لم يمر سوى أربعة أشهر على اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول بتركيا، لكن الرجل الذي يسود اعتقاد بأنه مَن أمر بعملية الاغتيال، وهو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، قد تجاوز العاصفة بالفعل على ما يبدو.
المُعلن رسمياً أن الأمم المتحدة لا تزال تحقق في مقتل خاشقجي، إذ تزور محققة حقوقية وفريق التشريح الخاص بها تركيا هذا الأسبوع، للحديث إلى المسؤولين، وتنتظر "في تأدبٍ" لترى ما إذا كانت الحكومة السعودية ستسمح لها بالدخول إلى مسرح الجريمة.
بيد أن محمد بن سلمان تلقَّى أمس الأول مكالمة هاتفية ودية من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، لمناقشة مشكلة أكثر إلحاحاً، وهي الحرب في اليمن.
وامتدح مارتن غريفيث، المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن، البلد الذي مزقَّه الصراع، الأربعاء، القيادةَ السعودية في مقابلة مع شبكة BBC، قائلاً إنهم كانوا "متعاونين للغاية" في الحفاظ على الاتفاق الهش، لوقف إطلاق النار مع الحوثيين.
صوت المال والصفقات يعلو على أي صوت آخر
من جانبه، عاد محمد بن سلمان إلى هواجسه الأخرى الروتينية، التي تحظى بقبولٍ أكثر من غيرها. فقد حضر ولي العهد السعودي، الإثنين 28 يناير/كانون الثاني، مؤتمراً في فندق ريتز كارلتون بالرياض، للكشف عن أحدث ركائز خطة الإصلاح الاقتصادي التي تتبنَّاها "رؤية 2030″، وهو برنامج تنمية صناعية يستهدف خلق 1.6 مليون فرصة عمل، وجذب استثمارات بقيمة نصف تريليون دولار خلال الـ 11 عاماً القادمة.
تم توقيع أكثر من 30 صفقة بقيمة 54 مليار دولار خلال الغداء، بما في ذلك صفقات مع شركة Eastman Chemical الأمريكية، ومجموعة CMI البلجيكية، وعملاقة الصناعات الدفاعية الفرنسية Thales. بالرغم من أن محمد بن سلمان لم يلق خطاباً، كان هناك متسع من الوقت لالتقاط صور السيلفي مع الحضور.
بالتزامن مع انتهاء "حملة الفساد"
وبعد فترة وجيزة، وردت أخبار تشير إلى أن 10 رجال أعمال بارزين كانوا محتجزين في نفس الفندق منذ خريف 2017، أُطلق سراحهم بعد تسوية اتهامات الفساد التي وجَّهها إليهم الأمير. حصلت الحكومة السعودية على أكثر من 107 مليارات دولار من حملة الاعتقالات التي استهدفت أبناء العائلة الملكية المنافسين ومليارديرات ذوي نفوذ.
وانتهت الحملة على نحو مفاجئ مثلما بدأت، رغم ما ساد مجتمع الأعمال من تكهنات بأن جولة اعتقالات أخرى وشيكة. وفي بداية الحملة جرى احتجاز الكثير من الشخصيات الاقتصادية والسياسية البارزة بالمملكة في فندق ريتز كارلتون بالرياض، لنحو ثلاثة أشهر.
ووردت أنباء عن تعرّض بعض المعتقلين للتعذيب، وهو ما نفته السلطات. ووصف منتقدون الحملة بأنها عملية ابتزاز واستغلال للسلطة ضد حقوق الإنسان، من قِبل الأمير محمد بن سلمان، كما أزعجت الحملة بعض المستثمرين الأجانب، الذين سعى الأمير لجذبهم، من أجل تنوع اقتصاد المملكة بعيداً عن النفط.
وبالطبع، بعد مقتل خاشقجي، تغيَّرت صورة ولي العهد في الغرب، وزاد من انتقاد سجل الرياض في مجال حقوق الإنسان ودورها في حرب اليمن. ودافع الأمير محمد بن سلمان عن حملة مكافحة الفساد ووصفها بأنها "علاج بالصدمة"، بينما يحاول إصلاح الاقتصاد.
ورافقت إصلاحاته الاجتماعية، بما في ذلك تخفيف القيود على دور السينما وقيادة النساء للسيارات، حملة على المعارضة، شملت اعتقال عشرات رجال الدين وناشطات حقوقيات ومفكرين.
والآن، تتحرك قبضة الحكومة السعودية، إلى أعمق من هذا، لتوقف 126 موظفاً عن العمل هذا الأسبوع، لاتهامهم بالفساد وسوء استغلال السلطة.
انفتاح جديد، وصفحة جديدة
يمضي محمد بن سلمان قدماً في خططه لبناء مدينة ضخمة بتكلفة 500 مليار دولار، وهي مدينة "نيوم"، على أن تضمّ المدينة مطاراً ومرفأً، ومنتجعات سياحية، ومنازل فاخرة، ومجمعات صناعية. وتمضي قدماً أيضاً جهوده لجلب وسائل ترفيه على النمط الغربي، من أجل سكان المملكة من الشباب، مع افتتاح صالات سينما أخرى جديدة في جدة.
سوف يزور ولي العهد السعودي الهند في الشهر القادم، ويتوقع أن تضم جولته زيارة إلى الصين وكوريا الجنوبية، نظراً إلى أنه يحاول جذب مزيد من الشركاء من أجل خططه الاقتصادية.
وتنطلق هذا الأسبوع فعاليات البطولة السعودية الدولية لمحترفي الغولف -وهي أول بطولة سعودية لمحترفي الغولف- في ملاعب النادي الريفي والرويال غرينز بمدينة الملك عبدالله الاقتصادية. سوف يشارك في البطولة عدد من اللاعبين الكبار في اللعبة، مثل جاستن روز، فقد جذبتهم الجائزة التي تبلغ قيمتها 3.5 مليون دولار وعائدات مشاركتهم في البطولة، التي تشير تقارير إلى أنها تصل إلى مليون دولار لكل لاعب.
إذاً، هل مرت العاصفة بسلام؟
يقول عثمان سيرت، الصحفي والدبلوماسي التركي، إنه على الرغم من أن خاشقجي سيُخلَّد ذكره في التاريخ كرمزٍ للكرامة الشخصية والتضحية، بدأت الضغوطات تقل بالفعل على القيادة السعودية. فبعد 100 يوم، كانت هذه المقالات والمؤتمرات واللجان الكثيرة التي عُقِدَت لإحياء تراثه بالأساس جزءاً من جهودٍ تهدف لزيادة الضغط لإلقاء القبض على الجناة الحقيقيين المسؤولين عن الجريمة.
في الوقت نفسه، قد يكون وجه خاشقجي الذي يملأه الأسف على غلاف مجلة Time الأمريكية رمزاً لبداية نهاية قصة قتله، دون عاقبةٍ ملموسة على الجناة الحقيقيين.
ويضيف سيرت أن السعودية في طور الاستشفاء بالفعل من هذه الازمة. فبدلاً من الإطاحة بوليّ العهد، عيَّنَت الرياض إبراهيم العساف، الذي اعتُقِلَ سابقاً في فندق ريتز كارلتون، وزيراً جديداً للخارجية، مما يشير إلى التطبيع مع الأمر.
تخطط المملكة السعودية لتخطي الأمر كما لو أن شيئاً لم يحدث، كما أنه من الواضح أن الحكومات الغربية مستعدةٌ لرفع أيديها عن الأمر تماماً، والاستمرار في عقد الصفقات مع ولي العهد السعودي.
في الـ24 من يناير/كانون الثاني الجاري، بعثت الرياض بأحد أقوى وفودها على الإطلاق إلى سويسرا، للمشاركة في مؤتمر "دافوس"، المنتدى الاقتصادي العالمي، وحشدت المملكة جداول أعمال كبار المسؤولين التنفيذيين لديها، باجتماعات مع نظرائهم العالميين هناك.
وحسب "رويترز" فقد تمكّنت السعودية من اجتذاب رجال أعمال غربيين كبار، إلى جلسة نقاش بعنوان "الخطوات القادمة للمملكة العربية السعودية"، حيث يجلس باتريك بويان، الرئيس التنفيذي لشركة النفط الفرنسية العملاقة "توتال"، وجيمس جورمان، رئيس بنك مورجان ستانلي، بجانب وزيرَي المالية والاقتصاد السعوديين.لقد كان اجتماع دافوس في جبال الألب السويسرية، فرصة للسعوديين لطيّ صفحة أشهُر من الانتقادات الحادة بشأن مقتل خاشقجي، ويبدو أنهم نجحوا في ذلك، إذ كان هناك مؤشرات على أن مساعي الحد من الأضرار تؤتي ثمارها. وقال الرئيس السويسري أولي ماورر، إن بلاده تمضي قدماً، وتريد بناء علاقات قوية مع الرياض. وقال ماورر لوكالة الأنباء السويسرية: "تعاملنا منذ فترة طويلة مع قضية خاشقجي، اتفقنا على الاستمرار في الحوار المالي وتطبيع العلاقات مجدداً".
التحرك السعودي لتجاوز قضية خاشقجي لم يبدأ من دافوس، بل من قمة العشرين بالأرجنتين، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، التي شارك فيها ولي العهد السعودي بكل جرأة، متجاهلاً أي انتقادات أو ازدراءات، إذ سُمع الرئيس الفرنسي وهو يتحدَّث إلى محمد بن سلمان عن الأزمة أمام الكاميرات في قمة العشرين الأخيرة في الأرجنتين. وشوهدت تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية وهي تلتقي بولي العهد وكأن شيئاً لم يحدث. وسحب الرئيس الأمريكي قدمه من المسألة منذ البداية، مُفضِّلاً عدم خسارة الأموال السعودية.
وعلى سبيل المثال، في الوقت الذي كانت لندن تدين بشكل علني جريمة قتل خاشقجي، كانت الحكومة البريطانية تعقد صفقات أسلحة مع المملكة العربية السعودية. فبحسب تقرير لصحيفة الإندبندنت البريطانية، استمرَّ المسؤولون التجاريون البريطانيون المكلفون بمبيعات الأسلحة في عقد اجتماعات رفيعة المستوى مع نظرائهم السعوديين، طوال الأشهر التي تلت الجريمة، وكأن شيئاً لم يكن.
أخيراً، هل ستُعاقب السعودية دولياً بعد تحقيق الأمم المتحدة؟
بالعودة لمهمة فريق تحقيق الأمم المتحدة الذي يعمل حالياً في إسطنبول، يقول محللون وخبراء قانونيون، إن التحقيق الجاري لن يضع أياً من قتلته على الفور خلف القضبان، لكنَّه ربما يكون نقطة البداية لعملية قد تقود إلى فرض عقوبات وبدء محاكمة جنائية دولية.
وبحسب موقع Middle East Eye البريطاني، لم ينس هؤلاء الخبراء احتمالية ضعف التحقيق، فلا يمكن لمُقرِّري الأمم المتحدة إصدار مذكرات استدعاء، أو إجبار الدول على الامتثال لتحقيقهم، وهم يعملون بصورة مستقلة عن بقية منظومة الأمم المتحدة.
وتعتمد المحققة الأممية، كالامارد إلى حدٍّ كبير على أنقرة، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وغيرها من الأطراف التي تشارك الأدلة الموجودة لديها مع المُقرِّرة الأممية. في حين، يناشد حقوقيون الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس تشجيع تركيا بفاعلية، على طلب تحقيقٍ أممي كامل في قتل خاشقجي، تحقيق يطلقه الأمين العام بنفسه، مشيرين إلى أن الخيارات الأخرى سيكون من السهل على السعوديين رفضها.
لكن، وفي حين يحظى السعوديون رفيعو المستوى بالحماية بفضل علاقات التمويل التي تربط الدولة المُصدِّرة للنفط بكلٍّ من الولايات المتحدة وبريطانيا، تبقى احتمالية أن يكون تحقيق الأمم المتحدة مزعجاً، بل وحتى خطيراً، بالنسبة لأولئك الذين يقفون خلف عملية الاغتيال، وهو ربما ما ستكشف عنه الأيام والأسابيع القادمة.