نشرت صحيفة Independent البريطانية تقريراً حول الطموحات السعودية الكبيرة في تطوير مجال السياحة التي ربما تقوضها عمليات قمع المعارضين في البلاد، فالسعودية الجديدة تريد الانفتاح على العالم الخارجي لعكس صورة جيدة عنها، وتريد السماح للسياح الأجانب باستكشاف الكثير من المناطق التي تم إخفاؤها وإهمالها لعقود طويلة بسبب السياسات المتشددة للمملكة، ولكن هل تنجح في ذلك؟
"سيسمحون للعالم بدخول بلادهم أخيراً"
كثير من الكنوز الطبيعية تتوزع فوق مساحةٍ شاسعةٍ من أرض المملكة العربية السعودية، بالقرب من المدينة المنورة، في منتصف الصحراء، إذ توجد هناك مدينةٌ نبطيةٌ، وحقلٌ من الأعمدة الحجرية الشاهقة، ومحطة قطارٍ عثمانيةٍ وحيدة، والكثير من رسومات الحائط التي نُقشت على الجلاميد عسلية اللون، والصخور الجبلية الحمراء.
إنها مزيجٌ رائعٌ وفريدٌ من نوعه، يجمع الجمال الطبيعي بالأطلال التي يرجع تاريخها إلى آلاف السنوات من الاستيطان البشري، وطرق القوافل لتُجَّار البخور والحُجَّاج. لكن الموقع عانى الأمرَّين ليجذب جمهوراً من خارج المملكة المُدلّلة، إذ لا يزوره -بخلاف المواطنين المحليين- سوى عددٍ قليلٍ من السياح الجريئين، وعلماء الآثار الذين يدرسون التراث الحضاري للمنطقة منذ سنوات. والآن، يقول قادة السعودية إنهم سيسمحون للعالم بدخول بلادهم أخيراً.
وتُعَدُّ المناطق السياحية المُحيطة بمدينة العلا هي حجر الزاوية في الجهود المُخطَّطة لدعوة السياح الأجانب إلى المملكة، بجانب ملايين الحُجاج الدينيين الذين يزورون المناطق المقدَّسة بالسعودية سنوياً. وعلى غرار الكثير من التغييرات التي تحدث في البلاد، تهدف الخطة بشكلٍ رئيسيٍّ إلى تدعيم الاقتصاد والاستفادة من مصادر دخلٍ أُخرى بخلاف النفط.
وتُمثِّل المبادرة "الطموحة"، التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان، تحدِّياً كبيراً، باعتمادها على الحكومة التي تحاول أن تتخلَّى عن حذرها تُجاه الزوار الأجانب، والعالم الخارجي الذي يجب أن يُعيد النظر في تصوراته عن السعودية بوصفها مُجتمعاً مُحافظاً للغاية.
هل تقوض السعودية طموحاتها بنفسها؟
ولكن ذلك التحدِّي أصبح أكثر دقةً مُؤخراً، إذ تسبَّبت حملة الحكومة لقمع المُعارضين والخصوم في تقويض تطلعاتها الشخصية لمزيدٍ من الانفتاح. وأدَّى مقتل الصحفي جمال خاشقجي، على يد عملاء سعوديين بإسطنبول، في أكتوبر/تشرين الأول، إلى موجة انتقاداتٍ دوليةٍ لحملة القمع وولي العهد الذي حُمِّل مسؤولية الأمر بقتله على نطاقٍ واسع. وقالت المملكة إن الأمير محمد لا يعلم شيئاً عن المخطط، رغم أن أكبر مُستشاريه كانوا مُتورِّطين في الجريمة.
وفي أعقاب جريمة القتل، نأت بعض الشركات والمنظمات الأجنبية بنفسها عن مبادرات ولي العهد، بما في ذلك مشاريع الترويج للفنون والسياحة والثقافة التي أحبها آلاف السعوديين.
وقالت كريستين سميث ديوان، الباحثة في معهد دول الخليج العربي بواشنطن: "هناك إمكاناتٌ سياحيةٌ كبيرةٌ في المملكة، والسعوديون تحديداً يتوقون إلى المزيد من المساحات العامة والنمو الثقافي. ولكن جذب العالم يتطلَّب التغلُّب أولاً على العوائق والمخاوف الاجتماعية. وسجن الناشطات النسويات لن يُفيد في ذلك، فضلاً عن قتل صحفي بارز"، في إشارةٍ إلى خاشقجي وناشطات حقوق المرأة المعتقلات منذ قرابة الثمانية أشهرٍ دون مُحاكمة.
ويُواصل المسؤولون السعوديون تنفيذ مبادرات ولي العهد، أملاً في أن تُساعد الفعاليات الثقافية رفيعة المستوى على خفض وتيرة الانتقادات الخارجية. وقدَّمت الحكومة مؤخراً نظام تأشيرات إلكتروني سمح لمئات الزوار الأجانب بحضور أحد سباقات السيارات بالعاصمة الرياض، في ديسمبر/كانون الأول، وأُقيمت حفلاتٌ للموسيقيين الغربيين والعرب خلال أحداث السباق.
مدينة العلا.. محور التطوير السياحي المنشود
وتُعَدُّ خطة تطوير العلا هي محور مبادرة السياحة، إذ يعتقد المسؤولون عن جهود التطوير أن بإمكانهم جذب مزيجٍ من السياح الثقافيين والمسافرين البيئيين من الغرب ودول الخليج، والسعوديين الراغبين في توسيع رؤيتهم للتراث الوطني، بالتعرُّف على تاريخٍ سَبَق الحقبة الإسلامية، تم إخفاؤه لعقودٍ من الزمن على يد قادة البلاد ورجال الدين المحافظين.
وقال أحمد الإمام، وهو مُرشدٌ سياحيٌّ من مدينة العلا، وعاشت أجيالٌ من عائلته في هذه المنطقة الغنية بالثقافة رغم معاناتها من ارتفاع نسبة البطالة: "لطالما علمنا أن لدينا موقعاً تاريخياً أثرياً، لكن لا أحد يعلم بشأننا، ونطمح إلى المزيد من فرص العمل".
وتعمل هيئةٌ ملكيةٌ أنشأها ولي العهد سريعاً على تحضير الموقع لاستقبال الزوار خلال السنوات القليلة المقبلة. ومن المُخطط إنشاء منتجعاتٍ وتدريب السكان المحليين على العمل مع السائحين، في حين تُجري فرقٌ من علماء الآثار والباحثين مسحَها للمواقع التاريخية والخصائص البيئية على مساحة تسعة آلاف ميلٍ مربع (23,309 كيلومتر مربع). ويُقام مهرجانٌ شتوي في الموقع حالياً كافتتاحٍ تجريبي يظهر خلاله موسيقيون وفنانون عالميون.
عمرو المدني هو الرئيس التنفيذي للهيئة الملكية لمحافظة العلا وأحد أكبر المروجين لها، إذ يزورها ذهاباً وإياباً أكثر من مرةٍ شهرياً بصُحبة جيشٍ من المساعدين والمُطوِّرين المحتملين. ويأمل أن يجذب الموقع المواطنين السعوديين والأجانب المقيمين والزوار الإقليميين كمرحلةٍ أولى. وقال إنه يستهدف، في غضون أربع سنوات، أن يكون نصف زُوَّار الموقع ممن يعيشون على مسافةٍ لا تتجاوز الساعات الست بالطائرة.
مدائن صالح النبطية
وأهم معالم الجذب السياحي هي مدائن صالح، المدينة الجنائزية النبطية الشقيقة لمدينة البتراء في الأردن المجاورة، التي تضُمُّ أكثر من 130 مقبرةً ذات أعمدةٍ محفورةٍ على الصخور في واجهاتها. ولكن الكثيرين لا يعلمون أن المنطقة المُحيطة بمدائن صالح تضُمُّ أيضاً آثار مقابرٍ من العصر البرونزي وعاصمة دادان القديمة، أو أدلة على وجود أبعد مواقع الإمبراطورية الرومانية في أقصى الجنوب.
وقال المدني، مُردِّداً شعار الحكومة: "ربما كُنَّا مُتحمِّسين للتراث والطبيعة، لكن الأهم هنا هو تنويع الموارد الاقتصادية للبلاد". وتطرَّق إلى قدرة المنطقة على إنتاج التمر أو الزيوت النباتية الطبيعية. وأضاف أن الحكومة وفَّرت منحاً لأكثر من 160 طالباً لدراسة السياح وصناعة الضيافة، في محاولةٍ لخلق وظائفٍ محلية.
وقال المدني إن الحكومة -التي تفرض حظراً كبيراً على السفر إلى المملكة- لم تنظر في السابق إلى السياحة من حيث أهميتها الاقتصادية، رغم الإمكانات الكبيرة التي تتمتَّع بها العلا وغيرها من المواقع التاريخية حول السعودية. فضلاً عن أن التراث السعودي في الحقبة التي سبقت الإسلام تعرَّض لـ "التهميش" أيضاً، على حد قوله.
تغيير الأفكار بعد تهميش وتدمير الآثار
وعلى مدار عقود، ركَّزت الرواية السعودية التاريخية السائدة فقط على ظهور الإسلام في القرن السابع وتاريخ العائلة الملكية. إذ إن الأيديولوجية السعودية الدينية المُحافِظة تعتبر أي اهتمام للمواقع التي سبقت الحقبة الإسلامية بمثابة عبادةٍ للأصنام وتقديس للأماكن، مما أدَّى إلى تدمير متعمد أو إهمال الكثير من القطع الأثرية والهندسة المعمارية من الحقبة التي سبقت الإسلام والحِقَب الإسلامية الأولى.
وحظيت الحكومة بالثناء على اتِّخاذها تدابيرَ أكبر على مدار العقد المنقضي لحماية تاريخ الحقبة التي سبقت الإسلام، وهو التراث الذي سلَّطت الضوء عليه في معرض "طرق التجارة في الجزيرة العربية" البارز. وقالت ريبيكا فوتي، مديرة قسم حماية الآثار والتراث الثقافي في هيئة العلا: "نحظى بتشجيعٍ كبيرٍ لإيجاد اكتشافاتنا. وأعتقد أن الرغبة في معرفة كل شيءٍ عن حقبةٍ في مكانٍ ما وامتلاك الموارد والدعم الكافي لتنفيذ ذلك بهذا المستوى هو أمرٌ غير مسبوق".
وقالت ليلى نعمي، الزميلة الباحثة في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، إنها حين بدأت العمل في الموقع قبل 16 عاماً "لم يَكُن هناك أحد. وكان الموقع أشبه بالعذراء، وهذا حلمٌ لأي عالم آثار".
وفي ذلك الوقت اكتشفت هي وعددٌ من علماء الآثار أن تلك المنطقة كانت أبعد نقطةٍ في أقصى جنوب الإمبراطورية الرومانية، مما زاد حدود الإمبراطورية إلى قرابة الـ200 ميل (321 كيلومتراً). وبدراسة 150 نقشاً في المنطقة يعود تاريخها إلى القرن الثالث، وجدوا أدلةً على تحوُّل الخطوط النبطية إلى العربية.
ويعلم السعوديون بوجود الموقع لأنه مذكورٌ في القرآن، لكن ليلى تقول: "الجديد بالنسبة لهم هو فكرة كونه جزءاً من تاريخهم وتراثهم الوطني. وسيستغرق الأمر بعضاً من الوقت قبل أن يعتادوا ذلك".