لا يبدو خليفة حفتر، قائد القوات المسيطرة على الشرق الليبي، متحمساً لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية تنهي المراحل الانتقالية في البلاد، بقدر اهتمامه بتوسيع مناطق سيطرته ونفوذه.
وبعد قضاء حفتر على آخر جيب مناوئ له في الشرق الليبي، بمدينة درنة، يوشك الآن على إحكام قبضته على الجنوب، ويتغلغل ببطء وصمت في مدن غرب طرابلس، مما سيضيق الخناق أكثر على العاصمة، غرباً وجنوباً، والتي أعلن أكثر من مرة استعداده لاقتحامها.
تململ في المدن الغربية
المعروف أن منطقة الغرب التي تضم طرابلس، تسيطر على معظم مدنها قوات تدعم حكومة الوفاق الوطني، خاصة بعد انضمام المجلس العسكري للزنتان، أكبر حلفاء حفتر في الغرب، إلى حكومة الوفاق، وتعيين قائده أسامة الجويلي قائداً للمنطقة العسكرية الغربية.
غير أنه في ظل الزخم الذي حققته "انتصارات" قوات حفتر في الجنوب، خاصة ضد المعارضة التشادية المسلحة، والنزاعات المسلحة بين الكتائب الداعمة لحكومة الوفاق على مناطق السيطرة والنفوذ، دفع بعض المجموعات المسلحة في الغرب إلى إعلان ولائها لحفتر.
ففي مطلع مارس/آذار الجاري، انطلقت مظاهرات مؤيدة لحفتر، في طرابلس، معقل حكومة الوفاق، وتم تفريقها، رغم محدوديتها، بالرصاص الحي، دون سقوط ضحايا، لكنها لفتت الأنظار إلى وجود أنصار لحفتر داخل العاصمة.
وعلى بعد نحو 40 كلم فقط من طرابلس، سيطرت مجموعة مسلحة من قبيلة "أولاد صقر"، في فبراير/شباط الماضي، وبشكل مفاجئ على معسكر "السلعة"، داخل مدينة الزاوية، التي تعتبر البوابة الغربية للعاصمة.
وسرعان ما خرجت مظاهرات رافضة لدخول موالين لحفتر إلى الزاوية، التي كانت من أولى مدن الغرب التي انتفضت ضد نظام القذافي في 2011، قبل أن يتداعى ثوار المدينة لطرد مسلحي حفتر.
لكن هذا التململ امتد إلى مدينة غريان، البوابة الجنوبية للعاصمة، المعروفة بمناهضتها لحفتر، الذي أعلن في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، تشكيل غرفة عمليات بها، وفي الفترة الأخيرة تشهد المدينة، حسب وسائل إعلام، نشاطاً غير مسبوق للمجموعات الموالية لحفتر، دفعت قوة حماية غريان وأعيان المدينة، إلى التبرؤ من الموالين لحفتر، ورفضهم أن تكون مدينتهم "ممراً لأي قوة عسكرية" نحو طرابلس.
أما مدينة صرمان (70 كلم غرب طرابلس)، فشهدت استعراضاً عسكرياً لقوات حفتر، مطلع فبراير/شباط الماضي، من خلال فيديو بثته فصائل موالية له، كما أعلنت في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، عقد اجتماع لعدد من ضباطها في المنطقة الغربية.
وشكل حفتر غرفة عمليات للسيطرة على المدن الساحلية ما بين الزاوية ومعبر رأس جدير الحدودي مع تونس، كما تتواجد قوات لحفتر إلى جانب قوات حكومة الوفاق في مدينة صبراتة، إحدى أكبر مدن الغرب الليبي، لتأمينها من تنظيم "داعش".
ما يعني أن الطريق الساحلي الاستراتيجي الرابط بين طرابلس وتونس، والذي يمتد على طوله عدة مدن ذات كثافة سكانية عالية، مهدد بالاشتعال مرة أخرى، خاصة بعد تمكن بعض المجموعات المسلحة التابعة لحفتر من التوغل تدريجياً في هذه المدن، باستثناء مدينة الزوارة (ذات غالبية أمازيغية) القريبة من معبر رأس جدير مع تونس (70 كلم)، وبلدة مليتة التي تحتضن أحد أكبر المجمعات النفطية في غرب البلاد.
وتتمركز قوات حفتر بالمنطقة الغربية في قاعدة الوطية الجوية (تبعد 80 كلم عن الحدود التونسية)، وبلدة العجيلات (95 كلم غرب طرابلس).
فصائل الغرب يستنفرون
وفي ظل هذا الوضع، اجتمع أعيان المنطقة الغربية (غرب طرابلس)، الأحد، بزوارة، بعد لقاء سابق في الزنتان، وتم خلاله الاتفاق على رفض أي تحرك لقوات حفتر في المنطقة.
غير أن هذا الاتفاق شهد عدة انشقاقات وانقسامات، وتبرأ موالون لحفتر في المنطقة الغربية، خاصة الزنتان والرجبان والنوائل، من ممثليهم المشاركين في الاجتماع.
ما يعني أن دخول قوات حفتر للمنطقة الغربية قد يؤدي إلى انقسام حتى داخل المدينة والقبيلة الواحدة.
وتشكل قوات أسامة الجويلي، قائد المنطقة الغربية والمنحدر من مدينة الزنتان، حليف حفتر السابق، أكبر عقبة أمام قوات الأخير في طريقه إلى طرابلس.
ففي خريف 2018، طردت قوات الجويلي، مسلحي ورشفانة، المتحالفين مع حفتر، من منطقة ورشفانة المحاذية لطرابلس، بعد أن سيطروا عليها في 2015.
كما أن كتائب طرابلس، أو ما يسمى بقوة حماية طرابلس، مسلحة بشكل جيد، وتشكل العقبة الرئيسية في وجه قوات حفتر.
مصراتة المنهكة مازالت ترفض حفتر
مدينة مصراتة، التي تتزعم المنطقة الغربية خاصة في جناحها الشرقي، أعلن أعيانها رفضهم العودة لحكم الفرد، وعسكرة الدولة، وأنهم "لن يسمحوا بعودة الدكتاتورية لحكم ليبيا".
لكن مصراتة التي كانت بالأمس أقوى قوة عسكرية في الغرب الليبي، استنزفت الكثير من قوتها في قتال "داعش"، في مدينة سرت وضواحيها في 2016، كما خاضت قبلها معارك ضارية مع كتائب الزنتان وحلفائها ما بين 2014 و2016.
حيث واجهت كتائب مصراتة أكبر انقسام لها منذ تشكلها في 2011، عندما اختار بعضها تأييد حكومة الوفاق في 2016، وأخرى انحازت لحكومة الإنقاذ (السابقة)، بقيادة ابن المدينة خليفة الغويل.
وتلقت كتائب مصراتة ضربتين قويتين؛ الأولى عندما فقدت سيطرتها على طرابلس، واضطرت للانسحاب منها تحت ضربات حلفائها السابقين في العاصمة (تحالف لكتائب طرابلس الداعمة لحكومة الوفاق)، والثانية عندما رفعت حكومة الوفاق بقيادة السراج، الغطاء السياسي، عن القوة الثالثة، التابعة لها، والمكلفة بتأمين الجنوب، فاضطرت للانسحاب من سبها وضواحيها، ومن محافظة الجفرة (وسط) وقاعدتها الجوية الاستراتيجية، تحت ضغط سياسي ودولي وعشائري وقصف جوي كثيف من طيران "مجهول" في قاعدة الجفرة الجوية.
ولا تبدو كتائب مصراتة حالياً متحمسة كثيراً للدفاع عن السراج وحكومة الوفاق، وظهر ذلك جليا عندما هاجم اللواء السابع- ترهونة، العاصمة، ولم تتحرك كتائب مصراتة بالقوة اللازمة لردعه، مثلما فعلت في 2016، عندما استنجدت بها حكومة الوفاق لمواجهة "داعش" في سرت.
فمصراتة صارت منكفئة على نفسها أكثر، رغم سيطرتها على مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس) وتمثيلها في المجلس الرئاسي بأحمد معيتيق، وفي حكومة الوفاق بوزير الداخلية فتحي باشاغا، أحد القيادات السياسية والعسكرية النافذة، وتواجد الكتيبة 301 (الحلبوص)، الموالية له، بطرابلس.
لكن كتائب مصراتة مازالت تتزعم الرافضين لسيطرة حفتر على طرابلس، وتقف كجدار صد أول في وجه قوات حفتر الراغبة في الزحف نحو العاصمة من الشرق، عبر سرت، وتقوم حالياً بحشد قواتها في المنطقة استعداداً لأي هجوم محتمل.
وهذا ما يفسر التفاف حفتر على مصراتة، وهجومه على مدن الجنوب وتغلغله في مدن غرب طرابلس، لمهاجمة العاصمة من مناطقها الرخوة جنوباً وغرباً، وتفادي الاصطدام بمصراتة القوية شرقاً.
وإذا سقطت طرابلس بيد حفتر، ستكون مصراتة معزولة شرقاً وغرباً وجنوباً، وقد تقبل بالحوار المفضي إلى اعترافها بـ "حاكم عسكري" على ليبيا.
قلق بشأن اتفاق السراج وحفتر
أحد الأسباب التي تثير قلق أعيان مصراتة وثوار المنطقة الغربية من اتفاق حفتر والسراج، في 28 فبراير/شباط الماضي، بالعاصمة الإماراتية أبوظبي، الغموض الذي يكتنفه، رغم أن البعثة الأممية إلى ليبيا أعلنت أنه تم الاتفاق على إنهاء المرحلة الانتقالية بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية تنهي سنوات الصراع.
لكن السراج أوضح، الأربعاء، أنه اتفق مع حفتر على "توحيد المؤسسات والإصرار على ذلك، وإنجاز الانتخابات قبل نهاية 2019، مع توفير المناخ الملائم لإجرائها".
وبحسب موقع "خليج أونلاين"، نقلاً عن مسؤول في حكومة الوفاق، فقد تم الاتفاق "على تشكيل مجلس عسكري أعلى يتكون من ثلاثة أعضاء" يترأسه حفتر، فيما يتولى باشاغا إدارة المجموعات المسلحة في طرابلس.
وعقب هذا الاتفاق، أقال السراج، قائد أركان الجيش الليبي عبدالرحمن الطويل، وخفض من رتبته العسكرية، وعين محمد المهدي خلفاً له.
غير أن "الطويل" اشترط أن يوقع على هذا القرار بإجماع أعضاء المجلس الرئاسي، وأبدى استعداده للقاء حفتر، من أجل توحيد المؤسسة العسكرية.
وهذا الخلاف بين السراج وقائد الأركان التابع له يزيد من تعقيد الأمر في المنطقة الغربية، خصوصاً أن حفتر يحاول كسب المزيد من الأوراق للتفاوض على دخول العاصمة سلمياً، في ضوء إعلان الولايات المتحدة مؤخراً رفضها "أي عمليات عسكرية في طرابلس تحت أي ذريعة".