يطلق عليها ببساطة "الفيلا"، لا علامات على جدرانها البيضاء، وثمة تصريح رسمي معلق، بالنسبة لمؤسسيها، فإن الافتتاح الهادئ لأول كنيس يهودي جديد في العالم العربي منذ أجيال يشير إلى بداية عودة اليهود إلى البلدان العربية.
يجسّد الكنيس الذي يقع بالقرب من شاطئ البحر في دبي، ويقدم دروساً باللغة العبرية وطعام الكوشر [الحلال]، وقد عُيِّنَ فيه حاخام للتو، عملية عودة لو رمزية لليهود بعد عقود من خروجهم من البلدان العربية.
السيسي يبني كنيساً، ومسلسل عنهم برمضان.. زعماء المنطقة يخطبون ودّهم
يقول روس كريل، رئيس المجلس اليهودي الجديد في الإمارات: "إن وعد مجتمعنا هو إعادة إحياء التقاليد اليهودية الإسلامية".
قد يبدو هذا أملاً لا مبرر له في العالم العربي، الذي اقتلع يهوده الـ800 ألف في العقود التي تلت إنشاء إسرائيل، حسب وصف تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
لكن المدهش أن القادة العرب من المغرب إلى العراق يكررون الرسالة، حسب وصف المجلة البريطانية.
ففي فبراير/شباط، قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إنه سيبني كُنُساً جديدة إذا عاد يهود البلاد. وتقوم حكومته بترميم كنيس إلياهو هانوي في الإسكندرية، الذي كان أكبر كنيس في الشرق الأوسط.
وتقوم الحكومة كذلك بتنظيف المقبرة اليهودية الشاسعة، التي غمرتها مياه الصرف الصحي جنوبي القاهرة.
وللمرة الثانية في عهد السيسي، أعلن التلفزيون المصري أن مسلسلاً عن اليهود سيُذاع أثناء صيام المسلمين في شهر رمضان، ويروي قصة حب مشتعلة بين جندي وامرأة يهودية.
حتى أن الحاخامات يشعرون بالراحة في البحرين أكثر من برلين
يتبع آخرون في الخليج خطوات دبي. يقول مارك شناير، وهو حاخام أمريكي يعمل على "تطوير حياة يهودية" في 5 دول خليجية: "أشعر براحة أكبر وأنا أرتدي الكيبا (القبعة اليهودية) في البحرين أكثر من برلين".
واحتفلت رابطة العالم الإسلامي، الذراع التبشيرية للمملكة العربية السعودية، التي كانت بوقاً للتعصب منذ وقت طويل، حسب وصف المجلة البريطانية، بيوم الهولوكوست (المحرقة) برسالةٍ باللغة العربية تدين إنكار الهولوكوست.
ويعتزم محمد العيسى، أمين عام الرابطة، قيادة وفد متعدد الأديان إلى معسكر أوشفيتز، قائلاً: "لقد تغيرت الظروف".
أسباب هجرة اليهود العرب.. المؤرخون الإسرائيليون الجُدد يعيدون قراءة التاريخ
ولا توجد رواية مؤكدة عن أسباب هجرة اليهود العرب من بلدانهم إلى إسرائيل، حسب تقرير لموقع"بي بي سي".
فهناك خطاب تصحيحي لمؤرخين يهود يرى أن إسرائيل كانت المستفيد الأكبر من تلك الهجرة بل وحرصت على نزوح اليهود العرب كاحتياطي سكاني، وهناك من يرى أنهم أجبروا على الهجرة إثر التضييق عليهم مع تصاعد الصراع العربي الفلسطيني.
لكن الثابت فعلاً أن الفقراء من اليهود العرب جاءوا إلى إسرائيل بتمويل من الوكالة اليهودية، وكان عليهم أن يقطنوا مناطق الأطراف أو مناطق المواجهة مع الدول العربية أو في منازل فرّ منها سكانها العرب، فيما نزحت الطبقة الوسطى والأغنياء منهم إلى مهاجر أخرى في أوروبا وأمريكا وأستراليا وغرب إفريقيا.
إيلي إفيدار، الذي يرأس غرفة تصنيع الألماس في تل أبيب، وعمل في الموساد وكان سفيراً لدى قطر والاتحاد الأوروبي، هاجرت أسرته التي كانت تحمل الجنسية اليونانية من مصر عام 1967 في أعقاب حرب يونيو/ حزيران.
سألته "بي بي سي" صراحة كيف بقيت أسرته في مصر حتى ذلك التاريخ رغم ما يتردد عن اضطهاد عبد الناصر لليهود؟
يرد في عامية مصرية لم تتغير: "كان أبي مديراً في شيكوريل، كنا مبسوطين في مصر.. مكنش في أي مشكلة في مصر، بس بعد حرب سبعة وستين كان فيه مظاهرات تطالب بذبح اليهود".
لا يوجد كتاب تاريخ واحد يشير إلى أن مصر استهدفت اليهود
لكن هل رغبت مصر في تهجير يهودها؟ يرد أفيدار: "لم يقل أحد إنها استهدفت اليهود، لن تجد كتاب تاريخ واحداً يقول ذلك، لكن حصلت كراهية لليهود بعد حرب ثمانية وأربعين، وتجددت مع حرب سبعة وستين، كنا العائلة الوحيدة التي جاءت لإسرائيل لأن أقاربنا كانوا هنا، لكن معظم اليهود المصريين الذين جاءوا إلى إسرائيل هاجروا بعد ثمانية وأربعين، وهؤلاء كانوا أما فقراء أو صهاينة".
تصطدم رواية السفير أفيدار برواية أخرى لرئيسة النادي المصري في تل أبيب ليفانا زامير، التي حكت لمراسل "بي بي سي" مطولاً عن الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في مصر حتى أجبروا على الرحيل.
تقول: "كان عمري 10 سنوات في 14 مايو عام ثمانية وأربعين عندما أعلن ديفيد بن غوريون قيام إسرائيل، وفي منتصف الليل هجم 10 ضباط مصريين على فيلتنا في حلوان واعتقلوا عمي حبيب نيدال، لم يكن عمي صهيونياً، كان يملك مطبعة لكن الملك فاروق اعتقل 600 يهودي عندما اندلعت الحرب ليبادلهم فيما بعد بأي أسرى".
عودة اليهود إلى البلدان العربية .. هل هي مجرد حيلة ديكتاتورية؟
بعد عقود من خطاب الكراهية، يسخر المتهكمون من هذا التغيير تجاه اليهود باعتباره حيلة دعائية للديكتاتوريين العرب، الذين يسعون لنيل رضا الغرب.
لكن الربيع العربي في عام 2011 اكتسح مجموعة من المحرمات، حسب وصف المجلة البريطانية.
تحدى الناس أيديولوجيات الدولة الراسخة منذ أمد طويل، بطريقة لم تحدث من قبل.
من العراق إلى ليبيا، كانت مجموعات من السياسيين، وصانعي الأفلام، والأكاديميين، من المائلين إلى العلمانية، وكذلك جماعة الإخوان المسلمين، تعيد تمحيص الماضي، بما في ذلك طرد اليهود بعد عام 1948.
مكّنت شبكة الإنترنت المسلمين واليهود، الذين أصبحوا لا يخافون الرقابة، من تجاوز الحدود وضوابط جوازات السفر. نمت المجتمعات الافتراضية على الإنترنت، حسب تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
يقول يهودي عراقي في لندن غادر بغداد في الستينيات: "أتحدَّث مع الأصدقاء في بغداد طوال الليل".
واستفتاء غير رسمي على إعادة الجنسية ليهود العراق
في العام الماضي أجرت صفحة شعبية على موقع فيسبوك استطلاعاً باللغة العربية حول ما إذا كان يجب إعادة الجنسية العراقية وحق العودة لليهود المنفيين قبل 70 عاماً، صوَّت أكثر من ثلاثة أرباع المشاركين، البالغ عددهم 62 ألفاً، بنعم.
يعكس التلفاز والكتب والتجمعات الطلابية هذا التحوُّل الثقافي. تبحث أفلام وثائقية عربية عن الشتات اليهودي الذي كان يعيش في الأراضي العربية.
هناك جيلٌ جديد من الروائيين العرب يرفع اليهود من مشاركين في اللعبة إلى مركز الصدارة، حسب تقرير المجلة البريطانية.
يقول أمين زاوي، المؤلف الجزائري لكتاب "آخر يهود تمنطيط": "لقد كتبت هذا لإظهار أن اليهود جزءٌ من ثقافتنا".
الترجمة العربية لكتاب لوسيت لنيادو "الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين"، وهو مذكرات يهودية مصرية، أعيد طبعها عدة مرات.
أقسام العبرية من أوكار للجواسيس إلى معاهد طبيعية للعلم
تضاعفت أقسام اللغة العبرية في الجامعات العربية، بعدما كانت في السابق قاصرة على من سيصبحون جواسيس.
اليوم تدرس 13 جامعة مصرية اللغة العبرية، بعدما كانت 4 جامعات عام 2004.
سينتهي حوالي ثلاثة آلاف طالب مصري من دراساتهم العبرية هذا العام، أي ضعف العدد قبل 5 سنوات. حتى وكالة الأنباء السورية لديها موقع عبري.
لكن على الرغم من كل هذا التقدير المتجدد، فإن العالم العربي اليوم بعيد كل البعد عن أوائل الخمسينيات، عندما ذهب أول رئيس مصري محمد نجيب إلى الكنيس في عيد يوم الغفران اليهودي، وصلى المسلمون بجانب المسيحيين واليهود عند مقبرة موسى ابن ميمون، وهو حاخام من القرون الوسطى عاش في القاهرة.
ولكن الصورة لم تتغير تماماً
من تلمسان غربي الجزائر إلى القامشلي في الركن الشمالي الشرقي لسوريا، تتداعى الكُنُس القديمة المزخرفة.
يقول أحد آخر اليهود في دمشق: "سيأخذون كل شيء عندما نموت". تحت غطاء الحفاظ على التراث اليهودي، تخطط بعض الجماعات المدعومة من الحكومات العربية للاستيلاء على الممتلكات المهجورة.
الحقد القديم لا يموت بسهولة. "لا يحتاجون إلى وطن ثان"، هكذا قال أحد السلفيين، بعد أن اقترح وزير جزائري إعادة فتح الكُنُس.
ما عاد التوتر مع إسرائيل يشعل تطهيراً عرقياً ضد اليهود. بعض السياسيين الفلسطينيين لا يزالون يثيرون المشاعر المعادية لليهود، لكن الكثير منهم يتحدثون العبرية ولديهم وعي وتفهم أكبر من ذي قبل.
عدد مفاجئ من الباحثين الذين يكشفون الماضي اليهودي في الشرق الأوسط هم فلسطينيون. حتى أن البعض يتحدث عن مصير مشترك مع اليهود العرب المحرومين.
يقول رجل دين مسيحي من القاهرة: "إننا ندخل عصر ما بعد الاستعمار"، "نتعلم مرة أخرى كيف نرى في الآخرين ثراءً لا تهديداً".