حذَّر باحثون ومسؤولون دوليون، خلال مؤتمر عُقد أمس الثلاثاء، من أن المنطقة الأكثر تقلباً في العالم توشك أن تنغمس في مزيد من الفوضى بسبب التغير المناخي المستمر؛ إذ يؤدي نقص الغذاء وندرة المياه إلى زيادة أعداد النازحين، وإشعال الحروب، وإتاحة الفرص أمام الجماعات المتطرفة.
وتنبّأ مسؤول في البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة بأن 7 إلى 10 ملايين شخص في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سوف يُجبَرون على مغادرة مساكن أسلافهم أو مساكنهم المؤقتة خلال العقد القادم، بسبب نقص المياه والغذاء، أو بسبب الحروب التي يمكن أن تشتعل نتيجة للصراعات حول هذه الموارد. وتحدَّث آخرون في لجنة تابعة للمؤتمر السنوي لمبادرة أمن الكوكب (Planetary Security Initiative) في العاصمة الهولندية، مستشهدين بالصراعات الصغيرة والكبيرة في المنطقة على مدى الأعوام، بما فيها أزمة الغذاء في الأردن عام 2008، وبؤر توتر مستقبلية أخرى في الشام وشمال إفريقيا، بحسب تقرير صحيفة The Independent البريطانية.
قال جمال صغير، وهو أستاذ في جامعة مكغيل الكندية إن أي مشكلات تتعلق بـ "الأمن الغذائي وإمدادات الوقود يمكن أن تؤدي بسرعة كبيرة إلى حالة اضطراب".
وتعد منطقة الشرق الأوسط الأكثر تضرراً من التغير المناخي عالمياً، ومن المتوقع أن تؤدي موجات من الجفاف والتصحُّر إلى تراجع إنتاج المحاصيل الزراعية وتناقص منسوب مياه الأنهار وتزايد الصراعات على الموارد، وهو ما يعني مزيداً من الأزمات المتوقعة.
وفي دراسة سابقة صادرة عن مركز المناخ والأمن في واشنطن في عام 2013، بعنوان "الربيع العربي والتغير المناخي"، وَجَد الباحثون أن إخفاق بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين والتصدي لموجات الجفاف والتصحر ونقص إمدادات الطاقة دَفَع الجماهير للمشاركة في الاحتجاجات السياسية التي شكَّلت مظاهرات الربيع العربي.
كيف أدَّى التغير المناخي لتفجر الربيع العربي؟
وجد الباحثون أنه في الفترة بين عامي 2006 و2011، شهدت 60%، وفي غضون أسوأ موجة جفاف تعرَّضت لها الأراضى السورية في تاريخها نقصت المحاصيل بشدة، وخسر مربو الماشية في شمال شرقي البلاد أغلب حيواناتهم، وفي المحصلة فقد تضرر قرابة 800 ألف سوري بشدة، بمن فيهم المزارعون وأصحاب رؤوس الماشية الذين هاجروا إلى المدن الكبرى، وشكلوا حزاماً سكانياً حولها، أصبح لاحقاً أهم مناطق الثورة.
وفي ليبيا أدى الجفاف كذلك لاحتقان واسع، كان أحد أسباب اندلاع الاحتجاج ضد العقيد معمر القذافي.
وفي مصر أدى التغير المناخي لموجات من الجفاف، خاصة في الدلتا ووادي النيل، وفُقدت أراض زراعية كثيرة نتيجة لذلك، وأيضاً بسبب النمو السكاني على الأراضي الزراعية، وفي المحصلة تزايدت أسعار الغذاء، مما عجَّل باشتعال الاحتجاجات ضد نظام مبارك.
أمن الكوكب في خطر، والشرق الأوسط أكبر المتضررين
انطلقت مبادرة أمن الكوكب في عام 2015، وهي عبارة عن مؤتمر برعاية الحكومة الهولندية وعدد من المنظمات الدولية، يتناول القضايا المتعلقة بالتغير المناخي والأزمات المرتبطة به. إذ يسعى إلى توسيع نطاق تعريف الأمن إلى ما هو أبعد من السلاح والحدود، كي يشمل أيضاً تأمين الكفاف اليومي.
وقد أشار الباحثون وصناع السياسة بالفعل إلى أن حالات الجفاف المستمرة لعقود، التي ابتُليت بها منطقة الشرق الأوسط تُعزى إلى التغيرات المناخية. وفي مستهلّ الحديث، عرض السفير العراقي خريطةً تتبعت تراجع متوسط هطول الأمطار في بغداد، واستمرار ارتفاع درجات الحرارة خلال العقد الماضي.
أسهمت الأحوال المناخية المتغيرة في الاضطرابات التي شهدتها سوريا والعراق والدول العربية الأخرى التي دخلت في حالة فوضى خلال ثورات الربيع العربي في 2011، وصعود داعش الذي أعقبها. لكن المشكلات لم تنته على الإطلاق، نظراً إلى أن درجات الحرارة الأدفأ تؤدي إلى نقص المياه، مثلما هو الحال على سبيل المثال على طول نهري دجلة والفرات، اللذين يوفران المياه للعراق.
قال نديم فرج الله، وهو أستاذ متخصص في قضايا التغير المناخي بالجامعة الأمريكية في بيروت: "في العراق، يُتوقَّع انخفاض هطول الأمطار أو الثلوج في المنابع. يواجه الشرق الأوسط جميع المشكلات الآن، وكل ما تحتاجه هو شرارة اشتعالها. لدينا بالفعل جميع العوامل التي تساعد على الاشتعال".
وما يُفاقم من تعقيدات الوضع أن منطقة الشرق الأوسط تستورد 65% من الحبوب التي تستهلكها، بل إن هذه النسبة تتزايد، مما يجعل الحكومات والشعوب أكثر تأثراً بتغيرات الأسواق والتغيرات المناخية في المناطق الأخرى. قال يوهان سخار، وهو باحث في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام: "المنطقة تعتمد كلياً من أجل توفير أمنها الغذائي على الإدارة المستدامة للزراعة في مناطق أخرى من العالم".
لا تجد الأمم المتحدة والوكالات الإنمائية إلا قليلاً من الحلول أمام الأزمة التي تلوح في الأفق. فقد أسسوا صندوق تمويل للتوصل إلى حلول من أجل مصر، حيث يعيش أغلبية سكانها البالغ عددهم حوالي 100 مليون نسمة على ضفتي نهر النيل. تحدَّث كيشان خوداي، وهو مسؤول في برنامج إنمائي تابع للأمم المتحدة يركز على قضايا الشرق الأوسط، عن مبادرة لجلب الطاقة الشمسية إلى الصومال، والوصول إلى موارد المياه الجوفية.
وتحدَّث المشاركون عن الحاجة المُلحة لجعل الحكومات والشعوب أكثر إدراكاً لاحتياجهم إلى إدارة المياه والموارد الطبيعية الأخرى. قالت إليزابيث سيلوود، المسؤولة في برنامج الأمم المتحدة للبيئة: "نحتاج إلى الربط بين التغير المناخي بصورة أكثر منهجية وبين تحليلنا حول ما يحدث في المنطقة".
أطلق المسؤولون الدوليون في الأردن وغزة جهوداً للتوصل إلى مصادر مستدامة لمياه الري.
ولكن في النهاية، شكَّك كثيرون في استشعار صناع السياسة أو السكان بالتهديد الوشيك، وموجات الأزمة التي لا تزال أمامنا.
قالت تيسا تيربسترا، المبعوثة الهولندية لقضايا المياه في الشرق الأوسط: "ننظر إلى موقف تفاقم (أزمة) الندرة بسبب التغير المناخي وموقف النازحين باعتباره الوضع الطبيعي الجديد".
وقد بدأت بضع حكومات -بما فيها حكومات الأردن وتونس والمغرب- في معالجة قضايا التغير المناخي. إذ تؤكد توطئة دستور تونس الشهير المُصدَّق عليه في 2014 على "الحفاظ على البيئة سليمةً بما يضمن استدامة مواردنا الطبيعية".
ولكن في العموم، لا تجد الحكومات غضاضة في تجاهل القضية، ولا سيما تلك الدول الغنية في شبه الجزيرة العربية، التي تعتمد على صادراتها من النفط والغاز. قال صغير: "بين الأقوال والأفعال ثمة موضوع رئيسي يحتاج إلى معالجته. فلا أعتقد أن الإرادة السياسية حاضرة هناك".
الحرب على المياه في الشرق الأوسط
مرَّ عقدان فقط من القرن الحادي والعشرين، ونشبت فيهما بالفعل ستة صراعات خلَّفت أكثر من 10 آلافٍ من الضحايا في الشرق الأوسط. وما يزيد من التهديدات التي تواجه هذه المنطقة الحرجة أنَّ عديداً من المحللين يحذرون من احتمالية نشوب مزيدٍ من الصراعات، لكنَّها هذه المرة تتعلق بالمياه. إذ صرَّح هانز فان جينكل، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة: "الحروب على المياه، سواءٌ كانت دوليةً أم أهلية، تهدد بأن تصبح مكوناً رئيسياً لمشهد القرن الحادي والعشرين". وإذا لم يوضع حدٌّ لاحتمالية الصراع التي تلوح في الأفق، فسوف تُجَرُّ الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى حربٍ أخرى في الشرق الأوسط.
تتعاظم ندرة الموارد وتنتشر في المناطق المعرضة لخطر نشوب الصراعات، مثل المنطقة الممتدة بطول نهر النيل والعراق واليمن. لكنَّ بلاداً أخرى مثل الصومال والسودان واجهت مؤخراً مجاعاتٍ أو جفافاً، ارتبط بِقَطْع الطرق والصراع داخل الدولة. غير أنَّ المنطقة التي تواجه احتماليةً أكثر إثارة للقلق لنشوب صراع بين الدول بسبب ندرة الموارد، وندرة المياه تحديداً، قد تكون منطقة حوض نهر الأردن. لا تقتصر المسألة على كون الحوض أحد أكثر الأماكن التي تعاني من نقص المياه على مستوى نصيب الفرد، بل إنَّها تضم أيضاً بلاداً لها تاريخ سابق من الصراعات: سوريا وإسرائيل وفلسطين ولبنان والأردن.
ومنذ الستينيات، وقع عددٌ من الصراعات والنزاعات الأقل شهرة بسبب المياه. إذ يشير معهد الأطلسي، الذي جمع قاعدة بيانات حول الصراعات المتعلقة بالمياه حول العالم، إلى وقوع 92 حادثاً متعلقاً بالمياه في الشرق الأوسط. كانت أغلب هذه الحوادث منسوبة إلى الخلافات الإنمائية، أو الإرهاب، أو حوادث استُخدمت فيها المياه باعتبارها أداةً عسكرية أو هدفاً عسكرياً. غير أنَّ الصراعات حول المياه لا تزال أقل من الصراعات حول الموارد الطبيعية الأخرى مثل النفط، بالرغم من تنبؤ بطرس بطرس غالي، الدبلوماسي المصري والأمين العام السابق للأمم المتحدة، بأنَّ "الحرب القادمة في الشرق الأوسط سوف تُخاض حول المياه، وليس السياسة".
يدحض بعض الباحثين هذه الرواية التي تشير إلى اندلاع حربٍ حول المياه. وتنظر حججهم في العموم إلى اعتبارين: الواردات والحلول البديلة. تفترض إحدى هذه المدارس الفكرية أنَّ واردات السلع المستهلكة للمياه بطبيعتها مثل الغذاء يمكن أن تشكل بديلاً عن السلع المحلية. غير أنَّ هذا الرأي يضع البلاد، ولا سيما هذه البلاد غير الساحلية، تحت رحمة الموردين. وتذكر المدرسة الثانية أنَّ تطور تكنولوجيا تحلية المياه يمكن أن يوفر المياه الضرورية لتلبية الطلب. بالرغم من هذا، تزيد محطات التحلية من ملوحة الموارد المائية الباقية، مما يمكن أن يثير مشكلاتٍ جديدة في النظام البيئي المحلي. الأكثر من هذا أنَّ الاعتماد على قفزاتٍ تكنولوجية غير أكيدة لا يشكل استراتيجية ينبغي للبلاد أن تراهن بمستقبلها عليها.
المنطقة العربية ضحية التغير المناخي لا سببها
رغم أن المنطقة العربية لا تسهم بشكل كبير في التغيرات المناخية، مقارنة بدول غربية وشرقية مثل الصين وأمريكا، لكن العالم العربي هو الأكثر تضرراً من أزمات التغير المناخي، فحسب تعبير البنك الدولي "تقف منطقة الشرق الأوسط في الخطوط الأمامية للمواجهة مع تغير المناخ".
وحسب التقارير العلمية يعد ارتفاع حرارة العالم 1.5 درجة مئوية زيادة على مستوياتها قبل الثورة الصناعية أمراً قائماً بالفعل في نظام الغلاف الجوي للكرة الأرضية، بسبب انبعاث الغازات الدفيئة الماضية، والمتوقع استمرارها وتزايدها؛ مما يعني مزيداً من المعاناة الإنسانية جراء نوبات الجفاف وارتفاع منسوب سطح البحر، لدرجة تهدد سواحل مكتظة بالسكان وزيادة المخاطر على الأمن الغذائي والمائي والمجتمعات الساحلية وموارد الرزق، من الزراعة والصناعة والتمدد العمراني.
ومن دون اتخاذ تدابير وإجراءات لوقف هذا التدهور فسيُواصل الكوكب الاحترار، أما الأحداث المناخية المتطرفة التي تقع حالياً مرة كل مئات الأعوام فقد تصبح هي الواقع المناخي الجديد، مما يؤدي إلى زيادة المخاطر والاضطرابات السياسية والاقتصادية الهائلة.
فبعد أن تجاوز تركيزه في الغلاف الجوي للأرض مؤخراً 400 جزء من المليون، أدى غاز ثاني أكسيد الكربون والانبعاثات الحرارية نتيجة حرق الوقود وإنتاج الطاقة والتطور الصناعي في القرن ونصف الماضيين إلى تغيرات كبيرة في مناخ الأرض، وأدى إلى رفع حرارة الكوكب 1.2 درجة مئوية. ورغم أن انبعاثات الغازات الدفيئة بالمنطقة العربية لا تتجاوز 5% من انبعاثات الغازات في العالم، فإنها المتضرر الأكبر من هذه الظاهرة، وبشرح مبسط فإنه "إذا تجاوز ارتفاع درجة حرارة الكوكب درجتين مئويتين؛ فهذا يعني ارتفاعاً هائلاً في درجات حرارة المنطقة العربية، وسيُصاحبه شُح المياه وانهيار الزراعة، ناهيك عن غرق عدة مدن عربية ساحلية"
وستكون العواقب أيضاً شديدة على التنمية -حسب تقارير اقتصادية للبنك الدولي- مثل انخفاض غلات المحاصيل، وانخفاض الموارد المائية، وتفشي الأمراض، وارتفاع منسوب سطح البحر، مما ينعكس على معدلات الفقر العالمية والتنمية المجتمعية.