"العالم أصبح أكثر تقلباً من الناحية السياسية، وأكثر هشاشة من الناحية الاقتصادية مما كان عليه في عام مضى"، بهذه الكلمات وصفت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية في إصدارها السنوي التوقعات والتغيرات الاقتصادية التي ستطرأ عالمياً، خلال عام 2019، ويبدو أن الهشاشة الاقتصادية هذه قد تؤدي لأزمة اقتصادية كبيرة كتلك التي سبقتها في عام 2008، وربما تكون أعنف بحسب توقعات اقتصاديين، ستنعكس بكل تأكيد على منطقتنا العربية.
بات الاقتصاد العالمي يواجه اليوم تحديات جسيمة متراكمة قد تقود لهذا الانفجار، أهمها الحروب التجارية العالمية، وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وتقلبات أسعار النفط، وتضخم حجم الدين العام عالمياً، وكذلك تراجع البورصات العالمية المستمر، وتراجع معدلات التجارة والتصنيع على الصعيد العالمي، وتعرض بلدان الأسواق الناشئة لضغوط شديدة في الأسواق المالية العالمية.
لكن في ظل هذه التوقعات، التي ربما تكون قاسية ولا نعرف أين ستتوقف، أين موقع الدول العربية من هذا كله، وكيف سيكون أثر هذه الأزمة الكبيرة على اقتصادات هذه الدول، التي تعاني جلها من اختلال في الموازنة العامة وتضخم في الدين العام، وهل تستطيع هذه الدول تجنب الأزمة قبل حدوثها؟ هذا ما سنحاول معرفته والإجابة عنه في هذا التقرير.
لكي نفهم الأزمة.. ما هو واقع الاقتصاد العالمي الآن؟
يستند خبراء اقتصاديون إلى ملامح اقتصادية واضحة، باحتمال حدوث أزمة اقتصادية كبيرة خلال عامي 2019 و2020، ترتكز أولاً على توقعات صندوق النقد الدولي، إذ تراجعت معدلات النمو في العالم العام الحالي مقارنة بالعام الماضي بشكل كبير، سواء بالولايات المتحدة أو بمنطقة اليورو، خاصة في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، التي خفض توقعه لنسبة النمو فيها من 1.9% إلى 1.6%، أو حتى بالدول النامية، أو المتحولة، خاصة الصين وروسيا.
ليس هذا فحسب، فقد ارتفعت مستويات الدين العام والخاص عالمياً خلال العام الأخير إلى أعلى مستوى له في التاريخ، مسجلاً 237 تريليون دولار، كما ارتفعت نسب معدلات "الحمائية" (السياسة الاقتصادية لتقييد التجارة بين الدول، من خلال طرق مثل رفع الرسوم الجمركية)، وزادت التوترات التجارية بسبب عدة مشاكل مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتوترات الداخلية في فرنسا وامتدادها لبعض الدول الأوروبية، وكذلك الخلافات الفرنسية الإيطالية.
يقول د. جواد العناني، الخبير الاقتصادي الأردني، ورئيس مجلس إدارة بورصة عمان، لـ "عربي بوست"، إن هناك مشاكل بالفعل يعاني منها الاقتصاد العالمي منذ الآن، تُدلِّل على أن معدلات النمو الاقتصادي ستتراجع أكثر خلال الفترة المقبلة.
لهذا يتوقع كثير من المراقبين الاقتصاديين ويحذرون، وآخرهم كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي، من أن عام 2020 سيشهد أزمة اقتصادية هبوطية في العالم، وربما تُدخل هذه الأزمة الكبيرة العالمَ فيما يُعرف بدورة الكساد التضخمي، وهي من أصعب الأزمات الاقتصادية التي ترتفع فيها الأسعار وتزداد نسب البطالة ويتراجع حجم الإنفاق الكلي على الاستهلاك والاستثمار، كما يقول العناني.
ويرى الخبير الاقتصادي أن الأمر المقلق بالطبع هو التوترات العسكرية والسياسية بين الدول الكبرى والحرب التجارية وحرب العملات، بين الولايات المتحدة من ناحية، والصين ودول الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى. وهذه التوترات تؤثر على أسعار النفط والبورصات، وإذا استمرَّت فإنها ستشكل تحديات مالية ونقدية وتجارية دولية عميقة.
ما انعكاس كل ذلك على الدول العربية؟
يعتقد ممدوح الولي، الخبير الاقتصادي المصري، أن انعكاسات هذه الأزمة على المنطقة العربية يمكن أن تظهر في حالة استمرار الخلاف التجاري الأمريكي الصيني، وتراجع معدلات التجارة الصينية، مما سيترتّب عليه ضعف الطلب الصيني على النفط الخليجي، وإسهام صادرات النفط الصخري الأمريكي وإفشال خطة منظمة أوبك لخفض إنتاجها النفطي.
ويضيف الولي لـ "عربي بوست"، أن ذلك سيؤدي بالتالي لتراجع سعر النفط العربي، ما سوف ينعكس على الموازنات العربية المصابة أصلاً بالعجز، لتزيد نسب العجز بها. ومع تزايد العجز بالموازنات وبالحسابات الجارية العربية، ستتباطأ وتيرة المشروعات الخليجية، وهو ما سينعكس على الصادرات العربية إلى الخليج، وعلى زيادة معدلات البطالة، وكذلك تراجع تحويلات العاملين العرب بدول الخليج، وهي التحويلات التي تعتمد عليها دول عربية كثيرة مثل مصر والأردن ولبنان والسودان وغيرها.
ويعتقد الولي أن ارتفاع المديونيات الدولية سيؤدي إلى زيادة تكلفة الاقتراض الدولي للدول العربية، سواء من البنوك الدولية، أو في حالة طرح سندات دولية خاصة، مع توقع تراجع التصنيف الائتماني لها بسبب تراجع معدلات النمو وتزايد العجز بالموازنات والموازين الجارية، وتوقع هبوط عملات العديد من الدول العربية كمصر والجزائر وتونس والمغرب.
لكن إلى أي مدى ستتأثر المنطقة العربية بالأزمة المتوقعة؟
بحسب خبراء اقتصاديين ستكون هذه الأزمة أصعبَ من أزمة المالية العالمية عام 2008، ولكن تأثيرها على دول العالم لن يكون متشابهاً، إذ ستختلف نسبة الأضرار بين الدول المصدرة للنفط وبين غيرها من الدول.
وإذا سلَّطنا الضوءَ على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ستكون الدول الأكثر تضرراً هي الدول العربية غير النفطية، وستجد نفسَها عاجزة عن الاقتراض، ومضطرة لرفع أسعار الفوائد، مما سيزيد نسب البطالة والفقر المدقع، الآخذ في الازدياد أصلاً في الوطن العربي.
ويتوقع العناني أن هناك دولاً عربية كثيرة ستكون مرشحة لمزيد من التوترات الداخلية، ولَربما إلى حدوث هزات سياسية كبيرة، ومن هذه الدول تونس والمغرب والسودان ومصر ولبنان والأردن، بالإضافة إلى تعطيل عملية البناء وإعادة الإعمار في كل من سوريا والعراق واليمن -في حال وصلت هذه الدول لمرحلة الهدوء السياسي- وهذا أمر مستبعد الآن.
يقول العناني -الذي حمل عدة حقائب وزارية اقتصادية في الأردن سابقاً- إن دول الخليج والدول المصدرة للنفط بالمنطقة ستعاني أيضاً من ظاهرة الغلاء والتباطؤ الاقتصادي إذا وقعت هذه الأزمة. وذلك لأن تحسين الموازنات العامة، بالدرجة الأولى، يأتي على حساب زيادة الضرائب والرسوم وإلغاء الدعم، ما يسبب ارتفاعاً في الأسعار، وتراجعاً في مداخيل الأفراد والأسر، فيقلّ الإنفاق على الاستهلاك، وتقل فرص العمل، وتتراجع معدلات النمو.
يردف بالقول: وإذا اندلعت توترات في منطقة الخليج، أو تم شنّ حرب ضد إيران، فمن المتوقع أن ترتفع أسعار النفط إلى أكثر من 150 دولاراً للبرميل، وهذا قد يُدخل العالم في دورة كساد كبيرة، مما سيدخل الدول النفطية في الشرق الأوسط بحالة تراجع وتضخم اقتصادي كبيرين.
هل تستطيع الدول العربية تجنب هذه الأزمة؟
في هذه الحالة من عدم اليقين والاضطراب الاقتصادي والارتباك، والتغيرات السريعة التي يشهدها العالم، هل تدرك الدول العربية أنها في مواجهة أزمة خطيرة مالية، واقتصادية، وسياسية توشك أن تنهار باقتصاداتها وتحطيم أي آمال لشعوبها؟
وهل بات من الصعب على الاقتصاد العربي بكافة مكوناته وفاعلِيهِ الكبار التحرك قدماً لتلبية احتياجات الشعوب وتوقعاتهم؟
تشير توقعات النمو الاقتصادي، في ظلِّ الأوضاع العالمية والإقليمية المشهودة، إلى تحسن طفيف في نمو الاقتصادات العربية بمقدار 0.3%، مقارنةً بالعام الماضي، الذي استقرَّ معدل نمو الاقتصاد فيه عند 2% فقط، وهو رقم شديد الانخفاض لا يلبي احتياجات التنمية وزيادات السكان وتوقعاتهم، ويجعل المديونيات العامة المحلية والخارجية في نطاق حرج، ويقترب من الخطر في بعض البلدان العربية.
يقول ممدوح الولي، الذي شغل منصب نقيب الصحفيين المصريين في وقت سابق، إن الدول العربية تفكر بشكل فردي، مما يجعلها طرفاً غير فاعل دولياً يمكنه الاستعداد الجدي للأزمات، وتخفيف حدة آثارها عند وقوعها، فحتى التجمعات العربية مصابة بالعطب.
يضيف: فالتجمع الخليجي لا يقتصر الخلاف به مع قطر، وإنما هناك خلاف بين السعودية والكويت وبين سلطنة عمان والعديد من دول الخليج، بل إن هناك خلافاً مكتوماً بين الإمارات والسعودية. كما أن اتحاد المغرب العربي معطل بسبب الخلافات بين الجزائر والمغرب، وفي ليبيا، تعطل الأحداث هناك أي دور للدولة الغنية بالنفط، وكذلك تونس المشغولة بواقعها المحلّي غير المستقر.
ويعتقد الولي أن حضور القادة العرب للقمة الاقتصادية العربية الأخيرة في بيروت برهَنَ على ضعفها، وبيَّن أن الجوانب الاقتصادية العربية ليست لها الأولوية من اهتمامات تلك الأنظمة، ولذلك لا يتوقع تنفيذ توصيات تلك القمة رغم أنها نسخة مكررة من القمم الاقتصادية التي عُقدت في الكويت عام 2009، وشرم الشيخ عام 2011، وقمة الرياض عام 2013، بحسب رأيه.
إلا أن جواد العناني يرى أن أهم شيء يمكن أن تقوم به الدول العربية الآن هو أن تتصالح مع نفسها، وتوقف أنظمة العقوبات فيما بينها، ولا بد لها من أن تفتح أسواقها مع بعضها البعض، خاصة في مجال التجارة والاستثمار. إن الأنظمة العربية المتنافسة بحاجة ماسّة أكثر من أي وقت مضى لكي تضع السيوف جانباً، وتستبدل بها المحاريث والتعاون فيما بينها.
ويضيف العناني: "لكن في رأيي الواجب الأول هو تصالح هذه الدول مع شعوبها واحترام حقوق الإنسان، والاتجاه نحو تعزيز النزاهة والحكم الرشيد (Good Governance) وتحقيق العدالة وفق المعايير الدولية الواضحة. ولتتمكّن من هذا كله، على الدول العربية وبالأخص الخليجية، أن تُخفف من حدة التوتر مع الجيران سواء تركيا أو إيران".
وحول الخطوات التي يجب أن يتم اتخاذها عربياً لتفادي هذه الأزمة، يقول د. محمود محيي الدين، الاقتصادي الدولي والنائب الأول لرئيس البنك الدولي، إن على الدول العربية اتخاذ نهج جديد يعتمد على محلية التنمية في منافسة بين المدن والمحافظات في جذب الاستثمارات، وتوطين الصناعات والخدمات الأساسية والمتطورة، ورفع كفاءة الأصول المنتجة، من خلال إجراءات المالية العامة ودفع التنافسية. ولا يغني ذلك عن منع نزيف خسائر الكيانات الاقتصادية، وضرورة استخدام الأصول المعطَّلة في زيادة الموارد وتحويلها إلى أصول منتجة.
كما أن هناك ضرورة عاجلة للتصدي لخلل الموازنات العامة، وما يترتب عليه من تراكم المديونية المحلية والدولية، وارتفاع معدلات التضخم والغلاء، ارتباطاً بالاقتراض من البنوك المركزية وتأثيره على الإصدار النقدي.
ويضيف محيي الدين، في مقال نشره تحت عنوان: "أحوال العالم واقتصاد العرب في 2019″، أن المجتمعات العربية تزداد شباباً في هرمها السكاني، وهو أمر إيجابي إذا أُحسن الاستعداد له بزيادة الاستثمار، وليس مجرد الإنفاق في التعليم والرعاية الصحية والبنية الأساسية المُعينة على الاستفادة من الاقتصاد الرقمي.