حول المنفيون العرب بإسطنبول المدينة التركية إلى مدينة شبه عربية وأصبحوا مكوناً أساسياً من سكانها لدرجة استفزت بعض القوميين الأتراك.
وجدوا في المدينة ملاذاً فريداً، فهم في بلادهم يتعرضون للاضطهاد لأنهم معارضون، وفي الغرب يعانون العنصرية لأنهم عرب مسلمون.
يعد المنتج عدَّاً تنازلياً: "ثلاثة، اثنان، واحد"، مع ازدياد صوت الموسيقى التصويرية تمهيداً لبثِّ حلقة جديدة من البرنامج التلفزيوني "سوريا اليوم" الذي يناقش الأوضاع الحالية في سوريا، وهو برنامج مؤيد للمعارضة يُذاع للسوريين المتبعثرين في جميع أنحاء العالم بسبب الحرب الأهلية.
وتشهد جميع أنحاء إسطنبول مشاهد مماثلة لمعارضين عرب من مصر واليمن ودولٍ عربية أخرى يهاجمون الحكومات القمعية في الشرق الأوسط بشدةٍ وسط الأمان النسبي الذين يحظون به في العاصمة الإعلامية لتركيا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
المنفيون العرب بإسطنبول جعلوها عاصمة للمعارضة
فمع إخماد انتفاضات الربيع العربي على يد حكام مستبدين استعادوا قوتهم أو تحوُّلها إلى حروب أهلية وحشية، برزت إسطنبول عاصمةً لكثير من السياسيين والناشطين والمتمردين والصحفيين العرب الذين حاولوا دفع التاريخ في اتجاهٍ مختلف في البلدان التي وُلِدوا فيها لكنَّهم تعثَّروا.
لذا ذهبوا إلى إسطنبول، حيث يُقيمون حياة جديدة، ويواصلون القتال من بعيد ويتجنبون السجن، أو ما هو أسوأ، في أوطانهم.
ويتوافد هؤلاء المنفيون على تركيا من جميع أنحاء العالم العربي: ومن بينهم أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين من مصر، وبعض مقاتلي المعارضة في سوريا وليبيا، وناشطون سياسيون من العراق واليمن، ومنشقون معارضون من المملكة العربية السعودية والأردن، وحتى أعضاء سابقون في البرلمان الكويتي.
وقد انتهى بهم المطاف في إسطنبول لسببٍ رئيسي.
لماذا يفضلون هذه المدينة؟ بها مزيج ملائم تماماً للمنفيين العرب
إذ قال عزام التميمي، مؤسس قناة الحوار، التي تعد منصةً قديمة للمعارضين العرب: "لا يوجد مكانٌ آخر نذهب إليه". ومع أنَّ مقر القناة يقع في لندن، لكنَّها افتتحت أستوديو مؤخراً في إسطنبول لأنَّه من الأسهل استضافة الضيوف في برامجها الحوارية هناك.
وأضاف التميمي: "جميعهم موجودون هنا".
إذ توفر إسطنبول مزيجاً جذاباً من مدينةٍ ذات أغلبية مسلمة، وقريبة من أوطانهم، مع بنية تحتية متطورة للاتصالات وأجواء من التسامح النسبي.
وهي أكثر انفتاحاً في استقبال العرب من أوروبا وأمريكا
ومن العوامل المساعدة على ذلك أيضاً أنَّ تركيا أكثر انفتاحاً من الولايات المتحدة أو أوروبا في استقبال اللاجئين العرب.
فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يرى أنَّ الترحيب بالمنفيين العرب استمرارٌ للدعم المُقدَّم للانتفاضات نفسها.
والسماح للمنشقين البارزين بالعمل في إسطنبول يعزز شعبية أردوغان بين العديد من العرب -ما يعزز نفوذه في جميع أنحاء العالم العربي- مع أنَّه قد يُزعج قادة الدول المجاورة.
والحكومة ترفض تكميم أفواه المعارضين العرب
إذ قال ياسين أقطاي، وهو عضو بارز في حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان: "تقول لنا بعض الدول أحياناً: "لديكم أشخاصٌ يعارضوننا، ويبثون برامج ضد مصر"، على سبيل المثال.. فنقول لهم إنَّ هناك أشياء كثيرة نحتاج إلى بثِّ معارضتها لأنَّها تُشكِّل انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان".
و تعتبر The New York Times أن المنفيين العرب في إسطنبول لا يتمتعون فقط بحرية تعبير أكبر مما كانوا سيتمتعون بها في أوطانهم، لكنَّهم غالباً ما يحظون بتساهلٍ أكبر بكثير من نظرائهم الأتراك، حسب زعم الصحيفة الأمريكية.
ولكن بعض الأتراك يستفزهم الوجود العربي، حتى أن أردوغان رد عليهم
توسع مظاهرة الحياة العربية في المدينة، استفز بعض القوميين الأتراك.
على سبيل المثال، فقد نشرت المرشحة عن "الحزب الجيد" المعارض، إيلاء أقصوي، مقطع فيديو على تويتر، انتقدت فيه وجود كتابة باللغة العربية على واجهات المحلات في حي "الفاتح".
ورد أردوغان، مستنكراً هذا التصريح قائلاً: "هؤلاء لا ينتقدون اللافتات المكتوبة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، لكنهم يمتعضون عندما يتعلق الموضوع باللغة العربية".
وجدَّد الرئيس تأكيده أن "العربية لغة دولية، وإحدى اللغات الرسمية في الأمم المتحدة، وقال إن منتقدي استخدام اللغة العربية في البلاد يجهلون هذه المعلومات".
وأيمن نور يؤكد أن الحكومة التركية لا تتدخل في عملهم
من جانبه، قال أيمن نور، النائب البرلماني السابق الذي خاض الانتخابات الرئاسية في مصر قبل أكثر من 10 سنوات، وهرب من البلاد بعدما استولى الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي على السلطة في انقلاب عسكري: "لديَّ مهمةٌ أوديها في إسطنبول، والأتراك لا يتدخلون في عملنا السياسي أو الإعلامي".
وأضاف: "لم يتخلَّ أيٌّ منَّا قط عن فكرة العودة إلى الوطن. نحن لسنا مهاجرين، بل منفيين".
ويُذكَر أنَّ نور اختبأ بلبنان بعد فراره من مصر في عام 2013، لكنَّه قال إنَّه لم يشعر بالأمان قط، لذا انتقل إلى إسطنبول.
بعدما تأثرت سمعة المدينة جراء جريمة خاشقجي، سبب طارئ جعل المعارضين يشعرون بأمان أكثر
بيد أنَّ مكانة المدينة المتمثلة بأنَّها ملاذٌ آمن تلقَّت ضربة خطرة في العام الماضي (2018)، بقتل المعارض السعودي جمال خاشقجي على أيدي عملاء سعوديين بقنصلية المملكة في إسطنبول، حسب وصف الصحيفة الأمريكية.
إذ أثارت هذه الجريمة الجزع في مجتمع المنفيين العرب؛ لأنَّ كثيراً منهم اعتبروا وضعه مشابهاً لهم، ويخشون أن يواجهوا المصير نفسه.
لكنَّ نور، متحدثاً من مكتبه الواسع حيث يشرف على قناتين تلفزيونيتين تنتقدان الحكومة المصرية، أشار إلى أنَّ الغضب الدولي من جريمة القتل قد أعطى المنفيين هنا حماية إضافية، لأنَّ الحكومات العربية الأخرى ستفكر ألف مرة في التعرُّض لرد الفعل العكسي العالمي الذي يعانيه السعوديون الآن.
وها هم يحاولون الحفاظ على روح الربيع العربي
ويضم مكتب نور كذلك مقر المجلس العربي للدفاع عن الثورات والديمقراطية، وهو جمعية تسعى للحفاظ على ما يعتبره أعضاؤها "الروح الحقيقية للربيع العربي"، وفقاً لما ذكره نور.
ومن بين أعضاء المجلس الآخرين توكُّل كرمان، التي فازت بجائزة نوبل في عام 2011 لدورها في الانتفاضة اليمنية.
وتشرف توكل على قناة بلقيس التلفزيونية اليمنية في إسطنبول، والتي اقتحم المتمردون الحوثيون مكتبها الأصلي في عام 2014، حين استولوا على العاصمة اليمنية صنعاء.
وقالت توكُّل عن الجهود الإعلامية التي تبذلها في إسطنبول: "أهم شيء هو الحفاظ على الربيع العربي حياً، ومواصلة القتال من أجل الحرية والديمقراطية".
ولكن ليس كل المنشقين يتمتعون بالحرية نفسها
وبينما بإمكان المصريين والسوريين واليمنيين في إسطنبول أن يهاجموا حكوماتهم بلا قيود، فليس كل المنشقين العرب يحصلون على حرية التعبير، وغالباً ما تنعكس علاقات تركيا الخارجية على تلك الاختلافات في المعاملة، حسبما تقول الصحيفة الأمريكية.
إذ يُطلب من المعارضين القادمين من المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، التزام الهدوء، حتى لا تفسد العلاقات التركية السعودية، وفقاً لما ذكره منفيٌّ سعودي في إسطنبول تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، لحماية أفراد أسرته، الممنوعين من مغادرة المملكة.
وحتى حين اختارت تركيا ملاحقة المملكة العربية السعودية بسبب مقتل خاشقجي، فعلت ذلك بتسريب معلوماتٍ إلى وسائل الإعلام لوضع المملكة في مأزق، وليس عن طريق السماح للمعارضين بانتقاد الحكومة السعودية.
ولكن الحريات ليست السبب الوحيد لوجودهم.. إنها ليست مختلفة كثيرة عن أوطانهم
وبينما يرجع جزءٌ كبير من جاذبية تركيا لدى المنفيين إلى الحريات النسبية المتوافرة فيها، فإنَّ أوجه التشابه بين الثقافة التركية والعربية تُمثِّل سبباً آخر في تلك الجاذبية.
إذ أسفر تدفُّق 3.6 مليون لاجئ فرُّوا من الحرب في سوريا إلى إسطنبول عن تعزيز طابع المدينة العربي، ومن الشائع سماع اللغة العربية بالشارع في بعض الأحياء. وكذلك انتشرت المطاعم والمخابز والنوادي والمساجد العربية.
ويقول التميمي، مؤسس قناة الحوار، إنَّ المنفيين "يشعرون في إسطنبول بأنهم في وطنهم".
المنفيون العرب بإسطنبول يتغيرون.. البعض توقف عن النضال
وليس كل المنفيين في إسطنبول عازمين على مواصلة النضال، لكنَّهم يبنون حياةً جديدة بعيداً عن ماضيهم في المعارضة.
فقبل بضع سنوات، كان مجدي نعمة متحدثاً باسم "جيش الإسلام"، وهي جماعة معارِضة قوية لقوات النظام السوري. وباستخدام الاسم المستعار "إسلام علوش"، كان "نعمة" يرتدي ملابس مموهة ويدلي بتصريحاتٍ شديدة عن أنشطة الجماعة.
لكنَّه استقال عندما قُتِل زعيم الجماعة بغارةٍ جوية في عام 2015، واستقر بإسطنبول، حيث يكمل درجة الماجستير في العلوم السياسية بجامعةٍ تركية.
ومع أنَّ نعمة (31 عاماً) قضى ستة أشهر في أوروبا، فقد اختار أنَّ يعيش بتركيا، لأنَّ أوروبا كانت باردة، وكان من الصعب الحصول على الإقامة، وكان قلقاً بشأن تناول منتجات لحوم الخنزير عن طريق الخطأ.
أمَّا في إسطنبول، فمن النادر استخدام لحم الخنزير، والمساجد منتشرة، وأجهزة الأمن التركية لا تهتم بلحيته الطويلة.
وقال "نعمة": "إنهم لا يلاحقونك، ولا يزعجونك، وكانوا يدعمون الثورة بوضوح".
والآن، يدرس "نعمة" اللغة التركية ويفكر في السعي إلى الحصول على الدكتوراه، لأنَّ ليس لديه أملاً كبيراً في أن المسار الحالي للحرب سيسمح له بالعودة إلى سوريا قريباً.
وقال: "إذا لم تكن الثورة قد ضاعت بالفعل، فسوف تضيع. لذا يجب أن يكون هناك شيء آخر".