عاد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، أحد أبطال حرب التحرير، الذي يحكم الجزائر منذ نحو 20 عاماً، للكفاح، لكن هذه المرة من أجل البقاء السياسي، وسط موجة احتجاجات شعبية من المستائين من سعيه لفترة ولاية خامسة.
لم يشاهد بوتفليقة ، الذي احتفل السبت بعيد ميلاده الثاني والثمانين في مناسبة علنية إلا فيما ندر، منذ أن أصيب بجلطة عام 2013. وقد ظهر على كرسي متحرك، في أبريل/نيسان من العام الماضي، وهو الآن في مستشفى بسويسرا.
ورغم ذلك فقد رشَّح نفسَه في انتخابات الرئاسة التي تجري الشهر المقبل، بهدف استمرار حكمه لبلد ما زال يكافح ركوداً اقتصادياً، ومع تصاعُد الرفض الشعبي لعهدته الخامسة قطع بوتفليقه عهداً على نفسه بتنفيذ 6 وعود، من بينها إجراء انتخابات مبكرة حال فوزه بالرئاسة.
استقبل المحتجّون عرض "بوتف"، كما يحلو للجزائريين تسميته، بجولة جديدة من الاحتجاجات المناهضة للحكومة في العاصمة ومدن أخرى.
من النضال ضد الاستعمار دعم الثوار
كان بوتفليقة من المناضلين في حرب 1954-1962، التي وضعت نهاية للحكم الاستعماري الفرنسي، ثم أصبح أول وزير للخارجية عقب الاستقلال، وأحد الوجوه الرئيسية التي وقفت وراء حركة عدم الانحياز ومنحت إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية صوتاً على الساحة العالمية.
ناصَرَ بوتفليقة الدول التي ظهرت في أعقاب العصر الاستعماري، وتحدَّى هيمنة الولايات المتحدة، وساعد في جعل بلده مهداً للتوجهات المثالية في ستينات القرن العشرين.
واستقبلت الجزائر شي جيفارا، ومنحت حقَّ اللجوء للناشط والكاتب الأمريكي إلدريدج كليفر، الذي كان من أوائل قادة حزب الفهود السوداء. واستقبل كليفر في البيت الآمن الذي كان يقيم فيه في العاصمة الجزائرية الناشط الأمريكي تيموثي ليري، المدافع عن تعاطي المخدرات في العلاج النفسي، وأحد قيادات حركة الثقافة المضادة في الولايات المتحدة.
وحصل نيلسون مانديلا في شبابه على أول تدريب عسكري في الجزائر، التي كانت ثورتها مصدرَ إلهام في الجنوب الإفريقي.
قصة مناضل من الصغر
وفي سن التاسعة عشرة انضمَّ بوتفليقة للثورة على الحكم الفرنسي، تحت حماية هواري بومدين، القائد الثوري الذي أصبح رئيساً للجزائر فيما بعد.
وبعد الاستقلال أصبح بوتفليقة وزيراً للشباب والسياحة وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وفي العام التالي عُيِّن وزيراً للخارجية.
وأصبح بوتفليقة ببذلاته الأنيقة والنظارات الشمسية التي راجت في الستينات متحدثاً باسم الدول الناشئة التي خرجت للنور بعد انتهاء الحكم الاستعماري. ومنحته السمعة التي اكتسبتها الجزائر من هزيمة فرنسا سلطة إضافية.
وطالب بوتفليقة بأن تحصل الصين الشيوعية على مقعد في الأمم المتحدة. وندَّد بالتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا.
وأثارت دعوة عرفات لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة عاصفة. فقبل عامين فقط من ذلك الحدث احتجز مسلحون فلسطينيون أعضاء في الفريق الرياضي الإسرائيلي في دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ رهائن، وقتلوهم.
وعندما خطف إليتش راميريز سانشيز، المعروف بكارلوس الثعلب، والمؤيد للقضية الفلسطينية، وزراءَ نفطٍ من اجتماع لأوبك في فيينا عام 1975، طالب بنقله جواً مع الرهائن إلى مدينة الجزائر. والتقطت الكاميرات لقطات لبوتفليقة وهو يعانق كارلوس في المطار، قبل أن يجلس الاثنان للتفاوض على إطلاق سراح الرهائن.
انقلبت الأمور عليه بنهاية السبعينات
وكرَّس بوتفليقة نفسَه عضداً أيمن لبومدين، وعندما تُوفي بومدين عام 1978 فَقَد بوتفليقة مرشده، وتم عزله من منصب وزير الخارجية، وبدأ التحقيق معه في مخالفات مالية. وقال بوتفليقة إن هذه الاتهامات مُلفَّقة في إطار مؤامرة سياسية.
غادر الجزائر في أوائل الثمانينات واستقرَّ في دبي، حيث أصبح مستشاراً لأحد أفراد الأسرة الحاكمة في الإمارة. وعاد إلى وطنه في 1987، لكنه عزف عن الأضواء، ورفض عروضاً لشَغْل مناصب حكومية.
في الوقت نفسه كانت الأوضاع قد بدأت تتدهور في الجزائر. وألغت الحكومة المدعومة من المؤسسة العسكرية انتخابات برلمانية في 1992، كان الإسلاميون على وشك الفوز فيها.
وفيما أعقب ذلك من صراع وقعت مذابح راح ضحيتها سكان قرى بكاملها، وتعرَّض المدنيون في شوارع المدن للذبح.
وبدعم من الجيش انتُخب بوتفليقة رئيساً للبلاد في 1999، بعد أن تعهَّد بوقف القتال. وفي مواجهة ومعارضة ضارية من مؤسسة الحكم أصدر عفواً عن المتشددين الذين ألقوا السلاح، وانحسر العنف بصورة كبيرة.
وأُعيد انتخابه في 2004 ثم في 2009، رغم أن خصومه قالوا إن الانتخابات شهدت تزويرا. ومن خلال سلسلة من المعارك الضارية على النفوذ مع قوى الأمن خلف الكواليس أصبح بوتفليقة مع بداية فترة ولايته الثالثة أقوى رئيس تشهده الجزائر على مدار 30 عاماً.
وعد بألا يكون "ثلاثة أرباع رئيس"
عمل بوتفليقة، الذي اتهمه خصومه بأنه دمية بيد الجيش، على تفكيك نفوذ هذه المؤسسة القوية في الحكم، ووعد بأنه لن يكون "ثلاثة أرباع رئيس".
وفي العام الماضي عزَّز سلطته بعزل أكثر من عشرة من كبار قيادات الجيش.
في 2011، وفي خضمّ أحداث الربيع العربي، اشترى بوتفليقة السلم الاجتماعي بالعائدات السخية للنفط الذي ارتفعت أسعاره إلى أعلى مستوى حينها، عن طريق التقديمات الاجتماعية.
وبفضل إيرادات النفط والغاز تحسَّنت الأوضاع في الجزائر، وعمَّها قدر أكبر من السلام، وأصبحت أكثر ثراء.
لكن لا يزال الفساد والركود السياسي والاقتصادي متفشياً فيها، داخل منطقة شهدت الانتفاضات الشعبية بها إلى تغيير نظم الحكم في دول مجاورة.
غير أن الاحتجاجات على سوء مستويات المعيشة ونقص فرص العمل والخدمات أصبحت شائعة، ويتطلع المستثمرون الأجانب لتطبيق إصلاحات اقتصادية تقضي على البيروقراطية التي تعوق النشاط في كثير من الأحيان.
تشبث بالحكم رغم المرض والاحتجاجات
بوتفليقة، الذي وُصف برجل المصالحة، أصبح اليوم بالنسبة إلى كثيرين، الرجل المريض الذي يتشبث بالحكم، رغم المرض الذي يُقعده، والرفض الشعبي لتجديد ولايته مرة خامسة.
ومنذ 22 فبراير/شباط، تصاعدت الاحتجاجات الرافضة لترشحه لولاية خامسة.
وتعهَّد بوتفليقة بعدم إكمال ولايته الخامسة في حال الفوز بها، وتنظيم انتخابات مبكرة. وكتب في رسالة للمحتجين "أتعهد أنني لن أكون مترشحاً فيها، من شأن هذه الانتخابات أن تضمن استخلافي في ظروف هادئة، وفي جو من الحرية والشفافية".
حياته الخاصة
ولا يُعرف شيء يذكر عن حياته الخاصة، فلا تذكر السجلات الرسمية له زوجة، رغم أن البعض يقولون إنه تزوَّج عام 1990. وعاش بوتفليقة مع والدته منصورية في شقة بمدينة الجزائر، حيث اعتادت أن تعد له الطعام.
وحلَّ به كبر السن والمرض، وأجرى أطباء فرنسيون جراحة له في 2005 لعلاج ما وصفه مسؤولون بقرحة في المعدة. وجاء في برقيات دبلوماسية أمريكية مسرَّبة أنه مصاب بالسرطان، ونال منه الضعف بعد أن توفيت والدته في 2009.
وقال بوتفليقة في خطاب ألقاه في سطيف بشرقي الجزائر، في مايو/أيار عام 2012، إن الوقت قد حان لأن يسلم جيله الراية لقيادات جديدة.
وبعد شهور، وفي أوائل 2013، أصيب بجلطة دخل في إثرها مستشفى في باريس لمدة ثلاثة أشهر. ولم يُشاهَد علانيةً إلا قليلاً منذ ذلك الحين، بعد عودته للجزائر للنقاهة. وقال التلفزيون السويسري إنه موجود حالياً يُعالج في مستشفى بجنيف.