لَطالما كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا قابلة للتأزُّم، لكن في منتصف يناير/كانون الثاني، صبَّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب الزيت على النار، عندما كتب على تويتر، وتعهَّد بأن بلاده "ستدمر تركيا اقتصادياً" إذا هاجمت الأكراد السوريين، بعد انسحاب الولايات المتحدة من شمالي سوريا.
أدَّى تهديد ترامب إلى ردود قاسية، ولكن محسوبة من جهة أنقرة. فقد أعرب الرئيس رجب طيب أردوغان عن حزنه من تعليق ترامب. في اليوم التالي تبدَّلت مشاعره إلى التأكيد على قوة العلاقة بين البلدين، بعد مكالمة هاتفية بين الزعيمين. هذا التذبذب في العلاقة بين البلدين لم يكن جديداً، فهو ينمّ عن علاقة متقلبة ومتعددة الطبقات بين البلدين.
قد يُخيب أحد البلدين آمال الآخر في كثير من الأحيان، لكن كلاهما يقدر الآخر ويحتاجه إليه لتحقيق أهدافه الخاصة في الداخل وفي الشرق الأوسط الأوسع.
واشنطن لن تتمكن من منع الهجوم.. لكن بإمكانها إلحاق الضرر بالأتراك
في قلب علاقة الشد والجذب بين الولايات المتحدة وتركيا، هناك خطط متضاربة طويلة الأمد لإحلال الاستقرار في سوريا ومكافحة التشدد في البلاد، وبينما يصبح انسحاب واشنطن من سوريا مسألة تتعلق بالتوقيت بشكل متزايد، وليس بإمكانية حدوث هذا الانسحاب من عدمه، ضغط البيت الأبيض لإنشاء منطقة آمنة لحليفه الرئيسي على الأرض، الأكراد السوريين.
لكن على المستوى الأوسع، تريد الولايات المتحدة أن يتحمل حلفاؤها الإقليميون المزيد من العبء في تحقيق الاستقرار في مناطق الصراع في الشرق الأوسط، وتركيا حليف لا بد منه في شمالي سوريا -خاصة عندما تكون روسيا (المنافس الرئيسي للولايات المتحدة)، وإيران (العدو الصريح للولايات المتحدة) هي القوى الخارجية الأخرى الكامنة في الجوار.
بالتأكيد، تتمثل العقبة القائمة منذ زمن طويل بين تركيا والولايات المتحدة في سوريا، في اختيار واشنطن لشركائها المحليين، وحدات حماية الشعب الكردية التي تقول تركيا إنها هي نفسها حزب العمال الكردستاني، داخل قوات سوريا الديمقراطية الأكبر.
في الواقع، طوال الحرب السورية، لم تُخفِ أنقرة رغبتها في سحق وجود وحدات حماية الشعب على حدودها الجنوبية، وهو أمر لن تتمكن الولايات المتحدة من منعه عسكرياً بعد انسحابها. ومع ذلك لا يزال بإمكان الولايات المتحدة إلحاق ضرر اقتصادي جسيم بتركيا إذا أرادت ذلك. والسؤال هنا هو: ما مقدار هذا الضرر؟ هذا التقرير المترجم عن مركز Stratfor الاستراتيجي والأمني الأمريكي يجيب عن ذلك.
الاقتصاد أولاً.. دروس مستفادة من تراجع الليرة التركية
يقول المعهد الأمريكي، تحظى الولايات المتحدة بوضع يمكنها من إلحاق الضرر باقتصاد تركيا جزئياً، بسبب هشاشتها الاقتصادية. فالشركات التركية مُثقلَة بكمية كبيرة من الديون، يبلغ مجموعها حوالي 200 مليار دولار، يجب أن تدفعها عام 2019. والأكثر من ذلك، فإن معظم هذه الديون مقوَّمة بالدولار واليورو، مما يعني أن الشركات ستكافح من أجل سدادها إذا بقيت الليرة ضعيفة.
لكن الدين ليس هو الشبح الوحيد الذي يطارد تركيا: فالبلاد تعاني أيضاً من ارتفاع التضخم، وانخفاض الاستهلاك، ونقص ثقة المستثمرين، بحسب المعهد الأمريكي.
كانت هذه العوامل هي التي وصلت إلى ذروتها في الصيف الماضي، خلال الأزمة الدبلوماسية الأخيرة بين الولايات المتحدة وتركيا، التي انتقد فيها ترامب الحكومة التركية، وفرض عليها تعريفات جمركية مرتفعة وعقوبات، في إثر احتجازها للقس الأمريكي أندرو برونسون، مما أدى إلى الانخفاض السريع في الليرة.
في النهاية، أظهرت تلك الحلقة من الصراع أن السلاح الاقتصادي الناجع للولايات المتحدة ضد تركيا هو خلق إحساس عام بضعف اقتصاد تركيا. قد تكون هذه الأداة غير مباشرة، لكن ترامب أثبت أن الخطاب اللاذع وفرض عقوبات محدودة يمكن أن يؤدي إلى انخفاض قيمة الليرة، مما يؤدي إلى الإضرار بسرعة بثقة المستثمرين وخلق حالة من الذعر لدى المستهلك تفيد بأن العملة سوف تتعثر مرة أخرى، مما يضاعف من تباطؤ الاستهلاك الحالي.
اهتزت الليرة التركية.. لكن أنقرة حققت بالفعل بعض التقدم
في الواقع، عندما انخفضت الليرة في الصيف الماضي، بدأ الأتراك يفقدون الثقة في الاقتصاد، مما جعلهم ينفقون أقل ويحولون ليراتهم إلى دولارات أو عملات أخرى -رغم النداءات الرسمية المعاكسة لذلك- مما أدى إلى انخفاض الليرة إلى أبعد من ذلك.
وتسببت الأضرار التي لحقت بالليرة في التأثير على جهود تركيا لتعزيز قطاعها المالي في وقت حرج للاقتصاد. إلى جانب ذلك، خفضت مؤسسات التصنيف الدولية تصنيف بعض بنوك تركيا الرئيسية بعد أزمة صيف 2018، حيث خفضت وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية وحدها توقعاتها لثمانية عشر بنكاً.
وهناك عدد قليل من البنوك التركية التي لها فروع في الولايات المتحدة، لكن معظم المقرضين في البلاد يسهلون المعاملات بالدولار، الأمر الذي من شأنه أن يعرضهم لمخاطر محتملة في الحالة غير المرجحة التي تتخذ فيها الولايات المتحدة خطوات لمعاقبتهم.
علاوة على ذلك، فإن أنقرة مصممة على حماية القطاع المالي، الذي يساهم بشكل كبير في الاقتصاد، وله قيمة تصل إلى 87% من الناتج المحلي الإجمالي. في إطار جهودها لحماية القطاع والحد من تعرض البلاد للانخفاض السريع في قيمة الليرة مقابل الدولار الأمريكي، حثَّ أردوغان الشركات مراراً على زيادة الصفقات غير الدولارية في تركيا. وحققت تركيا بالفعل بعض التقدم لتحقيق هذه الغاية، إذ أسست لمقايضات للعملة مع بلدان مثل إيران خلال العام الماضي.
ما هي نقاط ضعف تركيا؟
لكن واشنطن تمتلك أسلحة اقتصادية أخرى يمكن أن تستعملها ضد أنقرة، وإن كان ذلك قد يؤدي إلى تداعيات سلبية على الولايات المتحدة أيضاً. وتشمل هذه الأدوات إجراءات اقتصادية (بما في ذلك التعريفات التجارية الأكثر تأثيراً في العقوبات) وتدابير استراتيجية (بما في ذلك الضغط على تركيا بسبب علاقاتها مع دول مثل روسيا وفنزويلا وإيران والصين).
تعد الولايات المتحدة رابع أكبر وجهة للواردات التركية، وخامس أكبر وجهة للصادرات. ومع ذلك، فإن تركيا ليست ضمن أعلى 20 دولة من حيث شركاء الاستيراد أو التصدير للولايات المتحدة، مما يسلط الضوء على مدى عدم تكافؤ العلاقات الاقتصادية.
توفر شركات البناء التركية مصدراً رئيسياً للدخل بالنسبة لتركيا، لكن قلة منها تنشط في الولايات المتحدة، وهذا يعني أن واشنطن لا تستطيع استخدامها كأداة ضد أنقرة، لكن القصة مختلفة بالنسبة لشركات الطيران. يمكن للولايات المتحدة أن تكلف شركة الخطوط الجوية التركية خسائر بقيمة 10.6% من إيراداتها السنوية، إذا منعت الناقل الرئيسي لتركيا من السفر إلى وجهات الولايات المتحدة.
سلاح التعريفات الجمركية والزراعة
من حيث العوائق التجارية، أثبتت الولايات المتحدة قدرتها واستعدادها لفرض قيود ضد تركيا، إذ ضاعفت التعريفات الجمركية على الصلب والألومنيوم على أنقرة؛ رداً على استمرار احتجاز القس برونسون في تركيا. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تلحق ضرراً بتركيا من الناحية الاقتصادية من خلال التعريفات الجمركية (وألغت تلك التعريفات بالفعل بعد إطلاق سراح برونسون)، فعدم اليقين يضر بقيمة الليرة التركية.
بدلاً من الصلب أو الألومنيوم، تعد الزراعة بمثابة المصلحة التجارية التي تحترس بشأنها تركيا، فرغم أنها لا تمثل سوى 6% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، فإنها تظل مهمة من الناحية الاستراتيجية، لأنها توظف 20% من مواطنيها.
أكثر من ذلك، فإن العديد من المناطق الزراعية الرئيسية تمثل أيضاً المناطق الرئيسية الداعمة لحزب العدالة والتنمية الحاكم. أما صناعة التبغ كثيفة العمالة فتثير قلق تركيا بشكل خاص، حيث تمثل 8% من واردات التبغ في الولايات المتحدة.
على الجانب الآخر هناك القطن. فعلى الرغم من أن تركيا تعد منتجاً رئيسياً له، فهي تستورد 25% من احتياجاتها من الولايات المتحدة. في ضوء هذا الاعتماد قد يُلحق ترامب الضرر بتركيا من خلال وقف الشحنات، خاصة أنه أظهر من قبل استعداده لإلحاق الضرر بالقطاع الزراعي الأمريكي؛ سعياً وراء أهداف أخرى.
وبالفعل، فإن تعطل مصدر رئيسي لواردات القطن في تركيا من شأنه أن يعرقل قدرة البلاد على إنتاج المنسوجات المصنعة، أحد أكبر صادرات أنقرة، ليس فقط إلى أوروبا (سوق التصدير الرئيسي)، بل أيضاً إلى الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا. وبناءً على ذلك، يمكن أن تكون الزراعة مجالاً لفرض العقوبات والتأثير، إذا تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا إلى الدرجة التي ستدرس فيها واشنطن جميع الأدوات لتغيير "سلوك أنقرة".
المعركة السياسية
ثم هناك بعد ذلك البعد السياسي، تقترب تركيا من الحدود المفروضة للعقوبات الأمريكية ضد إيران، كما أنها تخاطر بانتهاك العقوبات المستقبلية المتعلقة بروسيا أو فنزويلا، بسبب عمق علاقاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع تلك الدول.
ومع ذلك، فإن أي ضغط من الولايات المتحدة على هذه الجبهة قد يأتي بنتائج عكسية، لأن هذه الخطوة يمكن ببساطة أن تقنع أنقرة بتغيير توجهها بعيداً عن الغرب لصالح الصين، وخاصة روسيا.
كما لا تريد الولايات المتحدة من تركيا إثارة قضايا في علاقات واشنطن الأخرى في الشرق الأوسط، مثل علاقاتها الوثيقة مع المملكة العربية السعودية، التي لا تزال نقطة خلاف لأن تركيا تحظى بنفوذ على الرياض، بعد مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول.
لكن هل تستطيع أمريكا إشعال النار بنفسها؟!
في الوقت نفسه، تدرك الولايات المتحدة أهمية اقتصاد تركيا في المنطقة، والأسواق الناشئة، وأوروبا وغيرها، مما يعني أنها لا تهتم كثيراً بإثارة حريق اقتصادي يطالها ويطال أيضاً حلفاء أمريكيين آخرين. علاوة على ذلك، تعد تركيا مشترياً رئيسيا لأسلحة الولايات المتحدة، حيث تحصل على 28% من أسلحتها الأجنبية من الولايات المتحدة.
إن التهديد بفرض عقوبات سيكون حاضراً في محادثات واشنطن وأنقرة حول شمالي سوريا، على الرغم من أن الولايات المتحدة ستدرك تماماً عواقب التصرف بقوة ضد حليفها القديم.
وبعيداً عن النقاش الحالي حول سوريا، تتعاون الولايات المتحدة وتركيا في عدد من القضايا، بما في ذلك التنسيق العسكري والاستخباراتي والأمني. لكن في الوقت نفسه، سيضمن اختلاف وجهات النظر حول بعض القضايا الأكثر أهمية في الشرق الأوسط أن تكون علاقتهما دائماً متقلبة.
إذا كان الأمر كذلك، فإن قطع العلاقات بالكامل ليس أمراً محتملاً أبداً، فكلتا الدولتين تحتاجان إلى بعضهما أكثر من اللازم.