اعتبرت وكالة Bloomberg الأمريكية أن التظاهرات المستمرة في الجزائر التي باتت تحدد معالم النظام السياسي في البلاد دخلت أخطر مراحلها، ووقعت فيما وقع فيه الربيع العربي قبل 8 سنوات.
وقال بوبي غوش، الكاتب المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، في مقال بالوكالة الأمريكية، إن الثورة الجزائرية دخلت أخطر مراحلها، المتمثلة في غياب القيادة المعروفة، وأيضاً قائمة الأهداف التي تسعى لها التظاهرات غير محددة.
وبحسب المقال، فبعد أسبوعين من إقناع احتجاجات الشوارع الرئيسَ عبدالعزيز بوتفليقة بالتخلّي عن ترشُّحه لولاية خامسة، استمرت التظاهرات في الازدياد، وكذلك طموحاتها؛ فبات المحتجون يدعون الآن إلى تغييرٍ جذري لنظام الحكم.
هل يبدو ذلك مألوفاً؟ ينبغي أن يكون كذلك.
عدم تحديد سقف الأهداف وغياب القيادة
وبحسب المقال، ففي الأسابيع الأولى من الانتفاضة، امتنع كثيرٌ من المحللين –وكذلك الشركات الحالية- عن إجراء المقارنات مع احتجاجات الربيع العربي عام 2011. كان الاختلاف الأكثر وضوحاً، مثلما أشرتُ في أواخر فبراير/شباط الماضي، يتمثَّل في الشعارات التي تدوّي في شوارع العاصمة الجزائر والمدن الأخرى. ففي حين هتف محتجو الربيع الأول منذ البداية بـ "الشعب يريد إسقاط النظام"، كان لدى الجزائريين مطلب أصغر: "لا عُهدة خامسة لك يا بوتفليقة".
وبدا أنَّهم بالأساس معارضون للرئيس، البالغ من العمر 82 عاماً وضَعُف بعد إصابته بسكتة دماغية منذ عام 2013، وليس للحكومة بأكملها. ربما كان من الممكن تهدئة الاحتجاجات عن طريق إقالة بوتفليقة وتقديم منح حكومية سخية من النوع الذي منع من السير على خطوات تونس ومصر في 2011.
لكن منذ التظاهرات التي أعقبت إعلان بوتفليقة، هناك المزيد والمزيد من المحتجين الذين رفعوا هتاف ميدان التحرير: "الشعب يريد إسقاط النظام".
وإن كان الأمر يبدو مثل الربيع العربي، ورائحته رائحة الربيع العربي… فإنَّه يعاني كذلك من الخطأ القاتل للربيع العربي: غياب القيادة. إذ إنَّ المحتجين الشباب في معظمهم هم حركة بلا تنظيمٍ رسمي أو مُمثِّلين معروفين. فلا يوجد أحد يرفع مطالبهم إلى النظام، ويتفاوض على مرحلة انتقالية إلى نظامٍ ديمقراطي أكثر، أو لضبط سقف توقعات المحتجين بشأن طبيعة مثل هذه المرحلة الانتقالية، بحسب المقال.
وبدون قادة، تبقى وسيلة المحتجين الوحيدة لفرض التغيير هي مواصلة الاحتجاج، ومواصلة المطالبة بالمزيد. يقول جيوف بورتر من شركة North Africa Risk Consulting للاستشارات: "تطور المطالب هو سمة من سمات الثورة التي لا توجد لها قيادة. فإذا لم يكن هناك أحدٌ يخبرك بما هو ممكن، يمكن أن تعتقد أنَّ كل شيءٍ ممكن".
وهنا تصبح الأمور خطيرة.. وتشير خبرة 2011-2012 إلى وجود مسارين انطلاقاً من هنا، لا ينتهي أيهما بنتيجة مُرضية للمحتجين.
الخوف من العنف أو خطف الثورة
يقود أحد المسارين إلى العنف، وقد أبقى الجيش الجزائري حتى الآن هراواته مُغمَدة. بل وعبَّر رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح عن إعجابه بأولئك الساعين للتغيير. لكنَّ الاحتجاجات المطولة، في غياب المفاوضات، قد تؤدي إلى نفاد صبره. يصعب في الوقت الراهن تصوُّر انزلاق الجزائر إلى حربٍ أهلية على غِرار ليبيا واليمن وسوريا، أو كحربٍ أهلية مثل التي شهدتها هي نفسها في التسعينيات، حين قُتِل عشرات الآلاف. لكن بمجرد إطلاق الرصاص، لن تكون هناك قدرة على التنبؤ بالنتيجة، بحسب المقال.
ويقود المسار الآخر إلى اختطاف الثورة، من قِبل مجموعاتٍ تملك ما يفتقر إليه المحتجون: القيادة والتنظيم. وهذا هو ما حدث في تونس ومصر، حيث استغلت الجماعات الإسلامية المجال السياسي الذي انفتح بعد الربيع العربي، وهو ما أدّى في الغالب إلى إحباط المحتجين. في مصر، ألقى الكثير من النشطاء المؤيدين للديمقراطية في نهاية المطاف بثقلهم خلف الثورة المضادة التي قادها الجيش عام 2013. وفي تونس، خاب ببساطة أمل الكثيرين من السياسة، بحسب الوكالة الأمريكية.
هل يمكن للثوار الجزائريين شق مسارهم الخاص؟ يبدو أنَّهم في الوقت الراهن يُركِّزون على تنظيم مظاهراتٍ أكبر من أي وقتٍ مضى.
استمرت الاحتجاجات جزئياً؛ لأنَّ بوتفليقة لا يزال في الحكم. ومع أنَّه اختار سلطة انتقالية يسيطر عليها حلفاء قدامى له، وتعهَّد بوضع دستور جديد قبل إجراء الانتخابات الجديدة قبل نهاية العام، يشك الكثيرون في أنَّ هذه حيلة لتمديد ولايته الرابعة. ويدرك محتجون آخرون أنَّ بوتفليقة مجرد واجهة للزمرة الحاكمة الأكبر -المعروفة باسم "le pouvoir" (أو السلطة)- وهي هيئة حاكمة كبيرة من كبار السن تضم كبار ضباط الجيش، وقيادات حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، وبعض رموز رأسمالية المحاسيب. وحتى لو أخلى الرئيس منصبه في نهاية المطاف، لن يتغيَّر الكثير إن ظلَّت "السلطة" مترسخة كما هي، كما تقول الوكالة الأمريكية.
وهناك الكثير من الإشارات على أنَّ الحرس القديم يعتزم التشبث بالسلطة. يقول عبدالوهاب الأفندي، أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدوحة للدراسات العليا: "هناك أشخاص في النظام لا يريدون حدوث التغيير". ومن الأهمية بمكان أنَّ الإدارة الانتقالية تحشد الدعم الدولي، لكن ليس من النوع الذي يشير إلى مزيدٍ من الديمقراطية: قام نائب رئيس الوزراء رمطان لعمامرة بزيارة سريعة إلى موسكو في وقتٍ سابق من هذا الأسبوع، لالتماس التشجيع من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي حذَّر القوى الأجنبية الأخرى من التدخل. وكانت الولايات المتحدة عبَّرت عن دعمها للاحتجاجات، ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى "فترة انتقالية طولها معقول".
مرحلة التغيير الجاد
وبحسب الوكالة الأمريكية، مع ذلك، إذا استمرت الاحتجاجات –وتنامت- دون عنف، قد يميل النظام إلى تقديم مزيدٍ من التنازلات. يقول أندرو ليبوفيتش، الباحث بشؤون شمال إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "أعتقد أنَّنا وصلنا إلى مرحلة لابد أن يكون فيها تغيير جاد، والخطة الانتقالية للحكومة تُعَد شيئاً ضئيلاً للغاية ومتأخرة جداً".
ويقول بريان كلاس، خبير شؤون الديمقراطية بكلية لندن الجامعية: "على أحدهم أن يجري مباحثاتٍ مع الحكومة حول ما هو مقبول وما ليس مقبولاً". ويجعل إسقاط النظام الشعارات جذابة، لكنَّه ليس موقفاً تفاوضياً عملياً. ويضيف كلاس إنَّ خبرات حركات الربيع العربي تُظهِر أنَّهم "بحاجة إلى العمل على التوصل إلى حلول وسط. إزاحة البنية التحتية للنظام بين عشيةٍ وضحاها ليست فكرة رائعة، لذا عليهم أن يتحدثوا عمَّن يتعيَّن عليه الرحيل ومَن يمكنه البقاء".
لكن مَن هم المقصودون بـ "هم"؟ في الوقت الراهن، رفضت النقابات العمالية النافذة دعوة الحكومة للتباحث. وأصدرت مجموعة تُطلِق على نفسها اسم "التنسيقية الوطنية من أجل التغيير" بياناً تطلب فيه من الجيش عدم التدخُّل، وتطالب كذلك بحكومةٍ انتقالية. ولم يُظهِر إسلاميو الجزائر، الذين أوهنتهم الحرب الأهلية في التسعينيات، القدرة التي أظهرها نظراؤهم المصريون والتونسيون لاغتنام الفرصة.
ولكي يضغط المحتجون الجزائريون في الداخل لتحقيق مصالحهم، عليهم الجلوس على طاولة المفاوضات إلى جانب الوجود في الشارع. وإن لم يتمكَّنوا من ذلك، فلن تسمح دروس الربيع العربي بالشعور بالكثير من التفاؤل حيال ما هو قادم.