نشرت صحيفة The Guardian البريطانية تقريراً عن صالونات رسم الوشم المخفية في الأحياء الفقيرة بالعاصمة الإيرانية طهران، إذ تعاقب السلطات هناك "الفنانين" الذين يقومون بالرسم على الجسد، وتجرم أيضاً وتنبذ الأشخاص الذين يضعونه على أجسادهم، فكيف يخاطر كثير من الشباب الإيراني بأنفسهم في سبيل تحقيق شغفهم الكبير بالوشم؟
"المقاومة الصامتة"
يوجد صالون الوشم، الذي يمتلكه محمد، مخفياً عن الأنظار في غرفةٍ خلفية خلف متجر ملابس في الجزء الجنوبي الأفقر من طهران. تُزيِّن صور آل باتشينو وتشي جيفارا وبرج إيفل جدران الصالون. يطلب زبائن محمد في أغلب الأحيان تصميمات وشم تقليدية –مثل وردة أو حيوان مفترس- لكن تصميمات الوشم القبلي على الطراز الماوري متداولةٌ أيضاً. قال محمد: "نقش الوشم هو شغفي. ببساطة أنا أخاطر لأنَّه جميل للغاية".
هو بالتأكيد يخاطر، إذ تلقي السلطات القبض بانتظام على فناني نقش الوشم في إيران ويُحكم عليهم بالغرامة أو الجلد أو حتى بالسجن. وفي حين لا يوجد قانونٌ مُحدَّد يحظر الوشم، بالإضافة إلى عدم وجود نص ديني يُحرِّمه بصرامة في الفقه الشيعي، فإنَّ السلطات الإيرانية ترفضه بشدة باعتباره ظاهرةً غربية تضر بالقيم الإيرانية.
وثمة لافتاتٌ في بعض الأماكن العامة، مثل حمامات السباحة، تُحذِّر من أنَّ الأشخاص الموشومين غير مُرحَب بهم. وعندما يُلقَى القبض على مجرمين، تنشر الصحف دائماً صوراً للوشوم المنقوشة على أجسادهم لنقل رسالة مفادها أنَّ الوشم والجريمة متلازمان. وأُجبر لاعبو كرة القدم، الذين لديهم وشوم على أذرعهم، على ارتداء أكمام طويلة.
كل ممنوع مرغوب
ومع ذلك، يحظى ذلك الشكل من فن الجسد (الوشم) بشعبيةٍ كبيرة بين الشباب في طهران. يُمكن رؤية تصميمات الوشم بصورة واضحة على أجساد كثير من مرتادي المقاهي العصرية الرائجة في وسط المدينة.
وستجد صالونات نقش الوشم مخفية عن الأنظار مثل صالون محمد. يقع بعضها في غرف خلفية وراء المتاجر أو في صالونات التجميل التي تذهب إليها النساء لرسم الوشم التجميلي الدائم مثل محدد العينيين -وهو الشكل الوحيد للوشم المسموح به من جانب السلطات. يستقبل آخرون زبائنهم في المنزل. وغالباً ما يجد فنانو رسم الوشم صعوبةً في العثور على أدواتٍ جيدة.
بدأ محمد، البالغ من العمر 27 عاماً، مجال نقش الوشوم قبل عشر سنوات بآلة كانت تستخدمها والدته لرسم الوشم التجميلي الدائم. رأى محمد مدى انتشار الشغف بالوشم بين الشباب الإيراني الحضري منذ حوالي سبع سنوات. قال محمد: "كان الإنترنت عاملاً مهماً في ذلك. إذ رأى الشباب الوشم على مواقع التواصل الاجتماعي وقرروا أنَّهم يريدون فعل ذلك أيضاً".
وأضاف: "يقول زبائني إنَّ الوشم يجعلهم يشعرون بأنفسهم أكثر. يشعرون أنَّهم أجمل وأقوى. يشعر الرجل بمزيد من القوة عندما يرسم وشم تنين على ظهره".
خيار عصري للشباب
أجرى رضا أرجمند، المتخصص في علم الاجتماع بجامعة لوند السويدية، بحثاً مكثفاً مستفيضاً في ثقافة الوشم الجديدة في إيران وجمع أكثر من 5 آلاف صورة. ومن المقرر نشر كتابه هذا العام، والذي يحمل عنوان "The Subversive Skin: Tattoo in Post-Revolutionary Iran".
وقال أرجمند: "إنَّ ممارسة نقش الوشم ليست جديدة في إيران، لكنَّها عادةً ما كانت شيئاً يقتصر على الطبقات الاجتماعية الأدنى فقط -مثل الرجال في السجن والنساء اللواتي يمارسن البغاء. لكن الوضع تغيَّر ليصبح الوشم يُمثِّل اتجاهاً جديداً للشباب العصري. وأصبح من الرائع أن تحصل على واحد. لقد أصبح شيئاً رائجاً وعلامة مميزة تُعبِّر عنك. وبين الصور التي جمعتها، كانت ثمة صور لنساء لديهن نفس وشم النجمة الأمريكية بيونسيه بالضبط أو وشوم بعض المشاهير الآخرين في الموضع نفسه من الجسد".
ومع ذلك، لا يُمثِّل الوشم بالتأكيد مجرد خيار عصري بالنسبة لجميع الأشخاص. يضيف أرجمند: "بالنسبة لبعض الإيرانيين، إنَّه وسيلة لإظهار أنَّ جسدهم يخصَّهم وحدهم، بغض النظر عن الدولة الدينية والصبغة المؤسسية للدين. إنَّه شكل من أشكال المقاومة الصامتة. يمكنك مراقبة الكتب وحظر الأفلام، لكن لا يمكنك إزالة وشم بسهولة".
يشير أرجمند إلى أنَّ هذا الاتجاه الجديد يبين أنَّ دينامية المجتمع الإيراني تتغيَّر، قائلاً: "بالنسبة لهؤلاء الشباب الموشومين، لم تعد المرجعيات تتمثَّل في المسجد والملالي، بل في هوليوود ومواقع التواصل الاجتماعي. ومن ثمَّ، فإنَّ نجمة عالمية مثل ريانا هي من تُحدَّد الاتجاه السائد".
رائج بين الفتيات الإيرانيات أيضاً
تحظى الوشوم بشعبيةٍ كبيرة بين الفتيات، وهناك كثير من فنانات نقش الوشوم في طهران مثل عاطفة. عاطفة هي فنانة تنتمي إلى مدرسة الفنون المرئية وتبلغ من العمر 36 عاماً. أصبحت مهتمةً بفن الوشم عندما رأت وشماً صينياً لوردة على شبكة الإنترنت.
وعن ذلك الوشم، قالت: "أعتقد أنَّه كان رائعاً. لم أرَ شيئاً مثل هذا قط. وقد نقشته على ساقي كنوعٍ من التجربة. لم يكن مثالياً، لكنني عرفت أنني أريد الاستمرار في ذلك المجال".
تدرك عاطفة خطورة العمل في نقش الوشوم وتجد صعوبة في بيع لوحاتها بسبب المشاكل الاقتصادية الحالية في إيران. فقالت: "أستطيع كسب المزيد من المال بالعمل في مجال نقش الوشوم. وأستثمر هذا المال في مشاريعي الفنية".
تستقبل عاطفة زبائنها، ومعظمهم من الشابات، في غرفة المعيشة في منزلها. وتقول: "بعضهن يردن الحصول على وشم لأنهن يعتقدن أنَّه مثير أو لأنَّ أزواجهن يعتقدون أنَّه مثير". وأضافت: "يريد بعض زبائني أنَّ أنقش وشماً بأسمائهم على سبيل المثال. وتحظى الأبيات الشعرية أو الأقوال الفلسفية بشعبيةٍ كبيرة أيضاً. لكن جميع زبائني لا يطلبون وشماً لأنَّهم يرون أنَّه مثير أو رائع فحسب، بل لديّ أيضاً زبائن يريدون نقش آيات قرآنية على أجسادهم"!
تجلس ماهسا، 24 عاماً، في مقهى في وسط المدينة وتضع حلية في أنفها وأذنيها وعدة وشوم على ذراعيها، بعضهم قد نقشته بنفسها، وأبرزهم هو وشم لصورة عين كبيرة على رقبتها. تقول ماهسا: "كان حلمي دائماً أن أحصل على وشم منذ أن كنت في التاسعة من عمري. أنا لا أحب المشغولات الذهبية. لطالما أحببت الوشوم وأعتقد أنَّها جميلة".
ليس من السهل أن يبدو مظهرك مثل ماهسا في إيران. سيعرض مهرجان برلين هذا العام فيلماً إيرانياً قصيراً عن امرأةٍ شابة تذهب لتجدِّد رخصة قيادتها لكن يُلقى القبض عليها وتُرسل إلى مركز الشرطة بسبب وشم على جسدها.
المخاطرة من أجل وشم
وقالت ماهسا: "أستقبل ردود فعل سلبية كثيرة. أُخفي وشمي بينما أتجول في المدينة لأنَّ ظهوره قد يُشكّل خطورة لي. يُمكن أن يربط أشخاص الوشم المنقوش على رقبتي برمز العين الشريرة ويرونه كشيء شيطاني. لكنَّه ليس له علاقة بهذا. أعتقد فقط أنه جميل".
وعندما سُئِلَت عن سبب استعدادها لخوض مخاطرة مثل هذه، أجابت: "لأن هذه حياتي وشخصيتي. وحياتي لا تخص أحداً سواي".
ومن جانبه، يرى فنان الوشم سهيل أفلاكي، 28 عاماً، الوشم باعتباره وسيلة تبرز في المجتمع الذي لا يُسمح فيه للمواطنين إلا بمساحة صغيرة للتعبير عن الذات. تخدم غرفة المعيشة بمنزله في إحدى ضواحي طهران بمثابة صالون الوشم الخاص به. ويقول: "أنا أعتبر نقش الوشم علاجاً طبياً لجيلي. إنَّه وسيلة لعلاج الجروح النفسية التي تعاني منها بينما تعيش في وضع ثقافي متأزم".
بدأ أفلاكي حياته المهنية رساماً تعلَّم ذاتياً. أُثير اهتمامه بالوشم عندما قدَّم له أحد الأصدقاء هديةً عبارة عن آلة نقش الوشوم في عيد ميلاده الـ19. وقال أفلاكي: "تعلَّمت نقش الوشم ذاتياً عن طريق التجربة والخطأ"، ويضيف ضاحكاً: "لقد كنت محظوظاً بأنَّ لدي أصدقاءً سمحوا لي بالتدرُّب على أجسادهم".
يُعد أفلاكي الآن واحداً من أشهر فناني الوشم في طهران، مع أكثر من 55 ألف متابع على إنستغرام. وثمة موسيقيون وممثلون إيرانيون مشهورون من بين زبائنه، الذين لا يأتون من أجل نقش ورود أو نقوش قبلية، بل من أجل تصميمات أفلاكي الفريدة المميزة، والتي غالباً ما تكون مستوحاة من شخصياتهم.
يقول أفلاكي: "فني هو الشيء المهم بالنسبة لي ولا شيء آخر. ثمة الكثير من الأشياء الأخرى الممنوعة في إيران، مثل الكتابة على الجدران وموسيقى الروك والهيب هوب. لكن على الرغم من ذلك، يُكرِّس كثيرٌ من الإيرانيين حياتهم لها. كنَّا نعلم جميعاً الوضع عندما بدأنا وتحمّلناه وتعاملنا معه. لا اشتكى حيال ذلك".
ويضيف: "يؤدي الوشم دوراً باعتباره صانعاً للهوية. إنَّه وسيلة لخلق شخصية فريدة ومميزة وأعتقد أنَّ هذا مهم بالنسبة للشباب في بلدٍ مثل إيران".