عندما ترتكب الجريمة مرتين.. تفاصيل العمليات القذرة للتلاعب في أعداد قتلى الحرب في اليمن والعراق

عربي بوست
تم النشر: 2019/02/08 الساعة 13:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/03/30 الساعة 18:06 بتوقيت غرينتش
رجل يحمل طفله المولود حديثًا بالقرب من كوخه في مخيم مؤقت للنازحين قرب صنعاء ، اليمن/رويترز

تُعد عملية إحصاء أعداد الجثث في النزاعات عملاً ضرورياً ومربكاً، وربما يرجع ذلك إلى ضعف الإمكانيات أو صعوبة القيام بعمليات الحصر في أجواء الصراع، أو ربما لهوى في نفس الجناة الراغبين في إخفاء الاحصائيات الحقيقية ليغتالوا بذلك ضحاياهم مرتين.

 في كثير من الأحيان تعد عملية الإحصاء قذراً ودنيئاً للغاية، إذ توفّر تلك الأرقام مرجعية أخلاقية. فتخبرنا عن حجم الصراع، وتُقدّم دليلاً لمختلف أنواع جماعات حقوق الإنسان العاملة في إطار دولي وتساعد في وضع سياسة للمساعدات الطارئة.

تصبح عملية إحصاء أعداد ضحايا الصراعات خسيسة عندما تصبح العملية سياسية وعسكرية لغرضٍ ما، وهذا يحدث عندما تكون مرهونة بأجندات متنافسة.

إحصائيات الأمم المتحدة: مقتل 66 ألف يمني في مارس 2018

صحيفة The Guardian البريطانية تشير في تقرير لها إلى أن الإحصاءات الرسمية للأمم المتحدة تفيد بأنَّ إجمالي عدد الوفيات في اليمن في شهر مارس/آذار 2018 وصل إلى 6592 قتيلاً و 10470 مصاباً. في الوقت نفسه، تقول منظمات دولية إن عدد الوفيات يتراوح بين 56 ألفاً و80 ألف حالة وفاة. ويتهم كل طرف الآخر بتخفيض الأرقام  أو تضخيمها ليتلاءم مع أجندته الخاصة.

تتمثَّل المشكلة -كما يبين الصراع الحالي في اليمن وحرب العراق في السابق- في أنَّ عملية حساب تكلفة الحرب لا يُمكن قياسها وفقاً لعلم دقيق مُحدّد، لاسيما عندما يتعلق الأمر بعملية إحصاء مشحونة في كثير من الأحيان لرقم قد يشمل كلاً من ضحايا العنف المباشر وأولئك الذين ماتوا من جراء الآثار الثانوية للنزاع، مثل محدودية سبل الحصول على الرعاية الصحية.

ومن العراق إلى دارفور وجمهورية الكونغو الديمقراطية واليمن حالياً، أصبح حِساب عدد الوفيات في الصراعات ساحة تنافس مؤكَّدة ومعركة واضحة.

امرأة تحمل طفلها وهي تقف خارج أكواخها في مخيم مؤقت للنازحين قرب صنعاء ، اليمن/ رويترز
امرأة تحمل طفلها وهي تقف خارج أكواخها في مخيم مؤقت للنازحين قرب صنعاء ، اليمن/ رويترز

تجسَّدت هذه القضية مرة أخرى هذا الأسبوع مع التدخُّل الأخرق أحادي الجانب للنائب غراهام جونز من حزب العمال البريطاني، والذي يرأس لجان مجلس العموم حول ضوابط تصدير الأسلحة. إذ أبرز جونز دون قصد صعوبة تقدير عدد الوفيات في أي صراع – وكان المقصود في هذه الحالة القتلى المدنيون جراء الغارات الجوية للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.

والبعض يستخدم تبريرات واضحة تجعل السعودية تفلت من العقاب

أظهر جونز سريعاً أجندته الخاصة من خلال السعي إلى تصوير إيران، التي تدعم الحوثيين، باعتبارها المعتدي الرئيسي، متهماً منظمات غير حكومية دولية بممارسة الخداع والتضليل في تقاريرها.

وقال جونز: "من المُشين أن ترفض منظمات غير حكومية ومنظمات يسارية التوجّه بلهاء دعم موقف الأمم المتحدة المُجمع عليه"، مضيفاً: "نحن بحاجة ماسة إلى إحلال السلام في اليمن، وليس حلول خيالية تُطرح من داخل مقرات أوروبية آمنة".  

وبينما أشار جونز بنفسٍ راضية إلى انَّه يشعر باطمئنان كبير تجاه الإحصاءات المُقدّمة من "الجنرالات ووزارة الدفاع" التي وثَّقت أعداد ضحايا أقل، كان البنتاغون مهتماً بما يكفي حيال هذه القضية، حيث أطلق عملية رئيسية تهدف إلى فهم سبب كون حساباته لأعداد الوفيات المدنيين أقل كثيراً من حسابات جماعات المراقبة التي تحظى بإجماع.       

لكن إذا كانت تعليقات جونز تبدو أحادية الجانب بفجاجة -وتمنح التحالف الذي تقوده السعودية إفلات واضح من العقاب عن دورها في خسائر الحرب البشرية- فإنّها، على الأقل، تبرز مشكلة أوسع في اليمن وهي: التباين الهائل في تقديرات أعداد ضحايا الحرب.

تجمع المتفرجون حول سيارة أحرقت بسبب انفجار في اليمن/ رويترز
تجمع المتفرجون حول سيارة أحرقت بسبب انفجار في اليمن/ رويترز

تراوحت تلك التقديرات في أواخر العام الماضي بين حوالي 10 آلاف قتيل إلى ستة أضعاف ذلك الرقم تقريباً. وفي حين يعتقد قليلون فقط وجود تقديرات أقل، زعمت منظمة "أنقذوا الأطفال" غير الحكومية البريطانية أنَّ 85 ألف طفل دون سن الخامسة ربما قد ماتوا جوعاً على مدار ثلاث سنوات من الصراع.   

مَن المُخطئ إذن في تقدير أعداد ضحايا الحروب؟

بالنسبة لأي شخص درس المعدلات الخاصة بسوء التغذية والوفيات في اليمن، تتّضح حقيقة أنَّ الأرقام المُقدَّمة للاستهلاك العام -مثل العراق- تتضمن نطاقاً شاسعاً للتقديرات.

وإذا كان جونز محقّاً في شيء، سيكون حقيقة أنَّ بعض المنظمات غير الحكومية كانت مسؤولة على مدى التاريخ دون شك عن تضخيم البؤس. وكان هذا بسبب سعيهم في بعض الأحيان إلى تهويل الأزمة وعرضها بصورة مأساوية بهدف تسليط الضوء على تدخلاتهم الخاصة.

لا تكمن المشكلة الحقيقية في مجرد سوء النية، لكن في ندرة الأدوات المُستخدمة لإحصاء وتوثيق عدد الوفيات، من بينها الافتقار إلى أسس المقارنة التي قادت في الماضي إلى تخمينات لا يمكن وصفها، في حالة واحدة على الأقل، بتعبير أفضل من "فوضى إحصائية".

أدَّى عدم وجود بيانات تعداد سكانية وصحية دقيقة ومتواصلة في عدد كبير من النزاعات الأخيرة إلى صعوبة إجراء تقييم فعَّال للزيادات الحقيقية في عدد الوفيات.

هذا جعل وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية يعتمدون على أنظمة ذات هامش خطأ أكبر  واستخدام منهجيات قابلة لاحتمالية الخطأ والتحيز والتلاعب. وخير مثال على ذلك هو استخدام مسوحات أسرية عشوائية مُصمَّمة لتحديد عدد الوفيات في الصراع ناجمة عن أسباب ثانوية.

إنَّ بعض القضايا واضحة على نحوٍ مؤلم: المواقع التي لا يُمكن زيارتها بسبب المخاوف الأمنية تترك ثغرات في البيانات أو، كما هو الحال في اليمن، تتطلب مؤسسات متحالفة مع أحد الأطراف المُتحاربة لملء الفجوات. هذا يترك مجالاً لدس تحريف مُتعمَّد للبيانات.

سيارة تحترق بسبب انفجار في مدينة تعز الجنوبية الغربية التي مزقتها الحرب في اليمن/ رويترز
سيارة تحترق بسبب انفجار في مدينة تعز الجنوبية الغربية التي مزقتها الحرب في اليمن/ رويترز

يُمكن أن تؤدي الاعتبارات السياسية، التي تحكم المؤسسات العاملة في الميدان -من بينها وكالات الأمم المتحدة-  إلى موازنات ومفاضلات غير مريحة، على سبيل المثال بشأن إمكانية الوصول إلى المواقع والبيانات.  

عادة ما تكون بيانات الوفيات عرضة لسوء التفسير والتلاعب بصورة كبيرة

وربما أصعب ما في كل هذا هو حدوث تحيزات في أخذ عينات غير مقصودة. كانت هذه قضية خلافية في تقديرات دراسة أجرتها مجلة "The Lancet" الطبية البريطانية لأعداد الوفيات التي تتجاوز معدلات الوفاة الطبيعية في العراق.  أُتهمت المجلة بالفشل في تفسير "التحيز في الشارع الرئيسي"، حيث اعتمدت بشدة على المواقع التي شهدت -كما قال منتقدون- مزيداً من أحداث العنف. وقد نفى معدو الدراسة هذا الأمر.   

لا يُعتبر أي شيء من هذا مثيراً بالنسبة لأولئك، الذين يعملون في مجال دراسة تقديرات الوفيات والذين حذروا منذ فترة طويلة من قابلية تعرضهم لسوء التفسير والتلاعب.

كان الباحثان فرانشيسكو تشيتشي وليس روبرتس، اللذان درسا تلك القضية،  قد حذَّرا منذ عام 2005 من العديد من هذه المشاكل في ورقة بحثية لـHumanitarian Practice Network.

حذَّر الباحثان، في كتاباتها عن حالات الطوارئ الإنسانية سواء لأسباب طبيعية أو نتيجة أحداث من صنع الأنسان- مثل الصراعات، قائلين: "إنَّ بيانات الوفيات عرضة لسوء التفسير والتلاعب بصورة كبيرة". وأضافا أنَّ "كثيرين سيجادلون أنَّ السنوات الأخيرة قد شهدت استخدام متزايد للإغاثة كأداة لممارسة ضغط سياسي دولي أو تحسين صورة قوى احتلال بين السكان المحليين".

ومن المفارقات أنَّ تدخُّل النائب غراهام جونز هو تذكير عاجل ومتأخر بأنَّ عملية إحصاء أعداد الجثث بحاجة إلى أن تكون احترافية ومحايدة وأنَّ جميع الجهات الفاعلة -المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة والنواب النافذون- يجب أن تتحلَّى بالشفافية، ليس فيما يتعلق بما هو معروف عن عدد القتلى في الصراعات فحسب، بل أيضاً حول حدود معرفتهم وأجه القصور بها.

أما بديل هذا الأمر، كما يجادل تشيتشي وروبرتس، فسيكون آفاقاً قاتمة، سواء كانت المشكلة في تهوين تداعيات الصراع أو تضخيمها.

وقالا: "يمكن حساب تداعيات العلم السيئ على الأرواح البشرية عندما تُقرّر الوكالات أو الجهات المانحة، استناداً إلى نتائج غير صحيحة، تقليص الأنشطة التي تنقذ الأرواح أو تخصيصها في غير محلها على نحوٍ غير سليم أو إلغاءها تماماً".

 

 

 

 

تحميل المزيد