أفاد تحقيقٌ أجرته وكالة Associated Press، أنَّ جواسيس دوليين استهدفوا الباحثين الذين كشفوا عن استخدام برمجياتٍ إسرائيلية للتجسس على المقربين من الصحفي الراحل جمال خاشقجي قبل مقتله.
ونقلت صحيفة The Independent البريطانية، عن الوكالة الأمريكية، أنه خلال مرتين في الشهرين الماضيين، تنكَّر جواسيس في صورة مستثمرين، واستدرجوا أفراداً من معمل Citizen lab البحثي لعقد اجتماعاتٍ معهم في فنادق فاخرة، من أجل استجوابهم لساعاتٍ حول عملهم، الذي كشف عن برامج المراقبة الإسرائيلية، وحول تفاصيل حياتهم الشخصية.
في كلتا الحالتين، يعتقد الباحثون أنَّ مقابلتهم سُجلت بالصوت والصورة بطريقة سرية. ووصف مدير المعمل رون ديبرت هذه المناورات بأنَّها تعبر عن مستوى جديد من الانحطاط، بحسب الوكالة الأمريكية.
وقال في بيان، يوم الجمعة 25 يناير/كانون الثاني 2019: "ندين هذه الأنشطة الشريرة والقبيحة بأشد العبارات الممكنة. فمثل هذا الهجوم الخادع على مجموعة أكاديمية مثل "Citizen lab" هو هجوم على الحرية الأكاديمية في كل مكان".
لا تزال الجهة التي يعمل لحسابها هؤلاء الجواسيس مجهولة، لكنَّ تكتيكاتهم تشبه تكتيكات المحققين الخصوصيين، الذين ينتحلون صفة شخصياتٍ زائفة لجمع معلومات استخبارية أو المساومة على المواد المنتقدة لشخصيات قوية في الحكومة أو الأعمال.
جدير بالذكر أن معمل Citizen lab البحثي، الذي يقع مقره في كلية مانك للشؤون العالمية في جامعة تورنتو، قد لعب دوراً قيادياً منذ سنوات في فضح القراصنة المدعومين من الدول، الذين يعملون في أماكن بعيدة مثل التبت وإثيوبيا وسوريا.
دور الشركة في اغتيال خاشقجي
لفت المعمل الانتباه في الآونة الأخيرة بسبب ما كشفه عن شركة برمجيات مراقبة إسرائيلية تدعى NSO Group، وهي شركة استخدمتها الحكومات لاستهداف الصحفيين في المكسيك، وشخصيات معارضة في بنما، ونشطاء حقوق الإنسان في الشرق الأوسط.
ففي أكتوبر/تشرين الأول، كشف معمل Citizen lab البحثي عن تعرض جهاز الآيفون لأحد المقربين من خاشقجي للإصابة ببرامج تجسس NSO المميزة قبل أشهر قليلة من الحادث المروع لمقتل الصحافي السعودي في مقر قنصلية بلاده في تركيا.
وزعم هذا الصديق، وهو المعارض السعودي عمر عبدالعزيز، في وقت لاحق، أنَّ القرصنة كشفت لجواسيس المملكة انتقادات خاشقجي الخاصة للعائلة المالكة السعودية، وبالتالي لعبت دوراً رئيسياً في مقتله.
وفي بيان، نفت شركة NSO وجود أي علاقة لها بالعمليات السرية التي تستهدف معمل Citizen lab البحثي "بشكل مباشر أو غير مباشر"، وقالت إنها لم تستأجر ولا طلبت من أي شخص استئجار محققين لمتابعة تلك المنظمة الكندية. وأضافت: "أي افتراض خلاف ذلك هو غير صحيح في الواقع، وليس أكثر من تكهن لا أساس له من الصحة"، بحسب الوكالة الأمريكية.
وقد نفت NSO منذ فترة طويلة استخدام برامجها لاستهداف خاشقجي، رغم أنها رفضت التعليق عندما سئلت عما إذا كانت قد باعت برامجها إلى الحكومة السعودية بشكل عام.
قصة الناشط السوري
وصلت الرسالة الأولى من رسائل الاستهداف إلى بحر عبدالرزاق، وهو لاجئ سوري يعمل باحثاً في معمل Citizen lab، في 6 ديسمبر/كانون الأول، عندما اتصل به رجل سمَّى نفسه غاري بومان عبر موقع LinkedIn. ووصف الرجل نفسه بأنه مسؤول تنفيذي من جنوب إفريقيا لشركة تعمل في مجال التكنولوجيا المالية ومقرها مدريد.
وكتب بومان في الرسالة: "لقد اطلعت على ملفك الشخصي، وأعتقد أن العمل الذي أنجزته لمساعدة اللاجئين السوريين وخلفيتك التقنية الواسعة يمكن أن تكون مناسبة لمبادرتنا الجديدة".
قال عبدالرزاق إنه يعتقد أن العرض كان غريباً بعض الشيء، لكنه وافق في النهاية على مقابلة الرجل في فندق شانغريلا في تورنتو، صباح يوم 18 ديسمبر/كانون الأول.
وأضاف أن المحادثة أصبحت "غريبة" بسرعة كبيرة.
بدلاً من الحديث عن اللاجئين، قال عبدالرزاق إن بومان استجوبه عن عمله في معمل Citizen lab البحثي وتحقيقاته بشأن برمجيات NSO. وأضاف أن بومان بدا وكأنه يقرأ من بطاقات ورقية بها عناوين رئيسية، فسأله ما إذا كان يكسب ما يكفي من المال، وطرح عليه أسئلة محددة حول إسرائيل والحرب في سوريا وعن مدى تدينه، بحسب الوكالة الأمريكية.
وقال عبدالرزاق إن بومان سأله "هل تصلي؟"، و"لماذا تكتب فقط عن NSO؟ هل تكتب عنها لأنها شركة إسرائيلية؟ هل تكره إسرائيل؟".
أوضح عبدالرزاق أنه خرج من الاجتماع وهو يشعر بالخوف. وقام بتنبيه زملائه في معمل Citizen lab، الذين قرَّروا بسرعة أن وجبة الإفطار كانت مجرد خدعة.
لم يكن لشركة FlameTech المفترضة التي ادعى بومان العمل بها أي وجود على شبكة الإنترنت سوى صفحة على موقع Linkedin، وعدد قليل من ملفات وسائل الإعلام الاجتماعية، ومعلومات في منصة كرانشبيز لمعلومات الأعمال. وكشفت خاصية البحث باستخدام الصور أن الصورة الشخصية للرجل المدرج باعتباره المدير التنفيذي للشركة، الذي كان اسمه ماوريسيو ألونسو، كانت صورةً مأخوذةً من موقع صور على الإنترنت، بحسب الوكالة الأمريكية.
وقال جون سكوت ريلتون، أحد زملاء عبدالرزاق: "كان شعوري الداخلي المباشر يقول: هذا رجل مزيف".
شركات وهمية بلا بيانات
أبلغ ريلتون وكالة Associated Press بالحادثة، التي أكدت أنَّ شركة FlameTech كانت مجرد واجهة رقمية.
بالبحث في قاعدة بيانات Orbis لسجلات الشركات، التي لديها بيانات عن حوالي 300 مليون شركة عالمية، لم يكن هناك أي دليل على وجود شركة إسبانية تدعى FlameTech أو أي شركة في أي مكان في العالم تتطابق مع وصفها.
وبالمثل، لم تعثر وكالة Associated Press على أي سجل للشركة في السجل الرسمي في مدريد، أو عن غاري بومان، في قوائم الهاتف الخاصة بالمدينة. ولم يسفر البحث عن الرئيس التنفيذي المفترض ألونسو في Orbis عن أي شيء. وعندما زار أحد مراسلي الوكالة Associated Press برج كريستال تاور الشاهق في مدريد، حيث زعمت FlameTech أنها تمتلك 250 متراً مربعاً من المساحات المكتبية، لم يتمكن من العثور على أي أثر للشركة، ولم يكن هناك أي رد على الاتصالات على رقم الهاتف الوارد على موقع الشركة عبر الإنترنت.
كانت وكالة Associated Press على وشك نشر قصة عن تلك الشركة الغريبة عندما تلقى سكوت ريلتون، في 9 يناير/كانون الثاني، رسالة مثيرة خاصة به.
هذه المرة لم يأتِ الاتصال من بومان من شركة FlameTech، ولكن من شخص عرف نفسه باسم ميشيل لامبرت، مدير في شركة CPW-Consulting للتكنولوجيا الزراعية ومقرها باريس.
في رسالته الإلكترونية التمهيدية، أشار إلى أبحاث الدكتوراه الأولية لسكوت ريلتون عن التصوير الجوي بالطائرات الورقية، وهي تقنية رسم الخرائط باستخدام الكاميرات المركبة على الطائرات الورقية، وقال إنه معجب جداً بها.
وقال: "لدينا عدد قليل من المشاريع والعملاء في المستقبل، التي يمكن أن تستفيد بشكل كبير من تطبيق التصوير الجوي بالطائرة الورقية"، بحسب الوكالة الأمريكية.
مثل فلاميتك، كانت شركة CPW-Consulting خيالاً. بالبحث في Orbis وسجل المحكمة التجارية الفرنسية لم يظهر أي أثر للشركة المفترضة في باريس أو أي شركة مقرها باريس تحمل اسمها المختصر.
وعندما زارت وكالة Associated Press المكتب المزعوم للشركة، لم يكن هناك أي دليل على الشركة؛ كان العنوان موطناً لشقة في مبنى سكني بشكل رئيسي. وقال السكان ومدير المبنى إنهم لم يسمعوا قط عن الشركة.
حيلة لبقائها "أونلاين"
الشخص الذي اخترع الشركة اتخذ خطواتٍ لضمان وجودها في أي بحثٍ بسيط على شبكة الإنترنت، لكن ذلك الوجود لم يصمد أمام بعض التدقيق. فهذه الشركة المزعومة قد نشرت إعلاناً طلباً لمساعدة متخصص في رسم الخرائط الرقمية لمكتبها في باريس، لكن سكوت ريلتون اكتشف أن اللغة المكتوب بها الإعلان كانت منقولة حرفياً من إعلان شركة غير ذات صلة تبحث عن متخصص في تخطيط الخرائط في لندن. وكانت هناك تدوينة تصف الشركة بأنَّها لاعبٌ رئيسي في إفريقيا، لكن بدراسة الملف الشخصي لناشر التدوينة، وُجِد أنه المقال الوحيد الذي كتبه على الإطلاق.
عندما اقترح لامبرت عقد اجتماعٍ شخصي في نيويورك خلال مكالمة هاتفية، في 19 يناير/كانون الثاني، شعر ريلتون بأنّ لامبرت يحاول خداعه، لكنه وافق على الاجتماع.
وقضى ريلتون الليلة السابقة للاجتماع في محاولة لإخفاء كاميرا محلية الصنع في ربطة عنقه، حسبما أخبر وكالة Associated Press لاحقاً، واستقر في النهاية على استخدام كاميرا GoPro وعدة أجهزة تسجيل مخبأة في جسده. وعلى الطاولة، وضع لامبرت قلماً كبيراً، وأوضح ريلتون أنه اكتشف عدسة كاميرا صغيرة تظهر من فتحة قمة القلم.
في بداية الوجبة، جلس رجل وراء لامبرت، وأمسك هاتفه وكأنه يلتقط صوراً ثم غادر المطعم فجأة، ولم يأكل شيئاً. وفي وقت لاحق، ظهر رجلان أو ثلاثة وبدا أنهم يراقبون ما يحدث.
وعلى بعد بضعة طاولات، كان صحفيان من وكالة Associated Press يتحدثان قليلاً بينما كانا ينتظران إشارة من ريلتون، الذي كان قد دعا الصحفيين لمراقبة الغداء من مكان قريب، ثم مقابلة لامبرت قرب نهاية الوجبة.
مثل بومان، يبدو أن لامبرت كان يعمل من خلال استخدام بطاقات ورقية بها عناوين رئيسية. في مرحلة ما، كرر لامبرت تعبيراً فرنسياً عنصرياً، وأصرَّ على أنه ليس مسيئاً. وسأل ريلتون أسئلة حول المحرقة، ومعاداة السامية، وما إذا كان قد نشأ مع أي أصدقاء يهود. وتساءل في نقطة أخرى عما إذا كان هناك جانب عنصري في مصلحة معمل Citizen lab البحثي عندما كشف عن برامج التجسس الإسرائيلية.
بعد وصول الحلوى، اقترب مراسلو Associated Press من لامبرت على مائدته وسألوه عن سبب عدم ظهور الشركة عبر الإنترنت.
قال لامبرت، وهو يضع ملفاته وقلمه في حقيبة: "أعرف ما أفعله". ثم وقف، واصطدم بكرسي وخرج، قائلاً: "إلى اللقاء" ولوح بيده، قبل أن يعود مرة أخرى لأنه نسي دفع الفاتورة.
الرجل يتهرب من الأسئلة
وبينما كان يتجول في المطعم في انتظار الفاتورة، رفض لامبرت الإجابة عن أسئلة حول الجهة التي يعمل لحسابها أو لماذا لا يوجد أي أثر لشركته.
وقال: "ليس علي أن أقدم لك أي تفسير". تراجع لامبرت في النهاية إلى غرفة خلفية وأغلق الباب.
حتى الآن لا يُعرف بالتحديد الشخصية الحقيقية لكل من لامبرت وبومان. ولم يرد أي من الرجلين على رسائل البريد الإلكتروني أو الرسائل على صفحة LinkedIn أو حتى المكالمات الهاتفية. وعلى الرغم من تركيزهم الشديد على NSO، إلا أن وكالة Associated Press لم تعثر على أي دليل على وجود أي صلة لهم بالشركة، وهو أمر غريب.
هذا النوع من أساليب التحقيق العدوانية التي استخدمها الرجلان لاستهداف العاملين بمعمل Citizen lab البحثي قد تعرض للانتقاد الشديد في أعقاب فضيحة الاعتداء الجنسي لهارفي واينستين. إذ اعتذرت شركة Black Cube، وهي شركة تحقيق إسرائيلية خاصة، بعد أن كشفت صحيفة النيويوركر وغيرها من وسائل الإعلام أن عملاء الشركة استخدموا حيلاً قذرة لمساعدة قطب هوليوود في قمع ادعاءات الاغتصاب والاعتداء الجنسي.
وقال ريلتون وعبدالرزاق إنهما لا يريدان التكهن بشأن من كان ضالعاً في الأمر، لكنَّ كلاهما قالا إنهما يعتقدان أن هؤلاء الجواسيس كانوا يحاولون توجيههما نحو إبداء تعليقات مثيرة للجدل يمكن استخدامها لتشويه سمعة معمل Citizen lab البحثي.
وأضاف عبدالرزاق: "ربما أرادوا مني أن أقول: نعم، أنا أكره إسرائيل، أو نعم، المعمل ضد NSO لأنها إسرائيلية".
وقال ريلتون إنَّ تلك العملية المتقنة متعددة الجنسيات أشعرته بالرضا عن عمله، موضحاً: "لقد استأجروا أشخاصاً ودفعوا لهم للسفر إلى مدينة للجلوس معنا وتناول وجبة باهظة ومحاولة إقناعنا بقول أشياء سيئة عن عملنا والزملاء والمعمل. هذا يعني أن عملنا مهم".