أجَّج التقرير الناري الذي أصدره الديمقراطيون في مجلس النواب الأمريكي والذي يزعم أن إدارة الرئيس دونالد ترامب سعت إلى مساعدة حلفائها ببيع تكنولوجيا طاقة نووية للمملكة العربية السعودية- التوترات بين البيت الأبيض والمشرعين في مجلسي النواب والشيوخ، بحسب مجلة Foreign Policy الأمريكية.
بغض النظر عن فساد العملية ذاتها، هل هناك سبب للخوف من حصول السعودية على نوع تقنية توليد الطاقة نفسه الذي تستخدمه الآن بالفعل أكثر من 30 دولة في العالم؟
كل من المشرعين الجمهوريين والديمقراطيين وخبراء الطاقة النووية الذين أصابهم الهلع المتزايد من السلوك المتهور للسعودية يقولون إن هناك بعض الأسباب والمآخذ.
طبقاً لتقرير المجلس، حذر المبلغون "من أن بعض السياسيين المعينين يتجاهلون توجيهات مستشاري الأخلاقيات رفيعي المستوى في البيت الأبيض، الذين طلبوا من مسؤولين كبار بإدارة ترامب، مراراً دون جدوى، أن يوقفوا جهودهم" الرامية إلى بيع الخبرة الفنية في توليد الطاقة النووية للرياض. وحذر المبلغون مجهولو الهوية أيضاً من حدوث "تضارب مصالح بين مستشارين كبار في البيت الأبيض، وهو ما قد تنتج عنه مخالفات للقوانين الجنائية الفيدرالية".
خاشقجي مرة أخرى
وفي أعقاب عملية القتل البشعة التي أمر بها النظام السعودي في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2019، وراح ضحيتها الصحفي جمال خاشقجي، الذي كان يعمل كاتباً لدى صحيفة The Washington Post الأمريكية- تأججت مشاعر الكراهية تجاه السعودية بواشنطن، في حين أنها كانت قد بلغت أقصاها بالفعل، بسبب تزايد الأعمال الوحشية باليمن. قدم مشرعون مثل السيناتور الجمهوري ماركو روبيو تشريعاً من شأنه إعطاء الكونغرس، على نحو استثنائي، القول الفصل في مسألة السماح بتصدير التقنيات النووية إلى السعودية، أو إضافة مزيد من القيود على الاتفاق المعتاد، مع نية معلنة تهدف إلى إحباط سعي الرياض إلى الحصول على قنبلة نووية.
قال روبيو لموقع The Daily Beast الأمريكي: "إذا كانت هناك حكومة لديها الرغبة في قتل أحد الحاصلين على الإقامة الأمريكية، فيحق لنا أن نتساءل عن مدى ثقتنا بهذه الحكومة لمنحها طاقة نووية، واحتمالية تسليحها نووياً".
هل يحتاج بلد النفط لطاقة نووية؟
وعلى الجانب الآخر، تحتاج السعودية بالتأكيد لمزيد من الطاقة، في ظل زيادة متطلباتها من الكهرباء بمعدل 8% سنوياً، من أجل تشغيل المكيفات، ومحطات تحلية المياه، وغيرها. وتسعى الدولة إلى إيجاد مصدر آخر للطاقة غير البترول والغاز اللذين يعتمدون عليهما اعتماداً كلياً الآن، لتبقى قناديلها مسرجة.
تحرق البترول الذي تريد تصديره
يريد المسؤولون في السعودية، التي تحرق عُشر إنتاجها من البترول كل صيف لإنتاج الكهرباء فقط، الحفاظ على هذا الذهب الأسود من أجل صادرات مربحة أكثر. وتكمن إحدى الإجابات في إضافة مزيد من مصادر الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية. والإجابة الأخرى هي الطاقة النووية، إذ تخطط الدولة لبناء 16 محطة طاقة نووية كبيرة على مدار الأعوام الـ25 القادمة، طرحت الرياض أول محطتين للمناقصة بالفعل، وهو ما اجتذب اهتمام روسيا، والصين، وفرنسا، وكوريا الجنوبية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
ويمكن أن تحصل على المفاعلات النووية من الشرق
تتشبث الصناعة النووية الأمريكية، التي لا فرصة لديها بأي مشاريع كبيرة في الوطن، بهذه الفرصة التي قد تكون سوقاً يقدَّر بـ100 مليار دولار. وقال أحد القائمين على الصناعة إن الغزو السعودي لعالم الطاقة النووية هو "صفقة العقد"، وإن المسؤولين الأمريكيين، وجماعات الضغط السعودية يضغطون على إدارة ترامب لتسهيل أعمال شركات الطاقة النووية الأمريكية في المملكة. والتقى كبار القائمين على الصناعة النووية الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، هذا الشهر (فبراير/شباط 2019)، لمناقشة أمر السعودية، ومواضيع أخرى.
يقول مسؤولو إدارة ترامب إنه يجب على الصناعة النووية الأمريكية أن تبيع المفاعلات للسعودية، وإلا فستفعل روسيا ذلك، أو الصين، وهو ما قد يمنح لموسكو أو بكين شراكة استراتيجية مربحة مع واحدة من الدول بالغة الأهمية بالشرق الأوسط. (في يوم الجمعة 22 فبراير/شباط 2019، اتخذت خطوة كبيرة أخرى تجاه تعميق العلاقات الوثيقة بالفعل مع الصين في مجال الطاقة، بتوقيع اتفاق بقيمة 10 مليارات دولار لبناء محطة لتكرير البترول).
في العموم، توجد منافع أخرى لبيع الولايات المتحدة التقنيات النووية، ويقول كثير من الخبراء إن الولايات المتحدة تصدر أيضاً نظامها التنظيمي، ومعايير الأمن والسلامة، والبروتوكولات الصارمة للحد من الانتشار النووي، وهو ما يجعل المشاركة الأمريكية في الركب العالمي للطاقة النووية إحدى طرق تعزيز الأمن العالمي، وليس تقويضه، بحسب المصالح الأمريكية.
اتفاقيات أمريكا النووية
لكن لكي تبيع الولايات المتحدة المفاعلات في الخارج، تحتاج اتفاقاً رسمياً مع الدولة الأخرى، لتنظيم كيفية استخدام هذه التقنيات النووية فقط. وحتى الآن، أبرمت الولايات المتحدة نحو 50 اتفاقاً من مثل هذه الاتفاقات، تُعرف باسم "اتفاقيات المادة 123" تبعاً لفصل من قانون الولايات المتحدة الأمريكية للطاقة الذرية لعام 1954. تدور المفاوضات بين واشنطن والسعودية منذ سنوات عديدة حول إبرام اتفاقية المادة 123 الخاصة بهما، لكن مؤخراً، أصبحت هذه الجهود تواجه عراقيل غير متوقعة، أو بالأحرى أصبحت تواجه مشكلات، بسبب سلوك السعودية.
هل يتحول البرنامج السلمي إلى عسكري؟
يقول كثير من الخبراء إن التخوفات من أن السعودية ستحوّل المفاعلات النووية إلى مولدات من أجل برنامج تسليحٍ تخوُّفات مبالغ فيها، إذ تستخدم المفاعلات يورانيوم منخفض التخصيب، في حين تحتاج القنابل يورانيوم عالي التخصيب. ومن الصعب إخفاء مثل هذا النوع من التخصيب، ولا حاجة لنا لذكر التكلفة. فعملية إعادة معالجة الوقود النووي المنهك لإزالة البلوتونيوم لبناء قنبلة عملية أكثر تكلفة بكثير.
قالت كاتي توب المتخصصة بالطاقة النووية في مؤسسة Heritage: "يبدو أن هناك خلطاً بين قضايا الأمن القومي المشروع، والتقنية النووية المدنية. فالسعودية ليست إيران، وليست كوريا الشمالية". وتقول إن اتفاقية المادة 123 المعتادة، مثل تلك التي أبرمتها الولايات المتحدة عشرات المرات مع دول أخرى، ستوفر بعض الضمانات والمراقبة لضمان أن السعودية تستخدم التقنية بمسؤولية، مضيفة: "هناك خطوات عديدة تفصل بين اقتناء مصدر الطاقة النووية، واقتناء قنبلة".
إذن، ما المشكلة بمساعدة السعودية في تلبية حاجتها المتزايدة للطاقة ببناء مفاعلات نووية بأيدٍ أجنبية، مثلما فعلت كثير من الدول من الصين إلى فيتنام إلى الإمارات؟
يقول جون وولفستال، المسؤول الكبير السابق في مجال حظر الانتشار النووي بإدارة الرئيس باراك أوباما والذي يعمل الآن مدير مجموعة Nuclear Crisis Group: "الإجابة البسيطة هي: لا شيء. فالتقنيات النووية السلمية يمكن ضمانها، بالإضافة إلى أنها ليست مناسبة كفاية لإنتاج مواد أسلحة نووية".
وأضاف وولفستال: "باستثناء أمر واحد، السعودية لا تريد المفاعلات وحسب، لكنها تريد القدرة على تخصيب اليورانيوم. وهذه تقنية بالغة الحساسية".
كل الدول التي وقَّعت على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، مثل السعودية، لها نظرياً الحق في تخصيب اليورانيوم. واستناداً إلى هذا الحق، رفضت السعودية التخلي عن وجود تخصيب اليورانيوم باعتباره جزءاً من أي اتفاقية مع الولايات المتحدة. وهذا يتناقض مع ما فعلته الإمارات حينما وقعت اتفاقية المادة 123 في عام 2009، التي تضمنت حظراً صريحاً لأي أنشطة تخصيب، لضمان عدم الانتشار. لكن السعودية رفضت التوقيع على هذا الجزء الذي يُدعى "المعيار الذهبي".
قال وولفستال: "عدم الرغبة في التوقيع على (البند الذهبي) يعطل الناس".
فالتمسك بالحق السيادي في تخصيب اليورانيوم لا يعني سوى شيء واحد. والمشكلة الأكبر تكمن في أنه على الرغم من معاهدة عدم الانتشار، صرَّح مسؤولون سعوديون من قبلُ بأنهم سوف يطورون قنبلة نووية بأنفسهم إذا فعلت إيران هذا.
قال ولي العهد محمد بن سلمان، في العام الماضي (2018): "إذا طورت إيران قنبلة نووية، فسوف نحذو حذوها".
وهذا هو السبب الرئيس للقلق الذي تسبب فيه سعي الرياض إلى إنشاء محطات طاقة نووية على نحو لم يكن موجوداً بالنسبة للدول الأخرى التي تحولت إلى الطاقة الذرية قبل ذلك. فبعد أن أبرمت الولايات المتحدة اتفاقاتها الباهظة مع الإمارات على سبيل المثال، وقعت اتفاق المادة 123 مع فيتنام، والذي لم يتضمن القيود نفسها على نحو واضح.
قالت لورا هولغيت، السفيرة السابقة للولايات المتحدة لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية: "عكس أي شريك محتمل آخر، المسؤولون السعوديون سبق أن قالوا: (قد نحتاج سلاحاً نووياً)".
وأضافت هولغيت، التي أصبحت نائبة رئيس إدارة مخاطر المواد بمبادرة التهديد النووي: "ولهذا، فإن التفكير في إمداد السعودية بأكثر التقنيات النووية سلمية حتى، هو منظور مختلف تماماً بالنسبة إلينا".