تنطوي الدبلوماسية دوماً على موازنات حسَّاسة، لكن يندُر أن تكون هناك موازنات أكثر حساسية من تلك الماثلة أمام أجنحة السلطة في الجزائر مع الحلفاء والقوى الكبرى، كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
ففي الوقت الذي تشهد البلاد فيه اضطراباً سياسياً وحراكاً شعبياً غير مسبوقين ضدَّ جناح الرئيس بوتفليقة، قدَّم الرئيس المريض عرضاً مثيراً الأسبوع الماضي لشعبه، وعد فيه بتأجيل الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررةً في 18 أبريل/نيسان 2019، وعدم الترشُّح لعُهدة خامسة، لكنَّ عرضه يقضي بتمديد ولايته الرابعة حتى تعديل الدستور وإجراء انتخابات مبكرة، لن يشارك هو فيها، وهو ما يرفضه جلّ الشعب بشكل حاسم.
السفير الجزائري بواشنطن يسعى لتوضيح المشهد للأمريكيين
ومع خروج حشود أكبر من أي وقتٍ مضى وبشكل غير مسبوق في شوارع البلاد، الجمعة الماضية، تطالب بوضع حدٍّ لحكم بوتفليقة وعدم تمديد الولاية الرابعة، يجد الدبلوماسي المخضرم السفير الجزائري لدى الولايات المتحدة مجيد بوقرة –الذي يتولَّى مهامه في واشنطن منذ العام 2015- نفسَه أمام المسؤولين الأمريكيين، لطمأنتهم حول ضبابية المشهد الجزائري، محاولاً التوفيق بين دوره كمبعوثٍ للرئيس، ومشاعره باعتباره شخصاً "وطنياً جزائرياً"، كما يقول عن نفسه لموقع "فويس أوف أمريكا".
إذ صرَّح بوقرة في مقابلة مع موقع VOA الأمريكي بالقول: "أنا سفير الجزائر لدى الولايات المتحدة، لكنَّ الأهم أنَّني مواطنٌ جزائري، وبالتأكيد جزءٌ لا يتجزَّأ من شعبي. وأتمنَّى بصفتي جزائرياً أن أرى نجاحَ بلادي في هذه المرحلة الانتقالية"، مضيفاً أنَّ الواجب الدبلوماسي يُملي عليه توضيحَ ما يجري في بلده الأم للبلد المُستضيف.
بوقرة للأمريكيين: الرئيس استمع لنداء الشعب
في الوقت نفسه، أشاد بوقرة بقرار الرئيس في المقابلة مع الموقع الأمريكي، واصفاً قرارات بوتفليقة الأخيرة بأنَّها "دليل على أنَّه الرئيس استمع إلى نداء الشعب بضرورة إجراء تغييرات".
ووصف السفير الوضعَ في الجزائر بأنَّه "مرحلةٌ تاريخية أخرى في حياة أمتنا الفتيّة"، وعبَّر عن ثقته في أنَّ البلاد ستتوصل إلى حلول لمشكلاتها من خلال "الجهود المشتركة".
وعند سؤاله عمَّا إن كان يوافق المحتجين في أنَّ "الجزائر يمكنها أن تُبلي حسناً"، قال السفير: "إذا خرج الناس إلى الشوارع للدعوة إلى التغيير، فهذا بالتأكيد يعني أنَّ الجزائر يمكنها أن تُبلي حسناً، واتخاذ القرار بشأن تفاصيل ذلك ينبغي أن يكون أمراً خاصاً بالشعب الجزائري".
وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد صرَّحت الأسبوع الماضي، بأنها تدعم الجهود التي تبذلها الجزائر لرسم طريق جديد للمضي قدماً، وذلك تعليقاً على قرار بوتفليقة عدم السعي لولاية خامسة. مضيفة: "ندعم الجهود في الجزائر لرسم طريق جديد للمضي قدماً من خلال حوار يعبِّر عن إرادة كل الجزائريين وآمالهم في مستقبل آمن ومزدهر".
لموسكو نصيب من "الطمأنة" أيضاً وكسب الود
وفيما يحاول بوقرة توضيح المشهد الجزائري لواشنطن، يسعى الدبلوماسي الكبير وزير الخارجية رمطان لعمامرة لكسب تأييد موسكو أيضاً وطمأنتها، في محاولة لموازنة موقف نظام بوتفليقة مع الأقطاب الدولية المترقِّبة للمشهد الجزائري الجديد وتحولاته.
إذ أعرب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الثلاثاء 19 مارس/آذار 2019، عن "رفض بلاده لأي تدخل خارجي في شؤون الجزائر، مؤكداً أن موسكو تراقب عن كثب تطورات الأوضاع في هذا البلد العربي".
وأضاف لافروف، في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الجزائري لعمامرة بموسكو أن "الشعب الجزائري هو مَن يقرر مصيره بناء على الدستور".
من جهته، قال لعمامرة إن "الجزائر وروسيا تعملان ضمن ميثاق الأمم المتحدة والعلاقات الدولية، وكلا البلدين يقفان ضدَّ التدخل الخارجي في البلاد"، دون توضيح حول طبيعة هذا التدخل.
وتابع قائلاً: "لقد أنجزنا الكثيرَ في مجال الشراكة الاستراتيجية، وأمامنا مشاريع كثيرة هامة لتعزير العلاقات بين البلدين". كما أكد لعمامرة أن الاحتجاجات التي تشهدها الجزائر تندرج في "الشأن الداخلي والعائلي"، على حد تعبيره.
وتثير هذه التحركات الدبلوماسية الجزائرية الخارجية أسئلة حول توقيتها وتوازيها نحو روسيا وأمريكا، الخَصمين اللدودين المتنازعين على المصالح في المنطقة العربية، وهو ما يعكس صراعاً بين أجنحة نظام الحكم في البلاد، انتقل لأروقة دوائر الحكم بواشنطن وموسكو، بحسب محللين سياسيين.
لكن في الخفاء هناك صراع كبير بين أجنحة السلطة قد انتقل لموسكو وواشنطن
يرى المحلل السياسي الجزائري محمد باشوش أن التحركات الخارجية لحكومة بوتفليقة ما بين واشنطن وموسكو تناقض ما كان ينادي به النظام دوماً، حول عدم تدويل الأزمات الداخلية، وأن الجزائريين يرفضون دوماً إدخال أي طرف خارجي أزماتهم منذ تسعينيات القرن الماضي.
ويقول باشوش لـ "عربي بوست" إن التحركات هذه تأتي نظراً لبروز صراعات كبيرة داخل أجنحة نظام الحكم في الجزائر، فلأول مرة يكون النظام الجزائري هو المبادر لعملية التدويل والاتكاء على أقطاب دولية مختلفة.
مضيفاً أن التحركات الخارجية هي محاولة كل طرف داخل السلطة لترجيح كفة رؤيته لحل الأزمة في الجزائر؛ إذ إن جناح الرئيس بوتفليقة في السلطة المكون من شقيقه سعيد بوتفليقة وبعض الساسة المتنفذين ورجال الأعمال يتبنون التقارب مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
مشيراً إلى أنهم يحاولون الضغط على الجناح الآخر في السلطة، وهي المؤسسة العسكرية الممثلة برئيس الأركان قايد صالح، لتمرير مخططهم المتوقع ما بعد انتهاء ولاية بوتفليقة، في الـ28 من أبريل/نيسان القادم، مؤكداً أن نتائج الصراع هذه ستظهر من خلال ردة فعل المؤسسة العسكرية القادم.
واستشهد باشوش بتصريحات قائد الأركان الأخيرة، التي مال فيها قايد صالح للطرح الذي يتبنَّاه الشارع تقريباً، وهو تحييد جناح بوتفليقة في السلطة والشروع في إصلاحات عملية بوجوه جديدة غير مستهلكة، وبعيدة عن شبهات الفساد التي طالت محيط بوتفليقة.
ويرى باشوش أن جناح الرئيس يخوض معركةً دبلوماسيةً كبيرةً من خلال إصراره على عملية إعادة ترميم النظام، وأن يكون جزءاً من المشهد القادم، بالضغط المستمر على المؤسسة العسكرية، بالاستعانة بكلٍّ من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
هل تدعم موسكو الجيش الجزائري ضدَّ جناح بوتفليقة الموالي لأمريكا؟
الجديد بحسب المحلل الجزائري، هو استدعاء موسكو لوزير الخارجية لعمامرة، اليوم الثلاثاء، وذلك ربما من أجل إعادة الكفة لصالح المؤسسة العسكرية، أو على الأقل التأكد من عدم تمكّن النفوذ الأمريكي من الجيش، وبالتالي التحكم في إدارة المشهد القادم، والإضرار بالمصالح الروسية في المنطقة.
وبحسب باشوش، فإن جناح بوتفليقة في السلطة، المؤيد للطرح الأمريكي فيما يتعلق باستغلال الموارد في الصحراء، والنظرة الأمنية في الساحل، يراهن تماماً على واشنطن، لكنه في نفس الوقت يحاول طمأنة الروس بأن مصالحهم لن تتعرض للضرر.
ويضيف المحلل السياسي، أنه "من المعروف أن للجيش الجزائري علاقات قوية جداً مع موسكو دبلوماسياً وعسكرياً ومخابراتياً، فلذلك لا أعتقد أن تطمينات جناح بوتفليقة للروس ستكون كافيةً، إلا لو نجحت الضغوط الأمريكية الفرنسية في التأثير على المؤسسة العسكرية، والسماح لدائرة بوتفليقة بإدارة المشهد مجدداً، بعد إظهار بعض الإصلاحات الشكلية لوجه النظام"، على حد تعبيره.