في البداية، كان الرئيس ترامب بصدد سحب الألفي جندي أميركي الموجودين في سوريا جميعهم على الفور. ثُمَّ قرَّر إبطاء عملية الانسحاب. ثُمَّ قرَّر إبقاء القوات المنسحبة في العراق المجاور.
والآن، في آخر تغييرٍ في موقفه، وافق ترامب على إبقاء نحو 400 من القوات الأمريكية في سوريا، 200 ضمن قوة متعددة الجنسيات في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد، و200 آخرين في قاعدة صغيرة في الجنوب الشرقي، حيث سيسعون للتصدي لنفوذ إيران في مختلف أنحاء البلاد.
جاء قراره الالتزام بما وصفه مسؤول كبير بالإدارة يوم الجمعة بـ"مئتي جندي" ضمن قوة متعددة الجنسيات تعمل جنوبي الحدود التركية، بعدما رفض الحلفاء الأوروبيون إرسال قواتهم في حال لم تشارك معها القوات الأمريكية.
الأوربيون متشككون
وقال المسؤول إنَّ مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون ضغط على الرئيس من أجل اتخاذ القرار أول أمس الخميس 21 فبراير/شباط، وسط إشاراتٍ على أنَّ مفاوضات وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) الرامية لتشكيل قوة للمراقبة وحفظ الاستقرار كانت تتعثَّر بسبب الممانعة الأوروبية.
ولم يتضح ما إن كان قرار ترامب سيقنع القادة الأوروبيين المتشككين أم لا. وكان البيت الأبيض أمس الجمعة 22 فبراير/شباط لا يزال مستمراً في متابعة الأمر مع المسؤولين البريطانيين والفرنسيين. لكنَّ هذا أكَّد الفوضى التي تبعت إعلان الرئيس المفاجئ بالانسحاب في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وترامب يتراجع
وبدأ ترامب يتراجع عن الجدول الزمني المخصص لانسحاب الفوري تقريباً، وذلك تحت الضغط القوي ليس فقط من الحلفاء الأوروبيين والجمهوريين في الكونغرس، لكن كذلك من الجيش ومستشاريه لشؤون الأمن القومي، الذين فُوجِئوا بإعلانه الانسحاب.
وعزَّز البيت الأبيض حالة الارتباك يوم الخميس بعد خروج الأنباء عن القرار الأخير للرئيس. فقالت المتحدثة باسمالبيت الأبيض سارة ساندرز في بيانٍ لها إنَّ "مجموعة صغيرة لحفظ السلام تتألف من نحو 200 (جندي) ستبقى في سوريا لبعض الوقت".
وقوة أخرى متعددة الجنسيات
في الحقيقة، ووفقاً للمسؤول الكبير بالإدارة، لن تكون القوات مجموعة لحفظ السلام، بل سيجري نشرها لأجلٍ غير مسمى ولن تكون القوات الأمريكية الوحيدة التي تبقى في سوريا. إذ سيبقى 200 جندي آخرين في قاعدة التنف جنوب شرقي سوريا قرب الحدود مع العراق والأردن.
وقال المسؤول إنَّ القوة متعددة الجنسيات المقترحة قد يصل عددها إجمالاً إلى ما بين 800 و1500 جندي من كل بلدان حلف شمال الأطلسي (الناتو) تقريباً. وتهدف إلى تأمين منطقة آمنة في منطقةٍ لا تزال عُرضة أن تشهد تمرداً من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وهجوماً من القوات التركية، التي تريد ضمان عدم قدرة المقاتلين الأكراد على شن هجمات إرهابية على طول حدودها.
هل بقيت داعش؟
وأثناء إعلان ترامب الانسحاب في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن أنَّ الولايات المتحدة قد قضت على داعش. فقال: "أولادنا، وشبَّاننا، ورجالنا، كلهم عائدون إلى البلاد، وسيعودون الآن".
لكن بحسب المسؤول، يُقِرّ ترامب الآن بأنَّه لا يزال هناك داعمون لداعش شمال شرقي سوريا وهو مستعد للإبقاء على قوة برية أمريكية جاهزة للقتال لمنع المقاتلين المتطرفين من إعادة التجمُّع. وستواصل الولايات المتحدة كذلك تقديم الدعم الجوي لضرب أهداف داعش.
لن تعمل تحت الأمم المتحدة
ورفض المسؤول تحديد قواعد اشتباك القوات، قائلاً إنَّها مسألة تخص البنتاغون. لكنَّه أوضح أنَّ القوات لن تعمل تحت تفويضٍ لقوات حفظ سلام من الأمم المتحدة.
وناقش ترامب آخر التطورات يوم الخميس مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي كان تحدث معه كذلك في ديسمبر/كانون الأول قبل إعلان سحب القوات.
وكان قرار ترك قوة باقية في سوريا مدفوعاً بقوة من جانب رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي الجنرال جوزيف دانفورد، والذي زار تركيا مع بولتون بعد فترة وجيزة من إعلان ترامب الانسحاب وبدأ يُمهِّد الأرض أمام قوة متعددة الجنسيات.
معجزات ترامب تنفد
وقال دانفورد لزملائه في الإدارة إنَّه يستنزف معظم "معجزاته السبع" لوضع سياسة مستدامة في سوريا، في إشارة طريفة لمعجزات المسيح التي وردت في إنجيل يوحنا.
ومنذ قرار ترامب سحب القوات، كان الجنرال دانفورد وكبار مسؤولي الجيش يبحثون كيفية إبقاء الوجود العسكري الأمريكي في سوريا. ويرغب البنتاغون بالتحديد في الإبقاء على التعاون مع المقاتلين الأكراد والعرب المدعومين أمريكياً في سوريا والذين تحمَّلوا الجزء الأكبر من القتال ضد داعش.
وستواصل القوات المتمركزة في التنف تدريب المقاتلين المحليين السوريين ومراقبة الميليشيات المدعومة إيرانياً في المنطقة. ويمكن للقوات أيضاً أن تنقل المعلومات الضرورية لتوجيه الغارات الجوية للأهداف.
وكان مسؤولو البنتاغون قد خططوا لتقديم مقترحهم لترامب في الأسابيع المقبلة، وقالوا إنَّهم تفاجأوا على نحوٍ سار حين أيَّده الرئيس بصورة مفاجئة الخميس. وقال المسؤول الكبير في الإدارة إنَّ بولتون، الذي يُتَّهم بأنَّه تكتَّم بصورة حثيثة على المعلومات بشأن اعتزام الرئيس الانسحاب، أبلغ البنتاغون بعد "30 ثانية" من محادثته مع الرئيس.
أغضب قرار ترامب مغادرة "السوريين الحلفاء لأمريكا" الذين حذَّروا من أنَّهم سيتركون المعركة ضد داعش في حال أقدمت الولايات المتحدة على الأمر نفسه. وهدَّد قادة قوات سوريا الديمقراطية، الذين قاتلوا إلى جانب القوات الأمريكية، بإطلاق سراح أسرى الحرب التابعين لداعش إذا ما مضى الانسحاب قدماً.
بريطانيا وفرنسا غاضبتان
وفي مؤتمرٍ للأمن عُقِد بمدينة ميونخ الألمانية الأسبوع الماضي، كان المسؤولون البريطانيون والفرنسيون متشددين مع نظرائهم الأمريكيين وفي الحوارات التي أجروها بأنَّ بريطانيا وفرنسا لن تلتزما بقوات على الأرض في سوريا ما لم تفعل الولايات المتحدة الشيء نفسه. واستمروا في الرفض، حتى بعدما جادل المسؤولون العسكريون الأمريكيون بأنَّ لندن وباريس أكثر احتمالاً للتعرُّض لهجمات ناتجة عن معاودة ظهور داعش من جديد مقارنةً بنيويورك أو واشنطن.
وبقدر ما كانت العملية فوضوية، قال بعض المحللين إنَّ الولايات المتحدة عادت الآن فعلياً إلى سياسة عسكرية قابلة للتطبيق في سوريا، مع قواتٍ كافية على الأرض لحفظ الوضع القائم في الشمال الشرقي والحفاظ على التوافق مع الحلفاء، خصوصاً الأكراد.
وحتى البنتاغون تفاجأ
مع ذلك، ترك إعلان البيت الأبيض الخميس البنتاغون في حالة تدافع مجدداً. إذ أحال مسؤولو الوزارة كل الأسئلة بشأن الإعلان إلى البيت الأبيض.
لم يكن البنتاغون يتوقع القرار بمثل هذه السرعة، وكان يتوقع تسليم مقترح نهائي لإقناع الرئيس في غضون بضعة أسابيع. وتحدث المسؤولون عن أجواء سريالية في صفوف القادة العسكريين الذين يعملون على السياسة تجاه سوريا ولم يعد بمقدورهم معرفة ماذا يتوقعون من يومٍ إلى آخر.
حقق مستشار الأمن القومي الأمريكي والمتشدد القديم ضد إيران جون بولتون انتصاراً حاسماً في ما يخص التراجع عن قرار الرئيس ترامب سحب كافة القوات الأمريكية من سوريا.
ومكالمة مع أردوغان كان لها أثر كبير
جاء القرار، الذي أُعلِن في البداية في وقتٍ متأخر يوم 21 فبراير/شباط، بعد ساعاتٍ فقط من مكالمة هاتفية بين ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ووفقاً للبيت الأبيض، اتفق الرئيسان على مواصلة التنسيق لإقامة منطقة آمنة محتملة على الحدود التركية مع سوريا. وهذه هي المرة الثانية في الشهور الأخيرة التي يأتي فيها قرارٌ كبير بشأن سوريا عقب مكالمة هاتفية بين ترامب وأردوغان.
وقال وزير الدفاع الأمريكي بالإنابة باتريك شاناهان أثناء لقاءٍ مع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار بعد ظهيرة أمس الجمعة إنَّ المهمة في سوريا كما هي دون تغيير: هزيمة داعش. وأشار إلى أنَّ القوات الأمريكية التي ستبقى في البلاد ستركز على "إرساء الاستقرار وتعزيز القدرات الأمنية لقوات الأمن المحلية". وأضاف: "سنقوم بذلك باعتبارنا شركاء استراتيجيين".
والهدف: قطع طريق إيران في سوريا
كان الإبقاء على وجود في سوريا، خصوصاً في قاعدة التنف، التي تطل على طريق إمدادٍ إيراني محتمل عبر العراق إلى سوريا، هدفاً لبولتون منذ شهور. وأفادت تقارير أنَّ بولتن ناقش، أثناء جولة له في المنطقة كانت تهدف لطمأنة الحلفاء بأنَّ الولايات المتحدة لن تتراجع عن استراتيجيتها للتصدي للعدوان الإيراني، مع المسؤولين الإسرائيليين خطة إبقاء قواتٍ في القاعدة كوسيلة لتقليص نفوذ إيران في المنطقة.
كانت التنف في الأصل قاعدة أمريكية لتدريب المقاتلين السوريين المحليين. لكن مع انهيار داعش بصورة مطردة، أصبحت التنف دعامة حاسمة ضد النفوذ الإيراني. وأنشأ المسؤولون في عام 2017 "منطقة محظورة" تمتد لنحو 34 ميلاً (54.7 كم) حول القاعدة، وهو ما يسمح للقوات الأمريكية بادعاء الدفاع عن النفس عند ضرب القوات الإيرانية أو أي قوات أخرى تتحرك عبر هذه المنطقة.
لكن هناك مخاطر كبيرة
لكنَّ الإبقاء على وجودٍ أمريكي في التنف، بعيداً عن المعركة ضد داعش شمال شرقي سوريا، يفرض مخاطر كبيرة. إذ وقعت حادثة عند القاعدة عام 2017 كانت تنطوي على نقل مرحاضٍ إيراني متنقل كاد يقود إلى مواجهة بين القوات الأمريكية والإيرانية، الأمر الذي يوضح مدى السرعة التي قد تتفاقم بها حتى الأحداث الصغيرة فوق ساحة المعركة المعقدة هناك.
إذن، ما هدف القوات الأمريكية؟
علاوة على ذلك، يُثير ترك قوة صغيرة في كلٍ من سوريا والعراق لـ"مراقبة إيران" بدلاً من قتال داعش تساؤلاتٍ قانونية. فالقوات الأمريكية قادرة على قتال المسلحين التابعين لفاعلين من غير الدول، مثل تنظيمي داعش أو القاعدة، بموجب قانون "التفويض باستخدام القوة العسكرية لعام 2001″، الذي صدر رداً على هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. لكنَّ القوات الأمريكية ليست مُفوَّضة لاستهداف الفاعلين من الدول –مثل الإيرانيين، أو الروس، أو السوريين، أو القوات الوكيلة للنظام في سوريا- إلا إذا تعرَّضت للهجوم وكانت ترد دفاعاً عن النفس.
وكان أحد مساعدي السيناتور بيرني ساندرز صرَّح لمجلة Foreign Policy الأمريكية في مطلع فبراير/شباط الجاري قائلاً: "لم يُقدِّم الكونغرس تفويضاً للقيام بمهمة ضد إيران في سوريا. الحقيقة أنَّ الأساس القانوي للوجود العسكري في سوريا، المتمثل في قانون التفويض باستخدام القوة العسكرية لعام 2001، هشٌ للغاية ويحتاج إلى إعادة النظر فيه. إنَّ أي تحرُّك من إدارة ترامب لتوسيع هذا التفويض أكثر ليشمل عملياتٍ ضد إيران سوف يؤدي بالتأكيد إلى ردٍ من الكونغرس".
مع ذلك، يُعَد قرار إبقاء قواتٍ شمال شرقي سوريا انتصاراً للأكراد السوريين، الذين مثَّلوا حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة في المعركة ضد داعش. وربما يكون الهدف من هذه الخطوة جزئياً هو تعزيز حلفاء الولايات المتحدة الآخرين في المنطقة، لاسيما البريطانيين والفرنسيين، الذين أُفيد بأنَّهم كانوا مترددين في البقاء في سوريا بعد مغادرة القوات الأمريكية.
لكن مسؤولي الدفاع الأوروبيين رفضوا فكرة أنَّهم كانوا يبحثون عن مخرجٍ سريع من سوريا. وأثناء لقاءٍ لشاناهان مع وزير الدفاع البلجيكي ديديه ريندرز في البنتاغون يوم الخميس، نفى الرجلان بشكلٍ قاطع أن يكون الحلفاء الأوروبيون رفضوا طلب الولايات المتحدة منهم البقاء في سوريا.
فقال ريندرز مُتحدِّثاً عن النقاشات التي أُجريت مؤتمر ميونخ للأمن بخصوص الوضع في سوريا: "لا، لم نقل ذلك. كان هناك نقاشٌ مفتوح في ميونخ حول الأمر، لكن دون أن يكون هناك رفض من مختلف الدول مثلما قلتم".
لكنَّه مع ذلك لَفَتَ إلى أنَّه سيُصِرُّ على شرطٍ واحد لمواصلة الوجود الأوروبي، وهو وجود تفويض قانوني للبقاء على الأرض في سوريا. وليس واضحاً من أين قد يصدر هذا التفويض.