بتفاؤل شديد توقع الأمين العام للأمم المتحدة خلال القمة العربية بتونس أن تنطلق عملية تسوية في ليبيا تنهي الصراع وتحقق السلام، وذهب بعدها لطرابلس ليستكمل مهمته، ولكن دون سابق إنذار حطم الجنرال المارق خليفة حفتر آمال المسؤول الأممي الكبير، وهذا شأن الجنرال المارقين دوماً.
مفطور القلب خرج أنطونيو غوتيريش من ليبيا، بسبب ما فعله حفتر في البلاد، وبدا أن المسؤول رقم واحد في الأمم المتحدة ليس لديه ما يفعله لإنقاذ ليبيا من الدمار وإنقاذ سُمعة المنظمة الدولية التي كانت وسيطاً في العملية التي استخدمها حفتر لخداع فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دولياً.
ووقف مجلس الأمن عاجزاً عن التحرك بعد أن استخدم الروس الفيتو ضد قرار يدين هجوم حفتر الذي وصفته الصحف الغربية بالجنرال المارق.
والآن الفوضى تسود ليبيا؛ إذ أصبحت قنبلة سياسية واقتصادية، يستغلها المتطرفون، وباتت العاصمة مهددة الآن بالوقوع في قبضة طاغية جديد، ويعد هذا الوضع بمثابة دراسة في إخفاقات التدخل الغربي، حسب وصف تقرير لصحيفة The Telegraph البريطانية.
هكذا يكسب الجنرالات المارقون معاركهم
ليست المرة الأولى التي يواجه فيها المجتمع الدولي جنرالاً مارقاً متنمراً يمد يده متحدثاً عن السلام بينما يضمر الغدر بشركائه في الوطن.
التفاوض بالنسبة للجنرالات المارقين ليس سوى وسيلة لتخدير الخصم، لمباغتته في ساحة المعركة وليس على طاولة الحوار.
أفسد العديد من الجنرالات المارقين السياسة في كثير من بلدان العالم، يكسبون معاركهم بقسوة القلوب وليس الشجاعة، ويستفيدون من انقسامات خصومهم أكثر من مهاراتهم العسكرية.
وعلى غرار الجنرال فرانسيسكو فرانكو الذي تسبب في نشوب حرب أهلية بإسبانيا استمرت سنوات أعقبها عزلة طويلة للبلاد، فإن هؤلاء الجنرالات لا يأبهون لشرعية الحكومات التي ينقلبون عليها أو عدد الضحايا الذين يسقطون بسبب أعمالهم.
المرتزقة.. أبرز أوجه الشبه بين الجنرال المارق خليفة حفتر وفرانكو
يرفع الجنرالات المارقون دوماً شعارات الوطنية بينما هم في الأغلب منغمسون في الحصول الدعم الأجنبي حتى النخاع، ويعتمدون على الجنود الأجانب في جيوشهم أكثر من الوطنيين.
ففرانكو اعتمد بشكل كبير على الجنود غير الإسبان في جيشه الذي زحف إلى مدريد.
والجنرال المارق خليفة حفتر، كما تصفه وسائل الإعلام الغربية، يعتمد على مرتزقة أفارقة، وفقاً لتقرير فريق خبراء معنيّ بليبيا.
إذ يقول التقرير إن وسطاء عرباً لم يسمّهم وعناصر النظام السابق ساعدوا في التقارب بين قوات حفتر المعروفة بـ "القيادة العامة للجيش الوطني الليبي" وكبار القادة الدارفوريين.
وهو ما يعد إثباتاً مهماً لوجود نشاط ارتزاق تقوم به مجموعات مسلحة سودانية في ليبيا تقاتل إلى جانب قوات حفتر وتعمل كطليعة هجومية تتلقى عن قواته الضربات الأولى، كما تشارك في حراسة آبار النفط لصالحه.
وشبه التقرير هؤلاء المرتزقة بمرتزقة شركة الخدمات الأمنية سيئة السمعة "بلاك ووتر" التي عملت في العراق إلى جانب الجيش الأميركي حتى عام 2007 وتم توثيق العديد من التجاوزات التي أقدمت عليها عناصرها، على حد قوله.
لكن العالم استطاع من قبل إيقاف بعض الجنرالات المارقين
التفاوض والحوار يعد سبيلاً عبثياً للتعامل مع الجنرالات المارقين الذين يكرهون السياسة ويؤمنون بلغة القوة.
فهل يعني أنهم خارقون ولا يمكن ردعهم؟
على العكس تماماً، فإن قراءة التاريخ تفيد بأن الجنرالات المارقين يمكن وقفهم وردعهم، فهم لا يخضعون إلا للقوة التي يؤمنون بها.
وهناك تجارب متعددة للمجتمع الدولي استطاع فرض السلام فيها رغم أنف الجنرالات المارقين.
لكن الأمر لا يتطلب إلا إرادة من المجتمع الدولي لتنفيذ ميثاق الأمم المتحدة بحق القوى التي تهدد السلم والأمن الدوليين، خاصة إذا كان يفسد جهوداً تقودها المنظمة الأممية.
وهناك نماذج عديدة تظهر كيف خضع الجنرالات المارقون وانصاعوا للعقوبات الدولية، حيث يختفي استئسادهم على مواطنيهم تماماً، وانتهى الأمر ببعضهم منسين في غياهيب السجون.
ليبيا: القذافي تخلى عن برنامجه النووي نتيجة العقوبات
تحت ضغط واسع من عقوبات الولايات المتحدة والأمم المتحدة، اعترفت حكومة معمر القذافي بالمسؤولية عن تفجيرات لوكربي عام 1988 وتخلت عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، ما مهد الطريق لرفع العقوبات، فضلاً عن تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الولايات في مايو 2006.
ويرى كثيرون أن سبب نجاح العقوبات في هذه الحالة أن "العقوبات التي تهدف إلى التركيز على المشاركة في التفاوض مع الهدف وتحقيق هدف إيجابي يبدو أنها أكثر نجاحاً من العقوبات التي تهدف إلى العزلة والمعاقبة"، حسب ما ورد في تقرير لمؤسسة Council on Foreign Relations الأمريكية.
وبعد أن قامت الثورة الليبية ضد حكم القذافي ضمن الربيع العربي، كان الأوروبيون حريصين على المساعدة في إزاحة هذا الديكتاتور المتعطش للدماء، حسب وصف The Telegraph.
لكن الأوروبيين لم يرغبوا في الالتزام بما يشبه استراتيجية بناء الأمة التي جربوها في العراق، والتي أدت إلى خسائر هائلة في الأموال والأرواح.
ومثلما قال باراك أوباما في مقابلة أجراها عام 2016: "كان ما اشتراه الغرب في ليبيا ثورة زهيدة الثمن؛ إذ تكلفت حملتها العسكرية حوالي مليار دولار ولم يتخلف عنها سوى عدد قليل من الضحايا".
وبينما يبدو أن واشنطن ليست مهتمة بليبيا حالياً، فإن هناك تقارير تشير إلى أنها تميل إلى الجنرال حفتر.
يوغوسلافيا السابقة: العقوبات فرضت السلام
فرضت عقوبات اقتصادية وحظر على توريد الأسلحة على يوغسلافيا بعد الحرب مع كرواتيا وفي نهاية الحرب البوسنية، التي دعمت يوغوسلافيا السابقة فيها الصرب البوسنيين.
وأضعفت العقوبات نظام سلوبودان ميلوسيفيتش وساعدت في دفعه نحو الانضمام إلى اتفاقات دايتون في عام 1995 التي فرضت السلام في البوسنة.
وحوكم ميلوسيفيتش أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ليحاكم بتهمة ارتكاب جرائم وانتهت حياته في زنزانته قبل استكمال محاكمته.
يقول دبلوماسيون مثل ريتشارد هولبروك ووارن زيمرمان إن العقوبات كانت ورقة مساومة كبيرة مع بلغراد في أوائل التسعينيات.
لكن الخبراء يشيرون إلى أن العقوبات لم تغير بشكل جوهري سلوك النظام، وواجهت مرة أخرى عقوبات لقمعها ضد الألبان في كوسوفو في عامي 1998 و1999 ، ما أدى في النهاية إلى غارات جوية لحلف الناتو.
ليبيريا: العقوبات والإضراب النسائي أطاحا بالجنرال
يرى بعض الخبراء أن العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على تجارة الأخشاب المربحة في ليبيريا عام 2003 ساهمت في سقوط الرئيس تشارلز تايلور.
وهناك أوجه تشابه لافتة بين الجنرال المارق خليفة حفتر وتايلور.
كلاهما شارك في انقلاب ضد رئيس بلاده في البداية.
والولايات التي دعمت انقلاب حفتر الأول على القذافي، كانت هي المكان الذي هرب إليه تايلور قبل أن يتم إلقاء القبض عليه بتهمة الاختلاس، لكنه حسب زعمه تم تهريبه من السجن بواسطة عملاء من الاستخبارات المركزية CIA.
بعد هروبه من الولايات المتحدة سافر إلى ليبيا، ومن هناك بدأ خطط لشن حرب عصابات ضد الحكم في بلاده بدعم من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
وبعد اتهام تايلور بجرائم حرب وقعت في دولة سيراليون المجاورة، كاد أن يتم القبض عليه خلال زيارة رسمية إلى غانا.
وكانت استقالة تايلور محصلة للعقوبات الأممية والضغوط الإقليمية والدولية إضافة إلى حركات التمرد الذي قامت ضده، فضلاً ضغوط الحركة النسائية الليبرية الرامية الرامية لتحقيق السلام واللاتي نظمت مظاهرات احتجاج صامتة إضافة إلى إضراب جنسي.
وقد حوكم تايلور أمام محاكمة جرائم الحرب في لاهاي.
ويعتبر البعض أن ليبيريا مثال على نجاح عقوبات الأمم المتحدة حينما اقترنت في النهاية بجهود أكبر متعددة الأطراف مثل مساعدات الاتحاد الأوروبي أو عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام.
وتثبت تجربة ليبيريا أن العقوبات في إطار أوسع لتسوية المنازعات تصبح أكثر قوة وفعالية.