كان الرئيس السوداني المعزول عمر حسن البشير يحب رواية قصة سنه المكسورة، إذ قال أمام أنصاره في يناير/كانون الثاني الماضي إنه عندما كان تلميذاً عمل في موقع بناء، سقط وكسر سنه وهو يحمل حمولة ثقيلة. وبدلاً من طلب العلاج، تمضمض بالماء المالح وواصل العمل.
وفي وقتٍ لاحقٍ، بعد أن انضم إلى الجيش، رفض البشير تركيب سن فضية لأنه كان يريد تذكر معاناته. وقال البشير: "هذه الفجوة"، مشيراً إلى فجوة في فمه، قبل أن ينفجر الأنصار في الضحك بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
كانت هذه القصة وسيلة البشير للتأكيد على أصوله المتواضعة
كانت هذه القصة وسيلة للبشير، الذي أطاح به الجيش اليوم الخميس 11 أبريل/نيسان بعد 30 عاماً من حكم القبضة الحديدية في السودان، للتأكيد على أصوله المتواضعة ولإظهار أنه ظل واحداً من الشعب الذي ترعرع مثله في القرى الزراعية على ضفاف النيل.
كانت هذه الصورة الشعبية للبشير متناقضة بصورة صارخة مع صورته في الغرب، حيث غالباً ما يُنظر إليه على أنه مجرم حرب قاسٍ، ومدافع عن الإرهابيين مثل أسامة بن لادن، ومتهم بارتكاب الإبادة الجماعية في دارفور التي أسفرت عن مقتل مئات الآلاف. ومنذ عام 2009، سعت المحكمة الجنائية الدولية إلى إلقاء القبض عليه بتهم جرائم الحرب التي تشمل القتل والاغتصاب والإبادة.
تفوق على منافسيه الذين قللوا من قدره
لكن السمعة السيئة عالمياً لم تمثل مشكلة قط للبشير (75 عاماً) في السودان، البلد الإفريقي الكبير الذي لديه تاريخ طويل من الحرب والمعاناة. إذ تفوق على منافسيه الذين قللوا من قدره، وقاد طفرة نفطية دامت عقداً من الزمان وأدت إلى ازدهار الطبقات المتوسطة في السودان، وأسس شبكة من القوات الأمنية والميليشيات المسلحة لخوض حروبه، وهو ما شبهه البعض بشبكة عنكبوت يقع البشير في مركزها.
لكن هذه السلطة المبنية بعناية انهارت هذا الأسبوع بعدما احتشد آلاف المتظاهرين خارج مقر إقامة البشير في العاصمة السودانية الخرطوم، حيث رددوا الهتافات وواجهوا بشجاعة إطلاق النار من عصابات الجنود. كانت عائدات النفط منخفضة وكان الاقتصاد في حالة يُرثى لها، وفاض الكيل بالشباب السوداني على وجه الخصوص. يجب أن يرحل العنكبوت.
وهتف المتظاهرون: "تسقط بس!"
وفي صباح اليوم الخميس 11 أبريل/نيسان، أطاح الجيش بالبشير لينهي حكمه الذي دام 30 عاماً في مواجهة المظاهرات الحاشدة. وقال الجيش إنه اعتقل البشير وحل الحكومة وعطّل العمل بالدستور.
استقبل ممثلو تجمع المهنيين السودانيين، المجموعة التي تتزعم الاحتجاجات وكانت تتوقع إصدار بيان من الجيش وتستعد للتفاوض من أجل الانتقال إلى حكم مدني، الإعلان بخيبة أمل.
وقالت سارة عبدالجليل، المتحدثة باسم التجمع: "ما جرى الإعلان عنه للتو هو انقلاب بالنسبة لنا، وهذا غير مقبول. جرى تجاهل طلبنا بتشكيل حكومة انتقالية مدنية".
شغل البشير، الذي وُلد لأسرة تعمل بالزراعة في إحدى القرى التي تقع على بُعد 100 ميل شمال الخرطوم، منصب القائد الثاني للواء المظلات في الجيش السوداني. وفي عام 1989، ترأس البشير جماعة عسكرية إسلامية أطاحت برئيس الوزراء السوداني الأسبق الصادق المهدي في انقلاب أبيض، وهي رابع سيطرة عسكرية على الحكم في السودان منذ استقلاله عام 1956.
كان يُنظر له في بداية حكمه على أنه واجهة للترابي
كان يُنظر إلى البشير خلال العقد الأول من حكمه على أنه واجهة لشخصية أقوى -الزعيم الديني الراحل حسن الترابي، وهو مفكر ومتحدث لبق حصل على دكتوراه الدولة من جامعة السوربون الفرنسية وكان يتبنى أفكار تطبيق الشريعة الإسلامية في عمق المجتمع والمؤسسات السودانية المتنوعة.
توافد الجهاديون من جميع أنحاء العالم إلى السودان في تلك الفترة، ومن بينهم أسامة بن لادن الذي اشترى منزلاً في أحد أحياء الخرطوم الراقية واستثمر في الزراعة والإنشاءات. وفي عام 1993، أدرجت الولايات المتحدة حكومة البشير على القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب وفرضت عليها عقوبات بعد أربع سنوات.
وفي عام 1999، بعد فترة عصيبة، انقلب البشير على الترابي ووضعه في السجن. ثم لجأ إلى الجيش لتأمين سلطته وأسس علاقات امتدت إلى الجيش وقوات الأمن وشيوخ القبائل في البلاد.
كان يفتح منزله أسبوعياً لضباط الجيش
كان البشير يحرص على حضور جنازات وأعراس ضباط الجيش، وكثيراً ما كان يرسل هدايا من السكر أو الشاي أو السلع المجففة إلى عائلاتهم. قال أليكس دي وال، الأستاذ في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس الأمريكية والخبير في الشأن السوداني، إن البشير كان يفتح منزله مرة كل أسبوع لاستقبال ضباط الجيش والاجتماع معهم.
وتابع دي وال قائلاً: "إنه مثل العنكبوت في مركز الشبكة، إذ يمكنه الانتباه لأقل اضطراب، ثم يستخدم مهاراته السياسية الخاصة لإدارة سياسات الجيش".
وأوضح دي وال أن البشير استخدم أسلوباً مماثلاً في السيطرة على رؤساء الولايات وشيوخ القبائل، مضيفاً: "أصبح معظمهم عسكريين ووقعوا في شباك قوات الدفاع الشعبية. كانت لديه هذه الشبكة الاستثنائية، وكل هذا كان يُدبر في رأسه".
استخدم البشير هذا الأسلوب من حكم الفرد القائم على شخصه لمقاومة التمرد في جنوب السودان، حيث كان يناضل المتمردون من جماعات عرقية مختلفة وأصحاب المعتقدات المسيحية أو الوثنية من أجل الاستقلال. وخلال الحرب التي دامت 21 عاماً، ألقت القوات الجوية السودانية البراميل المتفجرة على القرى النائية في الجنوب، لتقاتل بجانب الميليشيات المحلية الوحشية التي جندها البشير وضباطه.
ثم اكتشف السودان النفط فارتفعت مستويات المعيشة
فبعد ضخ البراميل الأولى عام 1999، ارتفعت مستويات المعيشة تدريجياً في أحد أفقر البلدان الإفريقية. أُنشئت طرق جديدة، وحصلت القرى النائية على المياه والكهرباء، وشُيدت المباني الفاخرة في الخرطوم.
وقال الباحث السوداني مجدي الجزولي، وهو زميل في معهد ريفت فالي: "كانت تلك هي السنوات السمان".
في عام 2005، وبعد ضغوط دولية، وقع البشير على اتفاق سلام مع متمردي الجنوب، رغم معارضة أنصاره المتشددين الذين أرادوا مواصلة القتال. ولكن بحلول ذلك الوقت، كانت هناك انتفاضة أخرى قد اندلعت في دارفور، من شأنها أن تحدد مصيره.
هناك، ارتكبت ميليشيا مؤيدة للحكومة تُعرف باسم الجنجويد أعمالاً دموية في القرى النائية لقمع المتمردين. وأسفر ذلك عن مقتل ما لا يقل عن 300 ألف شخص، وفي عام 2009 وجهت المحكمة الجنائية الدولية أول اتهام من اتهامين ضد البشير، الذي أصبح أول رئيس دولة يستمر في منصبه رغم إصدار المحكمة مذكرة اعتقال بحقه.
وتابع الجزولي قائلاً: "كان هذا أكبر خطأ يقع فيه البشير، بعد أن أسند الحرب إلى هذه الميليشيات في دارفور، وأنشأ مؤسسة أمنية متضخمة مكونة من هياكل متنافسة".
ووُجِّهت إلى البشير اتهامات بالقتل والاغتصاب وارتكاب إبادة
وتعزز سوء سمعته من خلال حملات المشاهير مثل الممثل الأمريكي جورج كلوني الذي ندد به واصفاً إياه بأنه تجسيد لنظام طائفي وحشي. لكن التنبؤات بأن يصبح البشير رجلاً مطارداً مطلوباً للعدالة لم تتحقق.
إذ سافر البشير، في تحدٍ لقرار المحكمة الجنائية، إلى كينيا ومصر والسعودية، لكنه قطع زيارته إلى جنوب إفريقيا عام 2015 عندما بحثت إحدى المحاكم هناك إمكانية القبض عليه. وانتقد بعض الخبراء هذه الاتهامات لكونها معيبة من الناحية القانونية وتؤدي إلى نتائج عكسية من الناحية السياسية.
صور البشير نفسه باعتباره ضحية لمطاردة دولية معادية يقودها الغرب، واشتكى من أن الولايات المتحدة نكثت بوعودها برفع العقوبات مقابل السلام في جنوب السودان. نجح البشير، مدعوماً بالثروة النفطية، في الفوز بانتخابات عام 2010، وانتشرت ملصقات تظهره واقفاً بفخر أمام طرق وسدود ومصانع جديدة، حتى وإن ظل 40 % من الشعب السوداني تحت خط الفقر.
وفي عام 2011، صوَّت جنوب السودان على الانفصال ليصبح بلداً منفصلاً ويأخذ معه ثلاثة أرباع احتياطي النفط السوداني. ومع قلة الإيرادات، تدهور الاقتصاد السوداني وبدأ البشير في مواجهة معارضة شديدة.
ثم تفشى التعذيب وسوء المعاملة في السجون
قمعت شرطة مكافحة الشغب المسلحة احتجاجات الشوارع ضد ارتفاع أسعار المواد الغذائية في سبتمبر/أيلول 2013، مما أسفر عن مقتل 170 شخصاً وفقاً لمنظمة هيومان رايتس ووتش. وقالت المنظمة إن التعذيب وسوء المعاملة أصبحت متفشية في السجون السودانية.
ولجأ البشير إلى جيرانه في المنطقة للحصول على التمويل والدعم، وتنقل في كثير من الأحيان بين خصومه بحثاً عن الصفقة الأفضل. وفي عام 2013، استقبل البشير الرئيس الإيراني آنذاك محمود أحمدي نجاد في الخرطوم في محاولة للتقرب من إيران. وبعد عامين، انضم البشير إلى تحالف عربي يقاتل في جانب واحد من حرب اليمن تقوده السعودية، ألد أعداء إيران.
وفي العام الماضي، وقف البشير في صف إثيوبيا بدلاً من مساندة حليفته التقليدية مصر في النزاع القائم حول سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على نهر النيل. وخلال الشهور الأخيرة، ومع اندلاع المزيد من الاحتجاجات، لجأ البشير إلى قطر، غريمة السعودية في الخليج، لمساعدته.
وعانى الاقتصاد السوداني كثيراً بسبب العقوبات الأمريكية
ربما يكون رفع العقوبات الأمريكية عام 2017 قد ساعد البشير، لكن وزارة الخارجية الأمريكية أبقت السودان مدرجة بقائمتها للدول الراعية للإرهاب؛ مما منع أي تدفق للاستثمار الأجنبي. وبحلول عام 2018، كان الاقتصاد السوداني في مرحلة سقوط حر وبلغ معدل التضخم 72 % واصطفت طوابير طويلة أمام محطات الوقود وحدث نقص في العملات الورقية. وثارت الطبقات المتوسطة بعدما شهدت انهياراً في مستويات معيشتها.
سرعان ما امتدت الاحتجاجات ضد ارتفاع أسعار الخبز في مدينة عطبرة يوم 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى القرى والمدن في جميع أنحاء البلاد، لتخرج مظاهرات بقيادة الأطباء وأصحاب المهن الأخرى. وانفجر غضب الشارع السوداني بعد مقتل عدد من الأطباء الشباب، الذين كان ينتمي بعضهم إلى عائلات ثرية.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، رفض البشير الاستجابة للمتظاهرين واصفاً إياهم بـ"الفئران التي يجب أن تعود إلى جحورها"، وقال إنه لن يترك منصبه إلا لضابط جيش آخر أو عن طريق صندوق الاقتراع.
لكن بصفة عامة تعاملت قوات البشير مع المظاهرات بضبط النفس، لتقتل العشرات بدلاً من مئات المحتجين. وتحولت المظاهرات، التي غالباً ما تنتشر في مختلف أحياء الخرطوم، إلى حدث يومي.
أخيراً.. وصل المتظاهرون إلى باب القصر
وفي يوم 6 أبريل/نيسان الماضي، خلال أكبر تظاهراتهم على الإطلاق، وصل المتظاهرون إلى بوابة منزل البشير في مقر الجيش السوداني. وتزامنت هذه التظاهرة مع ذكرى انتفاضة 1985 التي أطاحت بنظام زعيم سوداني آخر غير محبوب، وهو الديكتاتور جعفر النميري.
كانت هذه هي بداية الدفعة الأخيرة التي أدت إلى إطاحة البشير صباح اليوم، حين انهارت شعبيته المزعومة وأخبره قادة الجيش والأمن الذين ساندهم سنوات بأنه حان وقت الرحيل.
ومثل العديد من الرؤساء العسكريين، كان البشير يحب أن يزعم أن السلطة فُرِضت عليه وأنه مارسها على مضض. وقال البشير بعد استيلائه على الحكم عام 1989: "هذه البلاد لا تشجع أحداً على الاستمتاع بالسلطة. هذه البلاد منهكة، لقد انهارت وسقطت".
قال النقاد إنه ترك السودان في الحالة نفسها، لكن لم يتضح ما إذا كان خليفته يمكنه تغيير هذه الحالة سريعاً. يحتاج الاقتصاد المنهار إلى ضخ نقدي هائل، ومن غير المرجح أن تخف حدة النزاعات الحالية في المناطق السودانية مثل ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. وشهدت الانتفاضات السابقة في الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي ارتداداً سريعاً إلى الحكم العسكري بعد سنوات قليلة من الحكم المدني المتخبط.
وقال علي فيرجي، المحلل لدى معهد السلام الأمريكي: "السودانيون يريدون التغيير، لكن مشكلة السودان هيكلية وليست شخصية. حتى مع رحيل البشير، لن يتعافى السودان بين عشية وضحاها".