تأخُّر قرار ترحيل الصحفي الأمريكي الشهير ديفيد كيركباتريك واحتجازه لمدة جاوزت السبع ساعات في مطار القاهرة، لم يكن هدفه إذلاله كما قيل.
فسبب طول فترة احتجاز صحفي النيويورك تايمز الذي ألّف كتاباً ينتقد السيسي، هو الارتباك الذي أصاب الأجهزة الأمنية المصرية بعد أن وصل الرجل إلى المطار، والتداخل في الاختصاصات وتضارب الرؤى بين الأجهزة المصرية الأمنية.
فبعيداً عن رسائل الإذلال المتعمد التي تحدث عنها البعض، يبدو أن البيروقراطية قد تكون أكثر قسوة من القمع.
كيف اتُّخذ قرار ترحيل الصحفي الأمريكي الشهير؟
مصادر أمنية قالت لـ "عربي بوست" إن احتجاز الصحفي الأمريكي لمدة سبع ساعات قبل أن يوضع في الطائرة المتجهة إلى لندن ليغادر مصر نهائياً، لم يكن نتيجة رغبة النظام المصري في ترهيبه أو إذلاله كما تصور البعض، وإنما التأخير أتى نتيجة للارتباك في اتخاذ القرار، وتضارب الرؤى بين الأجهزة السيادية المصرية.
فقد علم "عربي بوست" من قبل مصادر مطلعة في الداخلية المصرية، تفاصيل الساعات السبع التي قضاها الصحفي الأمريكي في مطار القاهرة.
ولا تكشف هذه التفاصيل عن تضارب بين الأجهزة الأمنية في مصر فحسب، بل تقدم لنا صورة واضحة لـ "كيف يعمل كل جهاز على حدة".
الأمن الوطني يتولى المسؤولية
ففور وصول الصحفي الأمريكي ديفيد كيركباتريك إلى مطار القاهرة ظهر اسمه على قوائم الترقب في شاشة ضابط الجوازات، الذي بدوره أخطر الأمن الوطني بحضوره إلى القاهرة.
وتلقّى الإجابة باحتجاز جواز سفره والتحفظ عليه لحين انتقال الضابط المختص إليه، وهو ما تم بالفعل.
اقتيد ديفيد كيركباتريك إلى مكتب الأمن الوطني بالمطار (جهاز الأمن السياسي) وهناك تم سؤاله عن سبب حضوره، وبعض الأسئلة التقليدية، ثم طلب منه الانتظار قليلاً، وقليلاً هذا استمر ما يقرب من سبع ساعات.
خلال تلك المدة كان هناك انقسام حاد بين أجهزة الأمن المصرية.
إنه يريد افتعال مشكلة.. الضابط المسؤول عنه يطالب بالسماح له بالدخول
فقد رأى ضابط الأمن الوطني المسؤول عن متابعة المراسلين الأجانب أن باتريك حضر إلى مصر خصيصاً اليوم لافتعال مشكلة ليس إلا.
فالرجل الذي شغل منصب مدير مكتب جريدة نيويورك تايمز بالقاهرة في الفترة من 2011 إلى 2015، وغادرها بعدها ليؤلف كتاب "في أيدي العسكر"، الذي هاجم فيه الجيش المصري بضراوة، واتهم الفريق عبدالفتاح السيسي بالانقلاب على مرسي وخداعه.
لا يوجد ما يعيده إلى القاهرة، اللهم إلا إذا كان يريد أن نقبض عليه أو نرحّله، حسبما قال الضابط المسؤول عن المراسلين الأجانب.
من أجل أن يبيع كتابه الذي أساء فيه للسيسي
وبذلك يضمن شيئين، الأول أن يُثبت ما يقوله عن النظام المصري من كونه قمعياً وفاشياً، والأهم أن يضمن دعايةً مجانيةً لكتابه، ويُظهر نفسه بمظهر الصحفي البطل.
وبناء على هذا الرأي، رفع الضابط المختص تقريراً إلى قيادته يوصي فيه بعدم منع كيركباتريك من الدخول إلى مصر.
وبالعكس أوصت مذكرة الضابط بحسن معاملته لتفويت الفرصة عليه.
أنا أفهم طريقة تفكيره
انتقلت مذكرة الضابط المختص إلى وكيل جهاز الأمن الوطني، الذي استدعاه وعقد معه اجتماعاً عاجلاً شرَحَ وجه نظره فيه، وكيف أنه يعلم طريقة تفكير كيركباتريك.
وأوضح أنهم إزاء شَرَك خداعي لا يجب الوقوع فيه بهذه السهولة.
لم يُبد الوكيل اعتراضاً كبيراً على كلام الضابط، وفي نهاية الأمر اقتنع بحديثه.
ديفيد كيركباتريك و أحمد جمال زيادة : "ما هي الأسباب التي تجعل #مصر خائفة إلى حد يدفعها لمنع الصحفيين الأجانب من العودة إلى أراضيها، واعتقال صحفيين مصريين؟ على السلطات المصرية الوقف هذا التصعيد، مع الإفراج عن أكثر من 30 صحفياً المحنتجزين". https://t.co/5eDferfamj
— Souhaïl Goulita (@SouhailGoulita) February 20, 2019
كلامك صحيح، ولكن لهذا السبب فإن أمره من صلاحيات الجيش
ثم أجرى وكيل جهاز الأمن الوطني اتصالاً مع قيادته، التي بدورها رأت أن قراراً كالسماح لكيركباتريك بالدخول إلى مصر وإن بدت مسوغاته منطقية إلى حد بعيد، إلا أنه في النهاية هذا الموضوع متعلق بالجيش وليس بالشرطة.
والسبب في نظر هذه القيادة أن كتاب "في أيدي العسكر" الذي ألفه كيركباتريك يوجه هجوماً حاداً للجيش المصري بشكل عام، وإلى شخص الرئيس عبدالفتاح السيسي بشكل خاص، والذي اتهمه فيه بأنه شخص مراوغ ومخادع، فضلاً عن إشارات عدة الى دمويته، وعليه فيجب إطلاع المخابرات الحربية على الأمر.
والنتيجة أن مصيره ضاع بين الأمن الوطني والمخابرات الحربية
في هذه الأثناء كان كيركباتريك ما زال محتجزاً في مطار القاهرة الدولي، ولم يتعرض له أحد بسوء، ولم يُمارَس ضده عنف بدني.
ولكنه كان قيد الاحتجاز، ولم يسمح له بإجراء أي اتصالات أو الحديث مع أحد، إلى حين ورود التعليمات، التي تأخرت كثيراً.
تم إخطار المخابرات الحربية (الجهاز الأمني الأهم في الجيش) بوصول كيركباتريك للاستعلام عن رأيها وتقديرها للموقف، وهل يتم السماح له بالدخول للبلاد أم لا.
وأرفقت صورة ضوئية من تقرير الضابط المختص، مرفقة بأسباب طلبه بالسماح للمراسل الأمريكي بدخول البلاد.
لا نعلم بالضبط مسار التقرير داخل المخابرات الحربية، وهل تم أخذ رأي الرئاسة في ذلك الأمر أم لا.
لكن مصادر "عربي بوست" في الداخلية المصرية تفيد بأن الرد تأخر ما يقرب من ثلاث ساعات، قبل أن يأتي قرار عدم السماح له بالدخول، ووضعه على أول طائرة مغادرة إلى أوروبا أو أمريكا، مع التأكيد على عدم التعرض له بأي شكل من أشكال العنف البدني أو أي إهانة لفظية.
وهو ما حدث بالفعل.
وحدث ما توقعه ضابط الأمن الوطني
نحن منزعجون جداً من احتجاز الحكومة المصرية لمراسلنا، وإبقائه بمعزل عن العالم، وحرمانه من الطعام والماء، فضلاً عن رفض السماح له بالدخول إلى البلاد.
بهذه الكلمات علَّق مايكل سلاكمان، المحرر الدولي لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية على ما حدث.
و نشرت الصحيفة تقريراً عمّا حدث لـ "ديفيد كيركباتريك"، مدير مكتبها السابق بالقاهرة.
وحدث ما توقعه ضابط الأمن الوطني المسؤول عن المراسلين الأجانب.
ترحيل كيركباتريك.. كيف شجَّع #ترامب #مصر على اتخاذ إجراءات صارمة ضد الصحافة؟ https://t.co/jJ0GOw3aHR@ddknyt
— نون بوست (@NoonPost) February 21, 2019
والسفارة الأمريكية قلقة، ولكنها لم تفعل أكثر من القلق
كما علّق صامويل ويربرج المتحدث باسم السفارة الأمريكية بالقاهرة على تصرف الحكومة المصرية.
إذ قال: نحن قلقون بشأن رفض السلطات غير المبرر لدخول صحفي أمريكي من نيويورك تايمز إلى مصر.
وعلم "عربي بوست" أن الإدارة الأمريكية لم تتخذ أي خطوة أبعد من ذلك، إزاء الموقف الذي تعرَّض له صحفي أمريكي، مكتفية بتصريح المتحدث الرسمي للسفارة الأمريكية بالقاهرة.