نجح الجزائريون الرافضون المشاركون في مظاهرات ضد ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة في كسر جدار الصمت وتحطيم حاجز الخوف.
ولمدة فاقت الثلاثين سنة، لم تخرج مظاهرات بعشرات الآلاف في شوارع كافة المدن والولايات، مثلما حدث فيما بات يُعرف بحراك "الجمعة 22 فبراير"، حيث صدح صوت الشعب من الساحات والطرقات معبراً عن موقفه السياسي من رغبة بوتفليقة في الاستمرار بالحكم.
احتجاجات الجمعة حطمت حاجز الخوف من الانزلاق نحو متاهة عنف لا يُحمد عقباه، وأثبت أنه يمكن تنظيم مسيرات سلمية في الجزائر، وحدث ذلك بمساهمة كبيرة من رجال الشرطة، الذين اعتمدوا مقاربة "التسيير الديمقراطي للاحتجاج".
رصيد التسعينات.. 300 ألف قتيل و30 مليار دولار
ومن ضمن الآلاف من المتظاهرين في أغلب ولايات البلاد، اعتقلت الشرطة الجزائرية 41 شخصاً، بتهمة "الإخلال بالنظام العام وتحطيم الممتلكات"، وفقاً لبيان للمديرية العامة للأمن الوطني، وسجلت أخطر التجاوزات بمدينة أقبو بولاية بجاية شرق البلاد.
Gepostet von المديرية العامة للأمن الوطني am Freitag, 22. Februar 2019
ووفقاً لشهود عيان، حاول بعض الأشخاص اقتحام محل لبيع الساعات الثمينة، بحي سيدي يحيى الراقي بأعالي العاصمة، كما أراد آخرون التأثير على مظاهرة ساحة أول ماي، لكن سرعان ما تم السيطرة على الوضع.
وكانت مسيرات الجمعة 22 فبراير/شباط، على كل لسان خلال الأيام التي سبقت اليوم الموعود، إذ عبر الجزائريون عن تخوفهم من أي انحرافات خطيرة، مستندين إلى تجربة التسعينيات من القرن الماضي، حين كانت المسيرات سلوكاً يومياً تقريباً، انحرف في النهاية إلى أزمة العشرية السوداء التي خلفت أكثر من 200 ألف قتيل وخسائر اقتصادية بـ30 مليار دولار.
هاجس التسعينيات، ظهر يوم المسيرات الكبرى، "رصيداً ثرياً، استغل بذكاء شديد من قبل المتظاهرين وعناصر الشرطة على حد سواء، لينتهي كل شيء على ما يرام "لا إصابات وأجواء ودية"، بحسب كلام المتظاهرين.
فقد كانت تطغى الأجواء الودية بين الشرطة والمتظاهرين، في ساحات العاصمة، حيث دارت أحاديث ونقاشات بين ضباط للشرطة ومواطنين، من قلب المسيرة.
وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع فيديو لمحافظ شرطة ولاية عنابة (شرق البلاد)، وهو يتحاور مع المحتجين في قلب المسيرة التي يعتقد أنها الأكبر على مستوى البلاد.
تراجع تكتيكي
في حدود الساعة الرابعة بعد الزوال ارتفع عدد المشاركين في المسيرة بالعاصمة، ليبلغ الآلاف، وهنا لوحظ إخلاء الشرطة للطوق الأمني الذي لفت به الساحات الكبرى، واكتفت بنشر عناصر مؤطرة لها، لا يرتدون زي مكافحة الشغب.
وأعطيت تعليمات برفع التعزيزات إلى أعالي المدينة، وسد الطرقات المؤدية إلى قصر رئاسة الجمهورية الواقع ببلدية المرادية، ونصب الجدار الأمني الأول في ساحة أديس أبابا أمام مقر المجلس الوطني الاستشاري لحقوق الإنسان، والذي امتد إلى فندق الجزائر الشهير باسم سان جورج.
وعلى بعد أقل من كيلومتر واحد، نصب الجدار الثاني الذي شُكّل من سيارات مدرعة تابعة لمختلف مصالح الشرطة، (الأمن العمومي، قوات الجمهرة، فرقة البحث والتحري)، أمام ثانوية بوعمامة إلى غاية المدخل الرئيسي لقصر الجمهورية.
قصر الرئاسة خط أحمر
ووقف "عربي بوست" على الأجواء أمام القصر الذي لا يزوره بوتفليقة إلا نادراً منذ إصابته بالجلطة الدماغية في أبريل/نيسان 2013، حيث انتشرت الشرطة في المحيط القريب ووضعت الحواجز الحديدية أمامه.
بينما غابت قوات الحرس الجمهوري، كدليل على أن الوضع لا يدعو للقلق.
وفي الحالات غير العادية، يتكفل الحرس الجمهوري (عالي التدريب والتابع لرئاسة الجمهورية، ويتولى قيادته الفريق بن علي بن علي)، بتأمين قصر الرئاسة وكل الممتلكات التابعة له، عبر الانتشار في محيطه بدل الشرطة.
والمرة الوحيدة التي احتك فيها المتظاهرون بالشرطة كانت أمام قصر الشعب وساحة أديس أبابا، بعدما أوقفت تقدمهم لقصر الرئاسة مستخدمة الماء الساخن والقنابل المسيرة للدموع، وأرغمتهم على التراجع.
إصرار على السلمية
وبما أن القانون لا يمنع المسيرات في باقي ولايات البلاد، فلم تجد قوات الأمن صعوبة في التعامل مع المحتجين، واكتفت بالمراقبة والتأطير، وسط إصرار بالغ من قبلهم على تحركهم السلمي.
وكلما حدث تدافع، يصرخ الرافضون لترشح بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، "لا للعنف.. لا للعنف"، و"سلمية.. سلمية".
الزغاريد.. الماء والورد
وفي مشاهد ستظل خالدة في مخيلة الجزائريين، صنعت مسيرات الجمعة صوراً مميزة، حيث عوض النساء الجزائريات مشاركتهن المحتشمة في الميدان بالزغاريد من شرفات المنازل التي مر تحتها المحتجون.
وفي تبادل للأدوار، تكفل مواطنين بنشر قارورات المياه المعدنية على حواف الطرقات، كي يجدها المشاركون في المسيرة ويروون بها عطشهم جراء الصراخ والمشي الطويل.
فيما دوّت شعارات التآخي مع رجال الشرطة، حيث قام محتجون بمعانقة قوات الأمن وإهدائهم وروداً، وترديد العبارة الشهيرة "خاوة خاوة".
وفي ولايات، بادر المعارضون للعهدة الخامسة، بتنظيم الساحات والطرق، فور انتهاء المسيرة، في سلوك أرادوا من خلاله التأكيد على "أن الجزائري لا يمنعه حماسه الشديد وسخونه دمه من التصرف بشكل حضاري"، مثلما قال حسين أحد المشاركين في المسيرة الضخمة بولاية جيجل شرق البلاد.