الأرض لن تكون قابلة للعيش بعد عقود.. لماذا ترفض الأنظمة الشعبوية اتفاقيات المناخ؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/04/01 الساعة 09:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/01 الساعة 10:29 بتوقيت غرينتش
متظاهر يحمل ملصقًا يصور الأرض كعين تبكي بسبب معاناة الكوكب من التغيّر المناخي، خلال مظاهرة في برلين/ AFP

يعقد البنك الدولي، في أبريل/نيسان، اجتماعه الرابع رفيع المستوى حول تسعير الكربون. وهذا الحدث السنوي -الذي يحضره وزراء الحكومة ورؤساء المنظمات الدولية ومحافظو البنوك المركزية- مصمم لتعزيز الضرائب على الكربون ومخططات تبادل حقوق إطلاق الانبعاثات في جميع أنحاء العالم، وفي البلدان النامية على وجه الخصوص.

ويعكس هذا الحدث، وغيره من الفعاليات، "الحكمة" السائدة بين الاقتصاديين وصناع السياسات بأنَّ تسعير الكربون هو أكفأ الطرق وأكثرها فعالية لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة.

تكاليف مؤجلة الدفع

هذا الإيمان بتسعير الكربون في محله، إذ تدعمه عقود من الأدبيات الاقتصادية المعقدة. والمنطق بسيط: لا أحد -بدءاً من الأفراد ومروراً بالشركات وانتهاءً بالحكومات- يحسب حساب التكاليف المستقبلية المرتبطة بالتغير المناخي، مثل الأضرار المادية التي تلحق بالبنية التحتية من زيادة الفيضانات أو فقدان الإنتاجية بسبب ارتفاع درجات الحرارة. في علم الاقتصاد، تعرف هذه التكاليف غير المأخوذة في الحسبان باسم العوامل الخارجية السلبية. وإذا لم تدفع هذه التكاليف اليوم، فإنَّ الأجيال المستقبلية سوف تتحمل أعباءها.

تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية في تقريرها، أنه من المفترض لسياسات تسعير الكربون أن تدمج التكاليف المرتبطة بالمناخ لضمان أن يدفع الجميع اليوم مقابل الأثر المستقبلي لانبعاثاتهم. وإذا كان سعر الكربون مرتفعاً بما فيه الكفاية، فمن شأن هذا أن يدفع الفاعلين الاقتصاديين إلى البحث عن طرق تتيح لهم استعمال كميات أقل منه. وإذا ما نظمت سياسات تسعير الكربون بطريقة صحيحة، فمن الممكن أيضاً أن توفر للحكومات مصدر دخل إضافي. فأين المشكلة في هذا الكلام؟

الهدف أن تكون الأرض قابلة للمعيشة بعد عقود

اتضح أنَّ ثمة الكثير من المشكلات في ذلك. فعلى الرغم من وعد هذه السياسات بجلب إيرادات حكومية أكثر وانبعاثات أقل، فإنَّ الحكومات في جميع أنحاء العالم لا تتبنى سياسات تسعير الكربون بالسرعة المطلوبة. إذ تعهدت 100 دولة بتنفيذ هذه الإجراءات باعتبارها جزءاً من اتفاقية باريس للمناخ، وثمة 46 حكومة قومية، و24 حكومة دون قومية تطبق سياسات تسعير الكربون أو تخطط لتطبيقها. وفي حين أنَّ الطموحات لا تزال مرتفعة، فإنَّ تنفيذ السياسات الفعلية لا يزال غير مكتمل، إذ تخضع 20٪ فحسب من الانبعاثات العالمية حالياً إلى شكل من أشكال خطة تسعير الكربون.

ومن غير الواضح مدى الفعالية التي سوف تكون لهذه الجهود. فقليل من الدول التي طبقت آليات التسعير كانت قادرة على تسعير الانبعاثات بقدر عال بما فيه الكفاية لمساعدة الدول على تلبية أهداف اتفاقية باريس بحلول التاريخ المحدد.

ويرجع سبب بطء تنفيذ هذه السياسات إلى أنَّ مخططات الانبعاثات تتعارض مع هياكل الحوافز التي توجه السياسيين في الكثير من الأنظمة السياسية. إذ يفرض تسعير الكربون تكاليف قصيرة المدى على قطاعات عريضة من الجمهور المُصوِّت، مقابل فائدة مستقبلية واسعة وتجريدية: أن تكون الأرض أكثر قابلية للسكن بعد عدة عقود من الآن.

الفرنسيون رفضوا وخرجوا بستراتهم الصفراء

ودائماً ما يكون من الصعب إقناع الجماهير بتحمل نفقات اليوم مقابل فوائد يحصلون عليها غداً، وما يجعل الأمر أكثر صعوبة أنَّ سياسات تسعير الكربون عادة ما تحشد الجمهور والمجموعات الصناعية المتأثرة معاً في معارضة الحكومة. ومن التجارب المفيدة في هذا الصدد محاولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فرض ضريبة الكربون على الوقود، وما تلا ذلك من احتجاجات السترات الصفراء. وواجهت الحكومة الفرنسية مقاومة شديدة عندما اتضح أنَّ عائدات ضريبة الكربون سوف تستخدم جزئياً لمواجهة عجز في الموازنة مرتبط بتخفيضات ماكرون في ضريبة الدخل المفروضة على الأغنياء. والنتيجة احتجاجات مستمرة ضد إدارة ماكرون.

وإذا كانت الديناميات السياسية لتسعير الكربون عسيرة في الديمقراطيات الانتخابية التي يقودها زعماء من الوسط مثل ماكرون، فهي أقرب ما تكون إلى المحال في الأنظمة الشعبوية. ذلك أنَّ الزعماء الشعبويين، وإن كانت هذه الفئة صعبة التعريف، عادة ما يروجون لسياسات توفير فوائد قصيرة المدى لقاعدتهم، لكنها ربما لا تكون في مصلحة بلادهم على المدى الطويل.

ويميل أولئك الزعماء إلى أن يكونوا معادين للنخب ومتجهين ناحية قضايا السياسة الداخلية لا الدولية. وأخيراً، فإنَّ الشعبويين يستغلون المخاوف بشأن خسارة المكانة الاجتماعية والاقتصادية. وتصعِّب هذه الديناميكيات على وجه الخصوص من فرض تكاليف على الجماهير بشكل عام من أجل المصلحة البيئية العالمية.

وبحسب تقديرات مستندة إلى بيانات معهد الموارد العالمية حول انبعاثات الغازات الدفيئة، فإنَّ حوالي 30٪ من الانبعاثات تأتي من بلدان يقودها زعماء شعبويون. وهذا أمر منطقي نوعاً ما: فالشعبويون منتشرون بشكل خاص في البلدان النامية متوسطة الدخل مثل البرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك والفلبين. ومن المحتمل أن يأتي معظم الطلب العالمي على الطاقة ومعظم الزيادة في الانبعاثات من هذه البلدان على مدار العقدين القادمين.

سياسات تسعير الكربون منفرة للأنظمة الشعبوية

وتطور العديد من البلدان المتوسطة الدخل التي يقودها شعبويون خططاً لتقليل الانبعاثات باستخدام تسعير الكربون، لكن من المحتمل أن تواجه هذه البلدان صعوبة في إحراز تقدم كبير. إذ تميل سياسات تسعير الكربون داخل هذه البلدان إلى أن تكون مدفوعة من قبل المانحين الدوليين والمنظمات غير الحكومية التي تعمل مع نخب صناعة السياسات المحلية. فتركيا وإندونيسيا والمكسيك، على سبيل المثال، تلقت جميعاً دعماً مالياً وتقنياً من مانحين متعددي الأطراف ومنظمات غير حكومية لتطوير سياساتها لتسعير الكربون.

وبالنسبة للشعبويين، فإنَّ حقيقة أنَّ هذه السياسات تقودها منظمات دولية تجعلها منفرة على نحو خاص. وعلاوة على ذلك، فإنَّ المضي قدماً في آليات تسعير الكربون، من خلال التركيز على مفهوم الكربون التجريدي لا على موضوعات التنمية الاقتصادية الملموسة، من شأنه أن يزيد من عزل القادة عن قواعدهم. ويصدق هذا الأمر خصوصاً على البلدان النامية، حيث يوضع الفقر المنتشر أولوية فوق جميع القضايا الأخرى. وعندما تسعى هذه الحكومات لتنفيذ سياسات تسعير الكربون، فإنَّ هذا يكون بشكل عام بسبب ارتباط هذه السياسات بأهداف التنمية الاقتصادية والسياسة الخارجية الأخرى.

ولكي نرى طريقة عمل هذه السياسات فلنلق نظرة على المكسيك التي قدمت ضريبة كربون عام 2014، ونظاماً تجريبياً لتبادل حقوق إطلاق الانبعاثات العام الجاري. وقد قال الرئيس الشعبوي الجديد أندريس مانويل لوبيز أوبرادور إنه سوف يحترم سياسات تسعير الكربون التي ورثها عن سلفه، والتي قدمت بدعم من البنك الدولي وفاعلين دوليين آخرين وسمحت للمكسيك برسم صورة لنفسها بوصفها زعيماً بيئياً من بين نظيراتها من الدول ذات الدخول المتوسطة.

ومع ذلك، فقد توقف التقدم في مخططات تبادل حقوق إطلاق الانبعاثات في المكسيك على نحو فعال منذ تولي لوبير زمام منصبه. ويشكل هذا الأمر قضية خلافية لهذه الحكومة الشعبوية التي فازت بالدعم الشعبي بسبب وعدها بتخفيف الضرائب على الوقود وزيادة الإنتاج النفطي للبلاد.

خيارات صعبة أمام الدول النامية والمتوسطة

وبطبيعة الحال، فإنَّ جميع سياسات تسعير الكربون ليست متساوية، ويمكن صياغتها لتتعامل مع مخاوف الزعماء الشعبويين على نحو أفضل. فعلى سبيل المثال، يمكن تدوير العائدات الناتجة عن هذه الآليات لتقليل أي أثر مباشر على الجمهور.

فيمكن مثلاً أن تذهب العائدات ناحية تعويض أية زيادة في تكاليف الأسرة. ويمكن دفع أموال إضافية في برامج يحبها الجمهور مثل برامج البنية التحتية أو إعادة التدريب المهني. ومع ذلك، فمن أجل الحصول على هذه الأموال، سوف يكون الشعبويون بحاجة إلى إدخال سياسات تسعير للكربون في المقام الأول، وهو أمر تشير المكسيك وغيرها من الحالات إلى أنه قد يكون صعباً.

وثمة خيارات أخرى متعلقة بسياسة خفض الانبعاثات قد تكون أكثر قبولاً لدى الشعبويين في العالم النامي. أحد الأساليب التي قد تنجح بشكل خاص هو تشجيع البلدان على إدارة التغير المناخي من خلال الشركات المملوكة للدولة.

ذلك أنَّ الشركات المملوكة للدولة لا تزال جهات فاعلة كبيرة ومهمة في الاقتصاد العالمي، ولا سيما في الدول النامية، كما أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتغير المناخ العالمي. إذ تتحكم الشركات المملوكة للدول، على سبيل المثال، في معظم النفط والغاز في العالم، وجزء كبير من الفحم.

في البداية، قد يعمل صناع السياسات مع مولدات الكهرباء المملوكة للدولة أو يوجهونها لتبني طاقة نظيفة أو تقنيات احتجاز الكربون. ومن شأن هذه الإجراءات أن تساعد في تقدم الأهداف التي تحظى بالشعبية على نطاق واسع بخلاف تغير المناخ، مثل تقليل تلوث الهواء وزيادة فرص العمل.

تدابير تقودها الشركات المملوكة للحكومات

ويمكن للحكومات إضافة إلى ذلك أن تشجع الشركات المملوكة للدولة على إدارة المخاطر المالية المتعلقة بالتغير المناخي بشكل أفضل، مثل التكاليف المحتملة للاحتفاظ بأصول الوقود الحفري غير المستخدمة مع تغير أسواق الطاقة. ونظراً للمخاطر التي قد يتسبب فيها التغير المناخي بالنسبة للاستقرار المالي وأداء الشركات، فقد اتخذ منظمو الشركات والمستثمرون في الشركات الخاصة خطوات كبيرة لمحاولة إدارة هذه المشكلة.

ويمكن توجيه تركيز مماثل ناحية الشركات المملوكة للدولة. وأخيراً، فباستطاعة صناع السياسات تغيير قواعد التوريد الحكومية من أجل تحفيز استخدام المزيد من التقنيات والمنتجات محايدة الكربون (التي لا يصدر عنها انبعاثات الكربون).

ولهذه التدابير التي تقودها الدولة الكثير من المزايا مقارنة بتسعير الكربون. أولاً، لدى الحكومات سلطة بالفعل لتنظيم هذه الشركات وبإمكانها أن تطلب منها مراعاة الصالح العام بشكل أفضل عند اتخاذ قراراتها. وعلاوة على ذلك، فإنَّ تشديد الخناق على الشركات المملوكة للدولة لا يفرض أي تكاليف مباشرة على أية قاعدة شعبوية بعينها.

وفي غضون ذلك، فإنَّ ذلك النهج، من خلال تركيزه على موضوعات تحظى بالقبول الجماهيري مثل نظافة الهواء والاستقرار المالي، من شأنه أن يربط سياسة المناخ بشكل أفضل بقضايا الرخاء الاقتصادي التي ساعدت على انتخاب الشعبويين في المقام الأول.

ربما لا يكون للتركيز على الشركات المملوكة للدولة الأثر الاقتصادي واسع النطاق الذي لتسعير الكربون، لكن مع صعود القيادة الشعبوية، فقد تكون هذه المقاربات التي يمكن لهم قبولها، هي أفضل ما يمكننا فعله.

تحميل المزيد