هناك على بعد مئات الأميال من شاطئ خليج عمان، تخطط السلطنة لمشروع تسعى فيه لتقليل اعتمادها هي الأخرى على النفط، وأيضاً منافسة جارتها الإمارات في صناعة السفن عبر ميناء الدقم الذي تعتبره مسقط مشروعها الاقتصادي الأكبر في الشرق الأوسط.
موقع Middle East Eye كان قريباً من المشروع ورصد ما شاهده مراسله في تقرير، قال فيه إنه قد يرى الناظر المحايد مشهد السهول القاحلة التي تقع على حدود مقر سلطة المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم (سيزاد) مشهداً كئيباً، لكن صالح حمود الحسني يتأمله بمنتهى التفاؤل.
المدير العام للموقع قال لـ Middle East Eye: "مشروع الدقم هو أكبر مشروعٍ اقتصاديٍ في منطقة الشرق الأوسط، ومن بين أكبر المشاريع في العالم".
وبحسب الموقع البريطاني، تمثل المشاريع الاقتصادية الجارية مجتمعةً، في دقم استثماراً بعدة ملياراتٍ من الدولارات. وتهدف الشركات الصينية في نهاية المطاف إلى استثمار ما يصل إلى 10.7 مليار دولار.
وتأمل مدينة الدقم، التي كانت يوماً مدينة صيدٍ هادئةً على الساحل الشرقي بوسط سلطنة عمان، أن تصبح منطقةً لوجيستيةً بارزةً في الشرق الأوسط تربط الخليج بطرق التجارة البحرية الأكثر ازدحاماً في العالم.
تضم منطقة الدقم الاقتصادية، التي تستمد الإلهام من عاصمة التجارة البحرية العالمية سنغافورة، العديد من المشاريع، من بينها ميناءٌ متعدد الأغراض، ومصفاةً تهدف لمعالجة 230 ألف برميل نفطٍ خامٍ يومياً، وأكبر حوضٍ جافٍ في الشرق الأوسط، يتسع لنحو 200 سفينةٍ كل عامٍ.
يقول طلال بن سليمان الرحبي رئيس الهيئة الفنية لمشروع عُمان 2040، مشروع التنمية الوطني: "نأمل أن تصبح مدينة الدقم لاعباً بارزاً في التنمية في عُمان".
من المتوقع أن يبدأ المشروع العمل بطاقته الكاملة بحلول عام 2020 في محاولةٍ لتنشيط الاقتصاد الوطني ومعالجة اعتماد طويل الأمد على قطاع الهيدروكربونيات، الذي كان يُمثل 55% من إجمالي الدخل القومي للبلاد عام 2017.
مبادرة الحزام والطريق الصينية
وتقع مدينة الدقم على بحر العرب، وتبعد 6 ساعاتٍ بالسيارة جنوب العاصمة العُمانية مسقط، وتبعد مسيرة يومٍ كاملٍ لأية ناقلة نفطٍ عن مضيق هرمز، الممر الضيق الذي تمر منه ثلث تجارة النفط البحرية.
يُعتبر المضيق بوابة الخليج العربي، وبتهديد إيران المتكرر بإغلاقه، فإن الميناء العماني هو موقعٍ مثاليٍ ليكون محوراً بديلاً للشحن.
وسيحتاج مشروع الدقم الجديد لجذب انتباه سفن الشحن بعيداً عن ميناء جبل علي الواقع في دولة الإمارات العربية المتحدة. يُعتبر ميناء جبل علي أكبر ميناء مياهٍ عميقةٍ في المنطقة، وهو يضم أكبر ميناءٍ من صنع الإنسان في العالم، ومحطتي حاوياتٍ كبيرتين تقوم فيها السفن بتفريغ حمولاتها قبل إعادة شحنها إلى جميع أنحاء الخليج والهند وإفريقيا.
تأمل الدقم أن تنازع جبل علي على تلك التجارة من خلال توفير منفذٍ رئيسيٍ إلى الممرات البحرية الرئيسية بين البحر الأحمر والخليج، بحسب الموقع البريطاني.
ووفقاً لصالح حمود الحسني فإن الميناء يُمكن أن يوفر للغاز والنفط والمنتجات السائبة الأخرى التي تصل براً من دول الخليج وصولاً بلا عوائق للمحيط الهندي.
وتأمل عُمان أن تكون صناعة السفن قادرةً على التمتع بنفس قدرة الوصول للشرق الأوسط التي يوفرها جبل علي، لكن دون أيٍ من التعقيدات، دون الاضطرار إلى المغامرة في مضيق هرمز وما وراءه.
ويقول الحسني متحدثاً عن مضيق هرمز: "العمل في الدقم سيحميك من الخوض في كل هذه الاضطرابات".
وجاء في تقرير صحيفة Times of Oman أنه من المتوقع أن تضم المنطقة الاقتصادية "أول مصفاة في الشرق الأوسط معدةً لمعالجة الخام القادم من دولٍ أخرى في الشرق الأوسط على أساسٍ تعاقديٍ طويل الأجل".
والمصفاة مشروعٌ مشتركٌ بين شركة تنمية نفط عمان وشركة بترول الكويت العالمية المحدودة، لكن المسؤولين في الدقم لم يستطيعوا أن يؤكدوا لموقع Middle East Eye ما إذا كانت أية دولةٍ أخرى قد أعربت عن نيتها استخدام المنشآت الخاصة بالمصفاة.
البحث عن دور إقليمي هام
ويقول صالح العلوي رئيس عمليات الميناء للموقع إنه على رأس خططها الأخرى المتعددة، تهدف الدقم للظهور كمركزٍ إقليميٍ لإعادة الشحن، تقوم فيه السفن الكبرى القادمة من آسيا بتفريغ شحناتها التي سيُعاد شحنها إلى الخليج وشرق إفريقيا.
ووفقاً لما يقوله المحلل المختص بالعلاقات الصينية الشرق أوسطية محمد ذو الفقار بخمت، فإن الدقم تشكل رابطاً مهماً في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهو برنامجٌ تدعمه الدولة لربط آسيا بإفريقيا وأوروبا، والذي يُشار له باسم طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين، مستحضراً طرق التجارة القديمة التي كانت تربط الشرق بالغرب، كما يقول الموقع البريطاني.
وفي عام 2016 وضع اتحاد وانفانغ عُمان، وهو اتحادٌ من 6 مؤسساتٍ صينيةٍ، خطةً لتأسيس مدينةٍ صناعيةٍ صينيةٍ في الدقم، واستثمار 10 مليارات دولار.
ويقول بخمت: "لكنني لا أرى أن الصين ستحول كل نشاطاتها التجارية الإقليمية إلى الدقم؛ لأن الشريك الاقتصادي الأكبر للصين في المنطقة يظل الإمارات".
وفي العام الماضي استقبل ميناء الدقم 100 سفينةٍ، بما فيها السفن الحربية. تهدف الدقم كذلك لأن تُصبح قاعدةً إقليميةً للسفن البحرية، حيث توقع المملكة المتحدة الآن اتفاقاً لقاعدةٍ بحريةٍ دائمةٍ في الدقم، والتي ستكون أول وجودٍ عسكريٍ دائمٍ للمملكة المتحدة في عمان منذ عام 1971.
وقال العلوي: "استضفنا غواصاتٍ من الهند ومن الولايات المتحدة. حتى أننا استقبلنا حاملة الطائرات النووية الأمريكية USS George Washington".
المعارضة المحلية
ليس الجميع فرحين بالتحول الجاري في الدقم. سعت الحكومة لاستمالة السكان المحليين بإغراءاتٍ مثل مجموعةٍ من 150 فيلا فاخرة، منحتها للذين تأثرت أراضيهم بالمشروع. لكن ذلك لم يكن كافياً لشراء صمت اتحاد الصيادين المحليين الذي يقود الانتقادات الموجهة لإنشاء ميناء جديدٍ في الدقم. وربما تكون المدينة هي مركز الصيادين الأكبر في الشرق الأوسط، والميناء الرئيسي لـ 400 قارب صيدٍ كبيرٍ، ومحطات معالجةٍ، ومرافق تخزينٍ باردةٍ.
يقف الظبيب حمد الجنيبي، رئيس اتحاد الصيادين في الدقم، على الرمال البيضاء الناعمة لشاطئٍ ناصعٍ، ويحتج على ما يجري في بلدته. ويقول: "مجتمع الصيادين في الدقم لا تعجبه تلك السفن الكبيرة؛ لأنهم بالتأكيد سيسرفون في الصيد، كما أننا فقراء جداً لدرجة أننا لا نستطيع أن نستثمر في هذا المشروع".
وفي استجابةٍ لتلك المخاوف قال عمدة مدينة الدقم أحمد بن سليم المحروقي إن الاعتراضات على الميناء الجديد ليست في محلها. وقال للموقع: "المعارضون لمشروع الدقم عليهم أن يتقبلوا التغيير عاجلاً أم آجلاً.. كان البدو يتجولون في الصحراء، لكن لم يعد الأمر كذلك، أصبح عليهم الآن أن يستقروا".
التأخيرات، وسكك حديد مجلس التعاون الخليجي
الجدل الرئيسي الذي يطرحه الناس هو أن هذا المشروع الضخم قد يلعب دوراً هاماً في توفير الوظائف التي تشتد الحاجة إليها في بلدٍ يواجه بطالةً مرتفعةً باستمرارٍ، وأزمة عملٍ حادةً بين الشباب. وعلى امتداد السنوات العشرين التالية، قد يخلق قطاع اللوجستيات نحو 300 ألف وظيفةٍ وفقاً لتصريحات الحكومة.
ومنذ الانخفاض الحاد في سعر النفط العالمي عام 2014 استعارت السلطنة مليارات الدولارات لتغطية عجز واردات الدولة. وفي عام 2019 يُتوقع أن تقترض عُمان 6.2 مليار دولارٍ. وكنتيجةٍ لذلك تضاعف دين السلطنة أكثر من ثلاث مراتٍ ليصل لنحو 50% من الناتج القومي للسلطنة.
ويقول جورج كافيرو الرئيس التنفيذي لشركة Gulf State Analytic، وهي شركةٌ تعمل في مجال استشارات المخاطر الجيوسياسية مقرها واشنطن: "تقع سلطنة عُمان تحت ضغطٍ كبيرٍ لتحقيق التنوع الاقتصادي قبل بدء حقبة ما بعد النفط". ومدينة الدقم تأتي على رأس جهود السلطنة الرامية لتنويع الاقتصاد لما هو أبعد من تصدير النفط والغاز.
غير أن التأخير متوقعٌ، وفقاً للمهندسين العاملين في المشروع. وقد عُلق مشروع السكة الحديدية بين دول مجلس التعاون الخليجي، والتي تربط الدقم بمنطقة الخليج؛ بسبب الانكماش الاقتصادي الإقليمي، والنزاع بين قطر والكتلة التي تقودها السعودية. وقال الرحبي: "ليس هناك موعدٌ نهائيٌ حتى الآن".
حين فرضت السعودية، والإمارات، والبحرين حصاراً اقتصادياً على قطر عام 2017، كان ذلك خبراً سيئاً للجارة عُمان. كافيرو أخبر موقع MEE أن المسؤولين في مسقط غير سعداء بالحصار، ويخافون "تأثيره بعيد المدى على الرؤية والاقتصاد العماني".
يعتمد مشروع الدقم على تكاملٍ اقتصاديٍ أعمق في الخليج، والأزمة بين قطر وجيرانها لا تبشر مشروع الدقم بخيرٍ.
ورغم التحديات، فإن عمدة الدقم متفائلٌ للغاية. ضحك المحروقي وهو يُطل على موقع الإنشاءات، وصوت الرافعات يكسر صمت الصحراء الواسعة، وقال: "قد تُصبح الدقم العاصمة المستقبلية لعُمان".