بينما يرحِّب ماركوس دو سوتوير بالكاتب عند مدخل كلية نيو كولدج بجامعة أكسفورد، يبدو مظهره يوحي بصخبٍ هادئٍ من الألوان. تذكِّرُك ثيابُه بشخصٍ دلف إلى متجر White Stuff أو Fat Face والتقط هستيرياً أي شيءٍ عثر عليه في هذه الحالة، سترةٌ سلمونيةٌ بسحَّابٍ، وسروال برسم مربعات متعددة الألوان، ونعلان بدرجةٍ من اللون الفيروزي يبعثان على الصداع.
حين جلسنا لنتحدث في غرفة اجتماعاتٍ قريبةٍ، ظلَّ يجول بنظره بين صفحات دفتر ملاحظاتٍ يميل لونها إلى درجة من الأصفر البرَّاق.
كانت الصفحات مليئة بما يشبه المعادلات المكتوبة بسرعة، إلى جانب أشكال غريبة المظهر. ويفسّر لي ذلك أنها مسودة خام غير منقَّحة لمشروع يتناول أموراً هندسية شديدة التعقيد. وقال: "أتطلُّع إلى بنية تناظرية لا نهائية، وأعتقد أن أعلى جزء منها سيخبرني بكل ما يدور بداخلها. الأمر أشبه تقريباً ببحيرة لا متناهية، ويجب أن أكون قادراً على معرفة كل شيء يحدث فيها بالنظر إلى السنتيمتر الأول منها".
ثم قال فجأة بنبرة مليئة بالألم:
"ولكني لا أعرف".
التساؤلات الأولية
دو سوتوي، أستاذ الرياضيات وزميل فخري بكلية نيو كولدج، بعمر الثالثة والخمسين. ومنذ أحد عشر عاماً، عيَّنته جامعة أوكسفورد بمنصب أستاذية سيموني للفهم العام للعلوم، بحسب ما نُشر بصحيفة The Guardian البريطانية، وهو المنصب المثالي لمؤلف كتب غزير الإنتاج، وضيف دائم على شاشات التلفاز.
ولكن يبدو أن الكثير من أنشطته اليومية لا تزال تدور حول عالم مجرد ومعقد من الرياضة البحتة الساحرة، التي أصبحت، وفقاً لمساعيه الحالية، أكثر تعقيداً وصعوبة من أي وقت مضى. يقف علماء الرياضيات المعاصرون على مجموعة من المعارف، تمتد لعدة قرون من الزمان.
ثم إثبات العديد والكثير من النظريات؛ حتى بعض مجالات البحث الأصعب وأكثرها تعقيداً تم استكشافها وإغلاقها بالكامل. يبدو أنه لتوسيع نطاق الفهم البشري بشكل ملحوظ لا بد من اتخاذ قفزات فكرية عصيّة على الفهم.
قال: "يبدو أن طلبتي في مرحلة الدكتوراه يقضون ثلاث سنوات للوصول إلى النقطة التي يفهمون فيها المطلوب منهم". ثم مجدداً، وبنفس نبرة الألم:
"يبدو أننا نتناول المشكلات التي تحتاج إلى اتباع الكثير من الخيوط، التي يصعب على عقل واحد جمعها معاً".
رؤية للمستقبل
وهو ما يقودنا إلى وجود جديد نسبياً في عالم دو سوتوي: الذكاء الصناعي، واستخدم قوة حوسبة ضخمة من قبل علماء الرياضيات الذي يعملون على مواضيعهم المتطورة.
هذه هي نقطة بداية كتابه الجديد The Creativity Cod، وهو استكشاف لامع وشيق لما قد يعنيه الذكاء الصناعي بالنسبة للرياضيات، والفنون، وحتى فهمنا الحالي لكينونة الإنسان.
وعلى خلاف تلال الكتب الأخرى التي تتناول الأمور التقنية ستجد الكتاب متفائلاً بشكل أساسي، ولكنه يبدأ بنوبة حادة من القلق والانزعاج؛ حيث كتب دو سوتوي:
"أعاني من أزمة وجودية. وجدت نفسي أتساءل مع التغوّل الكاسح للتطورات الجديدة في مجال الذكاء الصناعي، هل سيظل العمل في مجال الرياضيات متاحاً للإنسان خلال العقود القادمة، الرياضيات تتناول الأرقام والمنطق، أليس هذا ما تقوم به أجهزة الحاسب بشكل أفضل؟"
وعندما جلس يتحدث، سألته: هل لديه رؤية عن العالم في المستقبل، حيث من المحتمل أن يجلس أشخاص بمثل نبوغه العقلي يشاهدون آلات تعمل على مشكلات معقدة ومستحيلة، وهي في العادة لا تدرك أي شيء عن أي شيء؟
فكّر لعدة ثوانٍ ثم أجاب: "أعتقد أن ذلك قد ينطبق أيضاً على كل شيء".
التجربة الفاصلة
كان وجود دو سوتوي ساحراً ومفعماً بالحيوية، ويثير الحماس في كل شيء يتحدث بشأنه، من فرقة باركيه كورتس الموسيقية الأمريكية (التي رآها منذ عدة سنوات في مهرجان غلاستونبوري) إلى فلسفة رينيه ديكارت.
تحدَّثنا لأكثر من ساعتين، وفي النهاية، نسي الكاتب مؤقتاً أنه كاد يرسب في دراسته في مادة الرياضيات، وتمكن من استيعاب بعض المفاهيم الرياضية وفهم الرحلة الفكرية التي تحدد معالم كتابه الجديد.
هذا هو كتابه السابع، والتالي لكتاب The Great Unknown في عام 2017، الذي يدور حول الحدود الخارجية للعلم، وتناول أسئلة تتراوح من طبيعة المادة المظلمة إلى إذا ما كان العالم لا نهائياً أم لا.
وتوضح افتتاحية كتاب The Creativity Code أن دو سوتوي خاض تجربة فاصلة في مارس/آذار 2016، عندما شاهد (AlphaGo) –برنامج مطور بواسطة شركة DeepMind المتخصصة في الذكاء الصناعي والواقعة في لندن ومملوكة لشركة جوجل– يلعب العديد من الجولات من اللعبة اللوحية الصينية القديمة (غو)، أمام بطل كوريا الجنوبية في اللعبة، لي سيدول.
وعلى خلاف برامج الألعاب التقليدية، استخدم برنامج AlphaGo التقنية المعروفة بـ "التعلم العميق" ليعلم نفسه كيفية اللعب بشكل أساسي. وكانت اللحظة الحاسمة في المباراة الثانية، عندما انحرف البرنامج فجأة عن الاستراتيجية التقليدية.
تُلعب (غو) على رقعة 19سم × 19سم، ويتنافس لاعبان على احتلال الخانات بأحجارهم السوداء أو البيضاء. دائماً ما يقضي اللاعبون بدايات اللعبة في التركيز على الحدود الأربعة الخارجية للرقعة، ولكن في الحركة 37، قرّر (AlphaGo) أن يضع حجراً على بعد خمس خانات من الحافة. يعتقد بعض المراقبين أن البرنامج ارتكب خطأ فادحاً، ولكن، كما تبين، كانت واحدة من الخطوات الأولى الملهمة والمحسوبة بدقة لفوز AlphaGo بالمباراة، بطريقة غير مسبوقة. وصرخ أحد شهود العيان:
"هذه حركة غير بشرية. جميل جداً، رائع، مذهل".
دراسة حالة لذكاء صناعي
في الماضي، شاهد دو سوتوي أجهزة الكمبيوتر وهي تتغلب على البشر في لعبة الشطرنج، ولكن هذا الأمر كان مختلفاً، يقول دو سوتوي:
"لم أشعر أبداً أن الفوز في الشطرنج يمثّل تهديداً إذا نجح الكمبيوتر في ذلك. فالأمر يصبح بسيطاً مع التقدم في اللعب، ولكن لعبة (غو) تزداد تعقيداً وصعوبة، حيث تصبح الأنماط والأشكال المتكونة على الرقعة أكثر تعقيداً وتركيباً.
لقد شاهدت هذه المباريات على يوتيوب أثناء لعبها، وفي الحركة 37، بدأت بالتفكير حقاً إذا كان عالمنا على وشك التعرض للغزو من قبل هذه الآلات الذكية".
ما يلمح إليه هو دراسة حالة لذكاء صناعي تخلَّى عن المعادلات والصيغ التي صمَّمها له البشر وبدأ في الإبداع. في مجال الرياضيات، يعني ذلك تجاوز مفهوم الذكاء الصناعي للأرقام المملة، وإن كانت معقدة، إلى نوع من الأنشطة البشرية الجوهرية التي تحدد كيفية عمل الأشياء: الاستراتيجيات، والترميز، و"اتخاذ الخيارات بشأن المسارات المثيرة للاهتمام".
ويقول دو سوتوي إن هناك بالفعل علماء رياضيات يعملون على أساس أن الذكاء الصناعي سيقوم بالكثير والكثير في هذه الأمور.
ولكنه يعتقد أيضاً أن هناك جوانب للذكاء البشري تناسب الرياضيات بشكل أفضل، وسوف تظلّ هذه الجوانب ملك البشر وحدهم.
ويعتقد –وللكسالى تسجيل ذلك– أن تهرب الإنسان من العمل الشاق أمر جيد في أغلب الوقت. ويقول:
"أعتقد أن الكسل البشري يمثل جزءاً مهماً في اكتشاف طرق جديدة وجيدة في القيام بالأعمال. غالباً أنظر إلى العمل وأفكر بأن هذا الأمر معقد جداً، لأتراجع خطوة إلى الخلف وأفكر في طريقة مختصرة. بينما الكمبيوتر سيقول إنه مجهز بكل الأدوات اللازمة ويبدأ بالتعمق أكثر وأكثر في العمل والمشكلة.
ولكن لأنه لا يشعر بالتعب ولا يصاب بالكسل، فقد يفوّت بعض الأمور التي يقودنا الكسل إليها. ربما ستكون هذه هي نعمتنا المنقذة، هناك فكرة مثيرة تفترض أننا مجبرون على اكتشاف طرق ذكية لأداء العمل، لأننا لا نمتلك القدرة الكافية للتعمق ذهنياً في الأمور".
الإبداع والمحاكاة
والرياضيات هي البداية فقط لما يتناوله هذا الكتاب الجديد. تناول دو سوتوي أيضاً الفنون المصممة بالذكاء الصناعي، والبرامج التي توصلت إلى أعمال مقنعة سطحياً مستندة إلى أساليب أساتذة قدام مثل رامبرات.
التي قال عنها الناقد الفني بصحيفة Guardian، جوناثان جونز، إنها "محاكاة ساخرة سيئة لا ذوق فيها ولا روح، واستهزاء بكل ما هو مبدع في الطبيعية البشرية".
ولكن ربما أبرز ما أثار اهتمامه هو العلاقة بين التقنية والموسيقى.
يعزف دو سوتوي على آلة البوق بالأوركسترا، ويعزف أيضاً على التشيلو، وكانت الموسيقى تصدح من نوافذه عندما كان طالباً في أوكسفورد الهادئة على الدوام.
في الماضي، ركّز باهتمام كبير على جوانب الرياضيات الموسيقية، والطريقة التي تمتلئ بها بأنماط محددة وعلاقات عددية.
وفي هذا الوقت، قدَّم أطروحة تزعم أنه بعد اتباع مجموعة محددة من الخيارات الموسيقية، سيتصرف العديد من الموسيقيين وفقاً لخوارزميات مثل برامج الكمبيوتر.
والآن، يتم استخدام الذكاء الصناعي المتطور للسيطرة على هذا التشابه، وإنتاج موسيقى حاسوبية متطورة على نحو متزايد. ويوافق أن بعض هذه الموسيقى أكثر من مجرد لحن شائع، وأكثر من مجرد محاكاة لفرقة أو ملحن بعينه.
بل أمثلة أخرى من الموسيقى بتأليف آلات أكثر من واعدة. وفي كلتا الحالتين يصر على أن أجهزة الكمبيوتر تصل بنا غالباً إلى أن الموسيقى أقل غموضاً وسحراً بكثير مما يعتقد بعض الأشخاص.
ويقول: "كلما أتحدث عن الرياضيات والموسيقى يغضب مني الناس جداً، لأنهم يعتقدون أنني أحاول تنحية المشاعر جانباً، ولكن عندما أتحدث إلى ملحّن، مثلما تحدثت مرة إلى فيليب غلاس، قال لي إن الناس يتفاعلون عاطفياً مع ألحانه وموسيقاه، ولكنه لا يضع بها أي عاطفة، إنما تأتي العاطفة بعد ذلك، وإنه يركز أكثر على البنية والقواعد.
لذا أعتقد أن هذه واحدة من النقاط التي يتناولها الكتاب وتمثّل الكثير من أشكال الفن، والتي يعتقد الجميع أنها جزء بشري فطري لا يمكنك أبداً فكّ شفرته، ولكننا نوضح أن الكثير من هذه الأشياء لديها بنية بالفعل يمكن التعرف عليها، والاختباء تحتها، وهي ما نستجيب لها".
التدريب على الإبداع هو المفتاح
وعندما سأله الكاتب إذا كان يعتقد أن الذكاء الصناعي سيتمكن، عاجلاً أو آجلاً، من التوصل إلى قطع موسيقية تبهرنا بقدر أي من الإنجازات البشرية الإبداعية، قال إنه يشعر بأن هذا سيحدث قريباً، ولكنها ليست الفكرة.
ويقول إن أفضل استخدام للذكاء الصناعي في الموسيقى هو بالاشتراك والتعاون مع البشر، كما في جهاز "Continuator" الذي طوّره فرانسوا باشيه، خبير الذكاء الصناعي الفرنسي، حيث يتعلم الجهاز الأسلوب الأساسي للموسيقى ثم يقترح اتجاهات جذرية.
وفي الكتاب، يقتبس دو سوتوي عن عازف البيانو بيرنارد لوبات، والذي اعتاد عزف ألحان ثنائية مع الجهاز الجديد:
"يعرض عليّ النظام أفكاراً يمكنني تطويرها، ولكنها كانت ستستغرق منه سنوات لتطويرها. ما يقدمه الجهاز هو عزفي بلا شك، ولكن لسنوات قادمة".
وهذا في الموسيقى يعادل الحركة 37 في لعبة (غو)، ويعتقد دو سوتوي أنها إشارة قوية لكيفية تفاعل البشر مع الذكاء الصناعي في المستقبل. ويقول:
"إننا نتصرف في أغلب الأوقات مثل الآلات. تقابلنا عقبة ما فنتوقف. أتعثر مثلاً أثناء التفكير في بعض المسائل الرياضية، إذا تمكن الذكاء الصناعي من رؤية ذلك ثم يشير إلى بعض الاحتمالات المفتوحة، فقد يجعلنا ذلك نتوقف عن التصرف كآلات، ويجعلنا أكثر بشرية مجدداً".
ويعتقد كذلك أن الآلات ستبدو أكثر بشرية، ظاهرياً على الأقل. وفي الكتاب، يقول إنه لا يرى سبباً جوهرياً يمنعنا في مرحلة مستقبلية من عمل آلة لديها وعي وإدراك.
التعاطف.. هل نراه في الذكاء الاصطناعي؟
ويشير إلى أن إرهاصات وبدايات الوعي بالذات تحدث في البشر عندما تتراوح أعمارهم بين 18 شهراً وعامين. وأنه أمر يحدث في عقل الطفل، حيث يتبدل وعيه ويتغير. ويقول:
"أعتقد أنه لا سبب على الإطلاق لكيلا تتمكن شبكة من الوصول لدرجة كافية من التعقيد بحيث تتمكن من فكّ ترميز نفسها، وأن يكون لديها إدراك ووعي بذاتها".
ثم أضاف بعد برهة: "أعتقد أنها ستكون قادرة على التعاطف أيضاً".
ولكن هل سيكون تعاطفاً حقيقياً؟ في الواقع، سيكون سلسلة من الخطوات المنطقية التي قد تقترب من التعاطف، ولكنه ليس تعاطفاً حقيقياً.
التعاطف لا يمكن وصفه: إنه ذلك الشعور الذي نكنّه نحو غيرنا من البشر والحيوانات، بل وأحياناً الجماد. كيف يمكن لمجموعة من الدوائر والأسلاك الوصول لذلك الشعور؟
يقول أيضاً:
"ما تقوله صحيح تماماً، ولكن هذه هي المشكلة الصعبة للوعي، لن نتمكن أبداً من معرفة إذا ما كان التعاطف زائفاً أم حقيقياً، ونفس الأمر ينطبق على البشر. هذه الآلات أفضل منّا بالفعل في التعاطف. بإمكان الذكاء الصناعي التعرف على الابتسامة الزائفة من الابتسامة الأصلية أفضل من البشر.
وإذا كنّا قلقين من مستقبل بائس، فيجب أن نريد ذكاء صناعياً متعاطفاً، يتفهم مدى مصاعب أن تكون إنساناً. وعلى الجانب الآخر، سنحتاج لفهم كيفية عملها، لأنها ستتخذ قرارات بشأن حياتنا".
نعتقد أننا نسيطر على الأمر.. ولكن!
ولهذا السبب يرى ضرورة أن نستمع إلى الموسيقى التي ينتجها الذكاء الصناعي، ودراسة كيفية قيام أجهزة الكمبيوتر بالعمليات الحسابية، والتحديق إلى الرسومات المُنتجة رقمياً، حتى إذا كانت محاكاة ساخرة وسيئة.
وذلك لفهم كيفية عمل هذه الآلات المتقدمة على أعمق مستوياتها، للتأكد من أننا نعرف كل شيء عن التقنية التي تقتحم الآن حياتنا.
ويقول أيضاً إن هذا هو أفضل سبب لقراءة كتابه:
"نعتقد أننا نسيطر على الأمر، ولكن في مرحلة ما، لن نكون كذلك. وإذا لم نتعلم الطرق التي نتحرك بها حول الخوارزميات فسنكون تحت رحمتهم".
ويقترح أنه عند حدوث ذلك ربما يصبح بإمكان البشر والآلات التحرك معاً نحو مستقبل تشاركي مشرق. وقال أخيراً: "هناك حقاً الكثير مما يبعث على التفاؤل والأمل"، قبل أن يلتقط مذكرته الصفراء، ويتطلع سريعاً إلى كل تلك الأشكال والمعادلات، ويستعد للعودة إلى العمل.