صحيحٌ أنَّ ميليشيات "قوات سوريا الديمقراطية" التي تدعمها دول الغرب أعلنت السبت 23 مارس/آذار 2019، انتصارها على "الخلافة" التي أعلنها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، لكنَّ أتباع التنظيم ظلوا طوال أسابيع يبرهنون على أنَّهم ما زالوا قادرين على تنفيذ هجماتٍ باسمه ومستعدين لذلك.
فمن تنفيذ تفجيراتٍ انتحارية بسياراتٍ مفخخة، إلى استخدام عبوات ناسفة ونصب كمائن قاتلة على جانب الطرق، عاد تنظيم داعش إلى تكتيكات حرب العصابات، في ظل استعداده لانتهاج طريقة عمل جديدة.
تقول صحيفة The Telegraph البريطانية إن التنظيم الجهادي ينشر كل بضعة أيام أخبار نجاحاته على قنواتٍ إعلامية رسمية، والتي تعد واحدةً من بعض أذرع عملية الدعاية التي سخَّرها لإثارة الرعب في جميع أنحاء العالم.
المعركة ضد داعش لم تنتهِ بعد
لقَّم السائق الكردي سلاحه وهو يتجاوز آخر نقطة تفتيش قبل دخوله المنطقة المحايدة الشاسعة. إذ أصبح امتداد الطريق المفتوح بين محافظتي الحسكة ودير الزور الشرقيتين، أو الطريق الدولي السابع، هو الطريق الأخطر في سوريا.
وقال السائق للصحيفة البريطانية -كردي من أقصى شمالي سوريا- وهو يراقب بحذرٍ دراجةً نارية أمامه غيَّرت اتجاهها فجأة: "قرأتُ أنَّه كانت هناك واحدة في هذا المكان نفسه يوم أمس". وخلع سترته التي كانت من إنتاج شركة "ذا نورث فيس"، على أمل ألَّا يبدو شخصاً غريباً للسكان المحليين الذين يملؤهم الشك.
وفي خضم الاحتفال بانتصارها الذي تحقَّق بشق الأنفس، حذَّرت "قوات سوريا الديمقراطية" بالفعل من أنَّ المعركة ضد داعش لم تنتهِ بعد، بل دخلت مرحلةً جديدة.
إذ قال عدنان عفرين، قائد الميليشيا، من مكانٍ ليس ببعيدٍ عن ساحة المعركة قبل استعادة مناطق الخلافة: "عندما نذهب إلى الخطوط الأمامية، نواجههم. نطلق النار عليهم، فيردون بإطلاق النار. فنعرف مَن أمامنا… لكن هناك خلايا نائمة خلفنا، والمعركة ضد العدو الذي لا تستطيع رؤيته أصعب بكثير".
يُذكَر أنَّ "قوات سوريا الديمقراطية" اعتقلت الآلاف من الأشخاص المشتبه في أنَّهم من مقاتلي داعش طوال فترة هجومها على التنظيم التي استمرت 3 سنوات، لكنَّ الاستخبارات الأمريكية تعتقد أن التنظيم ما زال لديه ما بين 15 ألفاً و20 ألفاً من المسلحين الذين ينشطون في جميع أنحاء سوريا والعراق.
بينما يقول بعض الخبراء المتخصصين في الإرهاب إنَّ هذا الرقم تقدير متواضع على الأرجح.
القيادة العليا لـ "داعش" على قيد الحياة
وفضلاً عن ذلك، فما زال أعضاء القيادة العليا للتنظيم على قيد الحياة، ومن ضمنهم قائده أبو بكر البغدادي، ويُعتقد أنَّهم مختبئون في مناطق صحراوية إمَّا في محافظة الأنبار بغرب العراق، أو البادية في وسط سوريا، حيث ما زال التنظيم موجوداً.
وهم يحثون أنصارهم على مواصلة قتال "قوات سوريا الديمقراطية"، قائلين إنَّ هزيمتهم في الباغوز -معقلهم الأخير- لن تُضعِف التنظيم، ومصوِّرين الهجوم على أنَّه مجرَّد نكسة في صراعٍ ملحمي.
إذ قال أبو حسن المهاجر، المتحدث باسم التنظيم، في رسالةٍ صوتية صدرت بوقتٍ سابق من الأسبوع الجاري: "انتقِموا لدماء إخوتكم وأخواتكم… أعِدُّوا المتفجرات، وانشروا القناصة".
أمَّا صور الجثث المتفحمة للنساء والأطفال الذين ماتوا في التفجيرات الأخيرة بمخيم الباغوز، والمتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي حالياً، فـ "ستصبح دعايةً لتنظيم داعش غداً، يزعم فيها وقوع شهداء من صفوفه".
فالتنظيم غرس بذور شبكةٍ دولية، في ظل وصول عدد متابعي إنتاجه الإعلامي على قنواتٍ مشفرة إلى ملايين الأشخاص.
وقد ألهم كذلك جماعاتٍ مسلحة في مناطق مضطربة بجميع أنحاء العالم، لا سيما ليبيا وشبه جزيرة سيناء في مصر، ونيجيريا واليمن وأفغانستان والفلبين.
وأمر القادة آخر مجموعة من المقاتلين بالاستسلام؛ على أمل أن يعيشوا ليقاتلوا يوماً آخر في المستقبل. فهُم تصالحوا منذ فترةٍ طويلة مع فقدان مناطق خلافتهم، لكنَّهم يعتقدون أن مثل هذه الهزائم "ابتلاءاتٌ حتمية من الله، الذي سيمنحهم النصر في النهاية".
داعش ومن قبلُ طالبان.. استغلال فراغ السلطة
لذا فالتحدي الذي يواجه الميليشيات الكردية، التي لا تمتلك قدراً كافياً من العدة والعتاد، سيكون مواصلة السيطرة على الأراضي في ظل سعي الجهاديين إلى استغلال فراغ السلطة، بعدما بدأت الولايات المتحدة سحب غالبية قواتها البالغ قوامها 2000 جندي من البلاد.
فالأحد 24 مارس/آذار 2019، قال حسن حسن، وهو زميل أقدم غير مقيم في معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط بواشنطن: "استمر حكم خلافة داعش 1737 يوماً. بينما استمر حكم حكومة طالبان في أفغانستان 1836 يوماً… والآن، صار عدد المناطق التي تسيطر عليها طالبان هو الأكبر على الإطلاق منذ انهيارها. وبعد سنوات من الآن، سيكون تنظيم داعش كذلك مسيطراً بالفعل على معظم المناطق التي فقدها".
فما زالت مدينتا الرقة السورية والموصل العراقية، اللتان كانتا تحت سيطرة داعش ودُمِّرتا إلى حدٍّ كبير بسبب الغارات الجوية التي شنتها قوات التحالف، تُحصيان القتلى وتناضلان من أجل إعادة الإعمار.
ولم تشهد المناطق التي حُرِّرت من التنظيم سوى قدرٍ قليل من إعادة التأهيل أو عمليات المصالحة مع المجتمعات التي تأثَّرت بفكر داعش، وضمن ذلك الآلاف من الأطفال الأيتام.
حقل ألغام سياسي
وهناك الآن عشرات الآلاف من الجهاديين يقبعون وقتاً أطول من اللازم بالسجون والمخيمات في جميع أنحاء شمال سوريا والعراق، من بينهم 3000 أجنبي على الأقل، أصبح مصيرهم حقل ألغامٍ سياسياً لحكومات الدول الغربية.
ففي مخيماتٍ وأماكن مكتظة كهذه، شكَّل البغدادي ومجموعةٌ من المتطرفين الذين يتبنون أفكاراً مشابهة ذلك التنظيم، الذي تحوَّل لاحقاً إلى تنظيم داعش. لذا يخشى الكثيرون أن يعيد التاريخ نفسه.
وقال أغياد الخضر، وهو ناشط من دير الزور هرب من سوريا في عام 2015: "مع الأسف، ازدادت شعبية داعش بعد معركة الباغوز. فتنظيم داعش ليس في مكانٍ واحد أو آخر، بل موجود بكل مكان، مختبئ بيننا".