية القانونية، فشلت إلى حدٍّ كبير في تحقيق منافع ملموسة لإيران، من جراء هذا التخفيف من وطأة العقوبات. ووفقاً لوزير الخزانة الأمريكي آنذاك، جاك لو، لم تعمل إدارة أوباما كثيراً على "التواصل العالمي لمساعدة الحكومات والشركات على فهم قرار تخفيف العقوبات".
لم يعد أحد يريد الاقتراب من إيران حتى وقت رفع العقوبات عنها
لم يكن لدى المسؤولين الأمريكيين خبرة في رفع مثل هذا البرنامج الواسع من العقوبات. لقد شعروا بالصدمة من جراء اكتشاف أنَّ 10 سنوات من فرض العقوبات الصارمة قد غيّر بصورة جوهرية تقارير تقييم المخاطر للشركات والمؤسسات المالية الكبرى، المُتوقع أن تستأنف نشاطها التجاري في إيران. لم يعد أحد يرغب في الاقتراب من البلد، بغضِّ النظر عما قالته واشنطن.
وفي شهر مايو/أيَّار 2016، التقى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري بمسؤولي الامتثال في البنوك، في اجتماع مشين في لندن، لتوضيح وضع العقوبات الأمريكية ضد طهران، وتشجيع مؤسساتهم المالية على استئناف المعاملات والصفقات المتعلقة بإيران.
لكن ما يقرب من عقد من العقوبات المفروضة مع غرامات تبلغ قيمتها مليار دولار تسبَّب في إحجام العديد من البنوك كلياً عن إيران. قرر مسؤولو الامتثال في البنوك سريعاً أنَّ الإيراد الحدّي المحتمل المُقدّم من إيران لم يكن يستحق التدقيق المتزايد من المنظمين والمساهمين، خاصةً بالنظر إلى الالتزام السياسي الهش الذي استند إليه رفع العقوبات.
سخر ستيوارت ليفي، مدير الشؤون القانونية لبنك HSBC ونائب وزير الخزانة الأمريكيّة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية في الفترة من 2004 إلى 2011، من كيري في مقال افتتاحي، مشيراً إلى أنَّه لم يجر تقديم "أي ضمانات" حول كيف ستنظر الجهات التنظيمية وسلطات إنفاذ القانون الأمريكية لاحقاً، إلى ممارسة الأعمال في إيران، في حالة حدوث تغيير في الإدارة، بالضبط كما حدث عندما تولَّى دونالد ترامب منصبه بعد أقل من عام.
على الرغم من بقاء الرئيس السابق باراك أوباما في منصبه، أدَّى إحجام البنوك ووصمة العقوبات المستمرة إلى خنق قدرة إيران على جذب الاستثمارات الأجنبية التي تشتد الحاجة إليها. ووفقاً لدراسة استقصائية أجرتها شركة Bourse & Bazaar بتكليف من مجموعة الأزمات الدولية، في الفترة من ديسمبر/كانون الأول 2017 إلى يناير/كانون الثاني 2018، أشار 83% من كبار المديرين في الشركات متعددة الجنسيات العاملة في إيران إلى أنَّ شركاتهم "تتحرك بوتيرة أبطأ" باتجاه السوق الإيراني، وعزوا ذلك التباطؤ إلى المخاوف المتعلّقة بالعقوبات الأمريكية والصعوبة ذات الصلة في تأمين الخدمات المصرفية.
أوروبا تصارع الآن تحدياً جديداً لتخفيف العقوبات عن إيران
وعندما كانت إدارة ترامب تستعد للانسحاب من الاتفاق النووي في أوائل عام 2018، كان بعض معارضي الاتفاق يجادلون بأنَّ ترامب يجب ألا ينسحب ويتجنب الخلاف السياسي مع الحلفاء الأوروبيين، على أساس أنَّ إيران لم تكن تُحقق فائدة اقتصادية كبيرة من هذه الصفقة.
انسحب ترامب أخيراً في مايو/أيَّار 2018، وبدأ ما سمَّاه حملة ضغط جديدة قصوى ضد طهران. أجبرت هذه الخطوة الدول الأوروبية الموقّعة على الصفقة النووية على التدافع للحفاظ على بعض المنافع الاقتصادية لإيران.
أسست فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة آلية مالية لدعم التبادل التجاري مع إيران، تدعى "INSTEX". تهدف تلك الآلية إلى تنسيق المدفوعات حتى يتمكَّن المصدّرون الأوروبيون من الحصول على مستحقاتهم المالية، مقابل مبيعاتهم للمستوردين الإيرانيين من أموال موجودة بالفعل في أوروبا، وذلك في موازنة بين الدفعات المستحقّة من مستوردين أوروبيين لعمليات الشراء التي أجراها مصدّرون إيرانيون. تُعد هذه الآلية لدعم التبادل التجاري مثالاً على كيف تصارع أوروبا الآن تحدياً جديداً لتخفيف العقوبات، وكيف يمكن ضمان تحقيق منافع اقتصادية للبلدان المستحقة في مواجهة عقوبات ثانوية من دولة تمثل طرفاً ثالثاً.
أثناء هذا، أُضعف موقف الرئيس الإيراني حسن روحاني، إذ أشار منافسون محلّيون إلى الوضع الاقتصادي المتدهور، باعتباره دليلاً على سوء إدارته وخطأ قرار الدخول في مفاوضات دبلوماسية مع الغرب. قد تكون تجربة إيران المريرة مع تخفيف العقوبات قد أضرَّت بفرص إجراء مفاوضات دبلوماسية مستقبلية بشأن البرنامج النووي لطهران.
العقوبات الأمريكية تسبَّبت في تبديل هيكلة الاقتصاد السوداني
ولا تُعتبر إيران الدولة الوحيدة التي أدَّى فيها الفشل في تحسين الوضع مع تخفيف العقوبات إلى حدوث أزمة سياسية. إذ تسبَّبت أيضاً الطريقة المتهوّرة، التي اُنهيت بها العقوبات في السودان، في زعزعة السياسات الداخلية. ولم يجنِ المجتمع السوداني مكاسبَ ملموسة تُذكر بعد رفع معظم العقوبات الاقتصادية، في أكتوبر/تشرين الأول 2017، التي كانت مفروضة على الخرطوم منذ أواخر تسعينات القرن الماضي. وكما كتبت نسرين مالك في مجلة Foreign Policy الأمريكية العام الماضي، تسبَّب عقدين من العقوبات الأمريكية في تبديل هيكل الاقتصاد السوداني، إذ أدَّت عزلة البلد إلى خلق قطاع مصرفي غير رسمي منفصل عن النظام المالي العالمي.
شكّل إنهاء العقوبات صدمةً بالنسبة للسودان في مواجهة العولمة. فبعد إعادة فتح الأسواق التجارية أمام السودان، غرقت البلد، التي تعتمد على الدولار، في أزمة اقتصادية كبيرة مع ارتفاع معدّل التضخم إلى 64% وانخفضت الواردات والإيرادات الحكومية وخسر الجنيه السوداني 86% من قيمته أمام الدولار في 10 أشهر. وكما حدث في إيران، أدَّى فشل صانعي السياسة الغربيين في إعادة صياغة نهج ملائم ولغة خطاب إزاء السودان إلى إحجام الشركات الأجنبية عن العودة للعمل بالبلد، مما أدى إلى نضوب الاستثمارات الأجنبية.
ومن ثمَّ، فمن دون إعادة توجيه للجهود الدبلوماسية، استمرت التداعيات المتعلّقة بسمعة السودان وإيران باعتبارهما بلدين مفروضاً عليهما عقوبات. وكما كتبت نسرين بالنسبة للسودان، فإنَّ ربط اسمها بالعقوبات وسنوات من الضغط الاقتصادي يثبتان أنَّهما يشكّلان تحدياً مستعصياً.
أشار ألدن يونغ، الخبير في الشأن السوداني، إلى أنه مع مرور الوقت جعلت العقوبات السودان أكثر اعتماداً على الدولار الأمريكي، نظراً إلى أن الحصول على هذه العملة الصعبة صار يشكل الطرق الوحيدة من أجل الوصول إلى الأسواق العالمية. وبعد رفع العقوبات، واجهت الخرطوم نقصاً في الاحتياطيات النقدية من الدولار، وفي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وفي أسواق الصادرات.
تسبَّب قرار الحكومة في خفض الدعم عن الغذاء والوقود مطلع 2018، في زيادة حالة الاستياء الموجودة بالفعل من ديكتاتورية الرئيس عمر البشير، ونتجت عنها احتجاجات كبيرة في ديسمبر/كانون الأول. بدأت الحكومة حملة قمعية للانعطاف بمسار الاحتجاجات، وتعرَّضت بالاعتقال والإيذاء لآلاف المحتجين، بينما كانت تقترب من حكم عسكري مباشر. وفي نهاية المطاف، فشلت الحكومة في سحق المتظاهرين. وفي هذا الصدد، تحرَّك الجيش في الأسبوع الماضي لإطاحة البشير، حتى إذا كان مصير عملية انتقال السلطة التي يشرف عليها الجيش مبهماً بالنسبة للبلد.
آثار العقوبات على الدول لا تزول بسرعة وتحتاج وقتاً طويلاً
كان رفع العقوبات الأمريكية عن السودان بكل تأكيد الخطوة الصحيحة: فلم تفلح هذه العقوبات لعقدين من الزمان، ويتفق المراقبون على أنها لم تفعل شيئاً سوى مجرد تقوية النظام السوداني. ولكن لا يكاد أي شخص يتوقع أن تأتي آثار رفع العقوبات بسرعة، ولا أن الطريقة التي رُفعت بها أضرت بالاقتصاد والمجتمع السوداني. بالرغم من رحيل البشير، سوف يتطلب الإرث المادي للعقوبات الاقتصادية انتباهاً خاصاً إذا أرادت السودان تجاوز حكمه البالغ 30 عاماً.
كان من الممكن تجنُّب الفوضى الاقتصادية في السودان إذا تضمّنت عملية تخفيف العقوبات ما هو أكثر من نخب الأمن الوطني والسياسة الخارجية. وكان متوقعاً كلياً أنه من دون وجود دعم خارجي، سوف تفرض سياسات التكيف الهيكلية مزيداً من التكاليف على الشعب السوداني. وُجِدت حاجة آنية إلى دعم مالي خارجي قوي في صورة قروض من العملة الصعبة، وترتيبات مقايضة بين البنوك المركزية. وعلى نطاق أوسع، وَجَبَ انخراط خبراء التنمية من أجل المساعدة في العودة إلى الأسواق العالمية، وفي الوقت ذاته ثمة حاجة إلى المنظمات الإنسانية لضمان الإمداد المستقر للطعام. كانت جهود مماثلة سوف تساعد أيضاً في معالجة الضغوط السياسية والاقتصادية المحلية في إيران بعد الاتفاق النووي.
تُظهر قضيتا إيران والسودان بكل وضوحٍ وجوب ابتكار منهجيات أكثر استباقية وشمولية، تجاه ما يُعرف بـ "تخفيف العقوبات". إذ يجب أن تتنبأ مثل هذه المنهجيات بالآثار السياسية المحلية والدولية لرفع القيود. وتشكل معالجة هذه المشكلة تحدياً صعباً نظراً إلى أن إدارة ترامب تهدد بفرض برنامج عقوبات أوسع نطاقاً ضد روسيا وفنزويلا، وتوسع نطاق استهداف شركات بعينها حول العالم.
الإفراط في زيادة العقوبات يثقل عبء الاقتصاد العالمي بشدة
بل إن مؤيدي العقوبات ينبغي لهم أن يفكروا في الآثار الإيجابية وراء رفع كثير من القيود المفروضة في الوقت الحالي، ولسبب بسيط: الإفراط في زيادة العقوبات يثقل العبء على كاهل الاقتصاد العالمي بشدة، وبدرجةٍ تدمر أي هيكل تحفيزي يُعرض على خصوم الولايات المتحدة كي يدفعهم إلى الامتثال.
وفي ظل الظروف الحالية، لن تؤدي العقوبات الاقتصادية الجديدة إلا إلى استفزاز الحلفاء والخصوم على السواء. أدت إعادة فرض العقوبات على إيران إلى توتر العلاقات العابرة للأطلسي. والمبالغة في استخدام العقوبات تسرع انهيار السلطة الدولية للولايات المتحدة. وتحفز كذلك الجهود المحلية الرامية إلى الهروب من شبكات العولمة التي تتحكم بها الولايات المتحدة. من أجل منع مثل هذه النتائج، يجب تطوير نهج جديد لإعادة التعمير، خاصٍ بتخفيف العقوبات، مع وجود تدخلات على المدى القصير والمتوسط والبعيد.
ستكون المزايا الآنية قصيرة الأجل لتخفيف العقوبات أقوى مع توفير تمويلات لحالات الطوارئ، تأتي في صورة قروض متعددة الأطراف، التي يمكن أن تُقدَّم بصورة أمثل من خلال مؤسسة مالية دولية مخصصة لهذا الغرض. يمكن أن تساعد القروض الخاصة أيضاً المستثمرين في معرفة المخاطر السعرية في السوق الجديد، وتخفيف الوصمة التي تتبع الدخول مرة أخرى في تعاملات مع البلاد المستهدفة. يحمل الإقراض ميزة أساسية تتمثل في إلزام الدول المقدمة للقرض بالتطبيق طويل المدى لعملية تخفيف العقوبات كي لا تخسر الدين.
بل إن آلية دعمٍ أسرع يمكن أن تأتي من عقود المبادلة بين البنوك المركزية، مثل تلك التي أسسها النظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008. تسمح خطوط المبادلة للبنوك المركزية بالتجارة في العملات المحلية التي تتحكم بها مقابل أسعار الصرف السائدة.
التعافي الاقتصادي لن يتحقق بسهولة
ومن خلال ترتيبات المبادلة، يمكن للولايات المتحدة أن توزع احتياطيات النقد الأجنبي التي تشتد الحاجة إليها؛ كي توازن المسارعة على سحب العملة المحلية من البنوك عقب رفع العقوبات، مثلما حدث في السودان. أما العملة المحلية التي سيحصل عليها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في المقابل، فستكون في صورة صادرات إلى الولايات المتحدة.
يمكن أن يساعد استحداث وسطاء تجاريين دوليين، مثل آلية INSTEX في حالة إيران، في استعادة العلاقات التجارية الثنائية بصورة أسرع، حتى في الوقت الذي ستبقى فيه القنوات المصرفية بين الشركاء التجاريين الجديدة محدودة. وقد تساعد مثل هذه التدابير في تحقيق الفوائد الاقتصادية الملموسة الضرورية، من أجل تعزيز الدعم السياسي في البلاد المستهدفة، من أجل استمرار تطبيق الاتفاقيات الدبلوماسية، والدليل على ذلك أن الرئيس روحاني شهدت شعبيته تراجعاً شديداً لمّا أدرك الإيرانيون أن التعافي الاقتصادي الذي تعهد به لن يتحقق.
يجب أن يتضمن تخفيف العقوبات على المدى المتوسط تقديم الخبرات الإنمائية للمساعدة في تقوية المؤسسات وزيادة الرفاه الاقتصادي. تتسبب العقوبات الاقتصادية في تدهور المؤسسات الحكومية وبيئة الأعمال، وتُفاقِم من سوء الإدارة والفساد وغياب المساواة في توزيع الدخل والثروة. يمكن أن يساعد نقل التكنولوجيا والمساعدة التقنية في مواجهة هذه المشاكل ومعالجة الفجوات في معدل الإنجاز من جراء العقوبات. يعتبر اقتصاديو التنمية والمنظمات غير الحكومية أفضل جاهزية من نخب الأمن الوطني في تحليل تبعات المسارات الضارة التي تسببها العقوبات، وهم أفضل أيضاً في اقتراح التدابير الفعالة.
العقوبات يمكن أن تكون منهكة لأجيال قادمة
في نهاية المطاف، يجب أن تتضمن عملية تخفيف الآثار السلبية طويلة المدى الناتجة عن العقوبات، التزامات بالمساعدة في إصلاح الضرر البيئي. أوضحت مجموعة متزايدة من البحوث أن التكاليف البيئية التي تكبدتها الاقتصادات بموجب العقوبات يمكن أن تكون منهِكة لأجيال قادمة. وفي ظل استنفاد إمدادات المياه الجوفية واستنزاف الكتلة الحيوية وتآكل التربة، شجعت العزلة الاقتصادية على أشكال ضارة للغاية من استخدام الطاقة والأرض. لذا فإن السماح باستمرار هذا الدمار الذي يصيب المحيط الحيوي يبدو تحركاً غير مسؤول في عالم ابتُلي بتغير مناخي كارثي.
يمكن أن تُدمج كل هذه التدخلات على المدى القصير والمتوسط والطويل في برنامج واحد وشامل، من "إعادة الإعمار ما بعد العقوبات". ثمة اعتراف واسع النطاق بالحاجة إلى جهود إغاثة موسعة في أعقاب الصراع العسكري، وينبغي بالمثل أن تصير الجهود المشابهة اعتيادية في أعقاب أي حرب اقتصادية مالية.
ومن خلال تقديم مثل هذه الحزمة، سوف تحقق الحكومات الغربية مكاسب على طاولة المفاوضات: كلما كانت جهود الإغاثة أفضل، يجعل ذلك وعود رفع العقوبات أكثر مصداقية وقيمة، مما يزيد من إمكانية الحصول على تنازلات وإبرام اتفاقيات دائمة.
وتختم مجلة Foreign Policy تقريرها بالقول "يبدو أن النزعة الحالية نحو أنظمة تُعظم العقوبات وتخففها، تُلحق أضراراً هائلة بكل من البلاد المستهدفة والمجتمع الدولي. وعندما تنتهي العقوبات، يجب أن تنتهي أضرارها كذلك. ومن أجل القيام بذلك، فليس هناك طريقة أفضل من موازنة الضرر الذي يسببه الحرمان عن طريق قوة العطاء".