قبل أيام كان جل حديث الأتراك بشأن الانتخابات المحلية التي لم يتبق على إجرائها إلا القليل، مُنصبَّاً حول الوضع الاقتصادي بالبلاد، في ظلِّ تراجع الليرة التركية أمام الدولار، وارتفاع الأسعار والتضخم.
لكن من دون ترتيب وقعت أحداث مسجدَي مدينة كرايستشرش، بنيوزيلندا، التي خلَّفت نحو 50 قتيلاً من المصلين العزل، وإصابة عدد كبير آخر، في عمل إرهابي نفَّذه يمني متطرف يقبع خلف الأسوار الآن، أرسل فيها رسائل هامة للمسلمين بشكل عام ولتركيا بشكل خاص.
أثار هذا العمل غضباً كبيراً لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي أرسل نائبه ووزير خارجيته لتفقّد الوضع هناك، خاصة بعدما وجدت الأجهزة الأمنية رسائل من منفذ الهجوم، استهدف فيها إسطنبول.
الحدث انسحب -دون قصد ربما- على الوضع السياسي في البلاد، وباتت خطابات الرئيس التركي المحلية مغلّفة بالحدث الإرهابي، خاصة مع إدراك الحزب الحاكم للعاطفة الإسلامية الكبيرة التي يتمتع بها الأتراك، ناهيك عن رغبة سفاح نيوزيلندا في عودة إسطنبول مرة أخرى إلى المسيحية، الأمر الذي أشعل غضب المسلمين في تركيا.
هدية للحزب الحاكم
هذه الجريمة قدَّمت هديةً كبيرةً للحزب الحاكم في تركيا خارجياً وداخلياً، فعلى المستوى الخارجي ظهر الرئيس التركي على أنه الحكام المسلم الوحيد الذي يهتم لما يحدث للمسلمين في العالم، فبودار أزمة دبلوماسية مع الصين كانت بسبب دفاع أردوغان عن مسلمي الإيغور، وأزمة جديدة قد يؤثر بها الهجوم الإرهابي على علاقات تركيا المتوترة مع اليونان.
أما داخلياً فخلال العام الأخير شهد الاقتصاد التركي تراجعاً كبيراً بسبب الخلاف الحاد مع واشنطن، التي رفعت قيمة الضرائب على الألومنيوم والفولاذ القادم من تركيا، مما تسبب في تراجع الليرة بشكل كبير، قبل أن تتعافى مرة أخرى، لكن مازال أثر الأزمة يعاني منه المواطن التركي، وبما أن الازدهار الاقتصادي الذي وصلت إليه البلاد يعود الفضل فيه إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم، فإن الأمر ذاته سوف يؤثر على خيارات الناخبين، نهاية مارس/آذار الجاري، لكن التعاطي الرسمي التركي مع جريمة نيوزيلندا قد يعيد التفوق الواضح إلى الحزب الحاكم.
وعلى مدار الأسابيع الماضية، عقَدَ الرئيس البالغ من العمر 65 عاماً العديد من التجمُّعات الانتخابية في أكبر مدينتين بالبلاد، إذ تُظهِر استطلاعات الرأي أنَّ حزب العدالة والتنمية على وشك خسارة سيطرته الطويلة على أنقرة، وتراجع الدعم له في إسطنبول، مركز البلاد التجاري، وسط توقعات اقتصادية تزداد قتامتها. وهذا يُهدِّد سيطرة حركة الإسلام السياسي في البلاد المستمرة منذ ربع قرن على تلك المدينتين الرئيسيتين.
البحث عن الفوز في الانتخابات
قال أردوغان قبل أيام إن "انتخابات 31 مارس/آذار مسألة حياةٍ أو موت. فلن نذهب فقط لانتخاب العُمَد، بل سنذهب للتصويت على مستقبلنا".
وإن كان هذا يبدو مُبالغةً، لكن الشعبية الجارفة للرئيس التركي تكوَّنت على أساس نجاحه في منصب عمدة إسطنبول، حيث وفَّر في الفترة بين 1994 حتى 1998 الطرق المُحسَّنة والطرق النظيفة ونظام الدعم للفقراء. ويعي أردوغان أكثر من أي شخصٍ آخر أنَّ السلطة والمال في تركيا ينبعان من القواعد الشعبية، وأي تآكل في الدعم الأساسي لحزبه حتماً سيُهدِّد كليهما، بحسب ما تقول وكالة بلومبيرغ الأمريكية.
يقول أردوغان إنَّه غير مبالٍ بنتائج استطلاعات الرأي بالنظر إلى سجله في الحشد الناجح للداعمين الموالين، حين تقترب الاستحقاقات الانتخابية الكبرى. لكن في هذه الانتخابات الأولى منذ أدائه اليمين الدستورية رئيساً عقب التعديل الدستوري الذي قام به، ومع دخول تركيا أول حالة ركودٍ لها منذ عقدٍ من الزمن، هناك الكثير من الأمور التي يجب القلق حيالها.
"ثمن باهظ"
احتدمت المعركة بصورة خاصة في أنقرة، وانتقد أردوغان الرجل المُرشَّح للفوز هناك، منصور يافاش من حزب الشعب الجمهوري. وقدَّمت كتلة مُعارِضة المرشح يافاش، وتشير بعض الاستطلاعات إلى تقدُّمه بفارق يصل إلى أكثر من 10 نقاط عن منافسيه.
وقال أردوغان الإثنين الماضي 18 مارس/آذار، إنَّ يافاش "سيدفع ثمناً باهظاً" للمزاعم الجنائية المرتبطة بعمله محامياً. واتهمت محكمة تركية السياسي يافاش يوم 11 مارس/آذار، على خلفية تعامله مع نزاع تجاري في عام 2016، بعد ساعاتٍ من اتهام المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية عمر جليك له بسوء السلوك. وخسر يافاش الانتخابات البلدية السابقة في أنقرة قبل 5 سنوات بفارق 1% فقط.
وقال يافاش، صاحب الـ64 عاماً، أمس الثلاثاء 19 مارس/آذار: "إنَّنا نتصدر السباق بفارق 10% على الأقل. لم تُنقَل لي تهديدات سرية. لكن بعد هذه المرحلة، لن أنسحب من الانتخابات إلا جثةً هامدة".
ومن المتوقع أن ينجح بن علي يلديريم، رئيس الوزراء السابق من حزب العدالة والتنمية، في إسطنبول، على الرغم من أنَّ مرشح حزب الشعب الجمهوري إكرام إمام أوغلو قد يزيد الأصوات التي يحصل عليها الحزب في الانتخابات بصورة كبيرة. وعلى مستوى البلاد، تشير استطلاعات الرأي إلى حصول التحالف الذي يقوده حزب العدالة والتنمية على أصواتٍ أقل، مقارنةً بما حصل عليه في انتخابات الرئاسة لعام 2018، بحسب الوكالة الأمريكية.
تحذيرات من الأكراد
قال ولفغانغ بيتشولي، الرئيس المشارك لمركز تينيو لدراسات الاستخبارات في ملاحظة بحثية هذا الأسبوع: "ستُمثِّل الانتخابات البلدية اختباراً على مدى الشعبية التي لا يزال الرئيس وحزبه العدالة والتنمية يحتفظان بها، بعد فترة من الأزمة الاقتصادية".
وكما حدث في الانتخابات السابقة يسعى أردوغان مجدداً لاستمالة المصوتين القوميين إلى جانبه عن طريق التحذيرات من أنَّ التطلعات الانفصالية بين الأقلية الكردية تُشكِّل تهديداً كبيراً لوحدة البلاد. وأذكى حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذي واجه تضييقاً واسعاً منذ فوزه بما يكفي من أصوات لدخول البرلمان عام 2015، الخلافَ بقراره البقاء خارج سباق الانتخابات في البلديات الحاسمة، خارج معقله جنوب شرقي البلاد، دعماً لمرشحي الكتلة المعارضة التي يقودها حزب الشعب الجمهوري.
لكن في الوقت الذي تزداد في المصاعب الاقتصادية تعمُّقاً، قد تفقد المظالم الإثنية قدرتها على التأثير في التصويت، حتى بين بعض كبار داعمي أردوغان.
فقال عمر، وهو أحد سكان أنقرة ويبلغ من العمر 50 عاماً، وله باع طويل في دعم حزب العدالة والتنمية: "أعتزم التصويت لمنصور. ففي نهاية المطاف، هو أيضاً قوميّ". وطلب عمر عدم الكشف عن هُويته.