يحاول النظام السوري وداعموه الروس التهديد مؤخراً بسقوط اتفاق وقف إطلاق النار المطبق منذ أشهر، بالإشارة لأزمة سيطرة هيئة تحرير الشام المرتبطة بتنظيم القاعدة، على آخر معاقل المعارضة السورية، في إدلب وضواحيها.
وكان قرابة مليون شخص في إدلب التي يقطنها 3 ملايين نسمة قد فروا بالفعل من منازلهم التي كانت في أماكن أخرى بسوريا، وغالباً ما تكرر ذلك الهروب. إذ استقر عدد كبير هناك بعد أن استولى النظام السوري، على مناطق أخرى من مناطق المعارضة خلال السنوات الأخيرة، ونقل المعارضين والمدنيين الذين رفضوا العيش تحت حكمه إلى إدلب.
وسوف يؤدي انهيار وقف إطلاق النار في إدلب، الواقعة في شمال غرب سوريا، إلى وضع السكان في خطر هجوم عسكري آخر، مما سيدفع بموجة جديدة من اللاجئين إلى تركيا، التي تقع إلى الشمال من إدلب.
الهجوم مسألة وقت فحسب!
وقد اعتبر الكثير من المحليين لصحيفة the New York Times الأمريكية، أن هجوم الأسد على إدلب، مدعوماً بالقوة الجوية الروسية، مسألة وقت فحسب. ذلك أنَّ الأسد مصمم على استعادة السيطرة على جميع سوريا، ليحرز الانتصار بعد قرابة 8 سنوات من الحرب الأهلية. وتشعر موسكو بالقلق من إيجاد المقاتلين الأجانب القادمين من البلدان المجاورة لها في آسيا الوسطى، موطئ قدم لهم في إدلب.
المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، قالت الأسبوع الماضي إنَّ الموقف في إدلب "يتدهور بسرعة". وعندما التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في موسكو، يوم الأربعاء، شدد بوتين على أنَّ البلدين يتعين عليهما اتخاذ "خطوات إضافية" لوقف الجماعات الإرهابية في إدلب.
ولم يستبعد بوتين إنهاء وقف إطلاق النار، دون تحديد ما ينبغي فعله. إذ قال بوتين: "ينبغي ألا يأتي دعم وقف إطلاق النار على حساب الكفاح ضد الإرهابيين، الذي يجب أن يستمر".
ومن شأن هجوم روسي أسدي مشترك أن يكون كارثياً على السكان في إدلب، الذين يعتمد عشرات الآلاف منهم بالفعل على المساعدات الخارجية في كل شيء. وكان الشتاء ودرجات الحرارة الباردة والأمطار قد أغرقت مخيمات بأكملها من العائلات النازحة في البؤس، ما أدى إلى إغراق وتدمير أكثر من 3600 خيمة وتشريد بعض السكان مرة أخرى، وذلك وفقاً للأمم المتحدة.
وحتى وقت قريب، كانت إدلب خليطاً من الأراضي المستقرة نوعاً ما، تسيطر عليها جماعات مسلحة -بعضها متطرف، وبعضها أكثر اعتدالاً- وبعض الجيوب القليلة التي تديرها مجالس مدنية منتخبة.
وبموجب اتفاق أبرم في فصل الخريف بين روسيا وتركيا، التي وضعت إدلب تحت حمايتها، كان من المتوقع بحسب الروس أن "تستأصل تركيا الجماعات المسلحة المتطرفة" من إدلب في مقابل أن تقوم موسكو بإبعاد الأسد عن المحافظة. لكن بدلاً من ذلك، قامت "هيئة تحرير الشام"، بالهيمنة على إدلب بشكل تدريجي، وطردت، الشهر الجاري، بشكل حاسم، منافسيها الأكثر اعتدالاً وأكدت سيطرتها الإدارية.
وتعد هيئة تحرير الشام آخر أشكال جبهة النصرة، وهي جماعة معارضة متصلة بالقاعدة نشأت في الأيام الأولى للحرب.
الهيئة تحاول دمج نفسها بالحياة المدنية بإدلب
وعلى الرغم من "الجذور المتطرفة" لهيئة تحرير الشام، فقد قال سكان إدلب إنَّ الجماعة، حتى الآن، لم تبدُ مهتمة بإدارة المحافظة بقبضة حديدية، ولكنها بدلاً من ذلك أدمجت نفسها في الحياة المدنية، وفي بعض الحالات تعاونت مع القادة المدنيين.
وتزوج بعض من مقاتليها الأجانب بنساء محليات وفتحوا مطاعم ومخابز. أما شرطة الأخلاق التابعة للتنظيم (شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فلم تفصل الرجال عن النساء بصرامة في الحياة العامة ولم تفرض قواعد زي تأديبية، وكلا هذين الأمرين من السمات المميزة لحكم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) كان في أجزاء أخرى من سوريا.
وقال قائد الجماعة، أبو محمد الجولاني، لوكالته الإعلامية الرسمية الشهر الجاري: "لا تحاول هيئة تحرير الشام حكم المناطق المحررة بالسيف".
"لم تكن وحشية ومرعبة مثل داعش"
إلى ذلك، قال سام هيلر، المحلل الأقدم بمجموعة الأزمات الدولية، إنَّ هيئة تحرير الشام مسؤولة عن أعمال عنف وحالات اختطاف متفرقة، على الرغم من أنَّ هذه الحالات قد خفت حدتها الآن بعد أن رسخت الهيئة هيمنتها المحلية". وقال هيلر إنَّ هيئة تحرير الشام لم تكن "وحشية ومرعبة مثل داعش"، ولا يبدو أنها تركز على تدبير هجمات إرهابية في الخارج، بخلاف داعش.
وقالت هدى خيطي، وهي معلمة جاءت إلى إدلب بعد أن أجبرت على مغادرة جزء آخر من سوريا، إنها لم تشعر أنَّ عليها أن ترتدي ملابس أكثر احتشاماً من المعتاد عند مغادرتها المنزل. وقالت هدى في مقابلة أجريت معها مؤخراً: "لم تضايقني هيئة تحرير الشام قط" أو شرطة الأخلاق التابعة لهم (شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وأضافت: "هناك شيء متغير فيهم".
وتدير هدى خيطي مركزاً للنساء حيث تدرس الإنجليزية والحياكة ومهارات الحاسوب. وقالت إنَّ المسلحين لم يتدخلوا في عملها.
وقد كان التحول من الصراع المسلح المستمر إلى إدارة المسائل اليومية، ملحوظاً بما يكفي إلى درجة أنَّ أحد المقاتلين الأجانب في الجماعة، وهو شيشاني يدعى خطاب يندرباييف، ترك الجماعة العام الماضي شاعراً بخيبة الأمل. وقال يندرباييف إنَّ زملاءه من المقاتلين الأجانب قد استقروا وفتحوا مشروعات تجارية.
وقال يندرباييف في رسالة صوتية عبر تطبيق واتساب: "لم تعد هذه هي الجماعة التي عرفتها، ولم يعد هذا هو الجهاد الذي جئت من أجله".
ومع ذلك، فقد قال مصطفى كردي، وهو مدير إحدى المستشفيات، والذي عاش تحت حكم هيئة تحرير الشام لأكثر من أربع سنوات، إنَّ السكان لم يكونوا يخرجون في الليل خوفاً من تعرضهم للخطف والسرقة. وقال كردي إنّ الحياة في إدلب "تزداد صعوبة يوماً بعد يوم".
ماذا تريد روسيا؟
وبالإضافة إلى المخاوف الأخرى لروسيا بخصوص إدلب، فإنها تريد أيضاً الحفاظ على علاقات جيدة مع تركيا وكذلك إدارة الوضع في شمالي سوريا، حيث أدى انسحاب القوات الأمريكية إلى الدخول في مفاوضات معقدة بين روسيا وتركيا والقوات الكردية ودمشق.
وقال هيلر، المحلل بمجموعة الأزمات الدولية: "لدى روسيا مخاوف حقيقية وجادة في موضوع مكافحة الإرهاب تتعلق بإدلب، لكنَّ مدى هذه المخاوف ليس واضحاً تماماً". وأضاف هيلر أنه بالنظر إلى جميع الأولويات الأخرى لروسيا في سوريا "فيبدو من المحال التفكير في إدلب بمعزل عن ذلك".
وقد انتهى المطاف بالثورة السورية التي بدأ بمظاهرات سلمية عام 2011، بوقوعها، جزئياً على الأقل، تحت سيطرة جماعات "متطرفة" مثل جبهة النصرة وداعش. أما الآن، فإنَّ المنطقة الوحيدة التي لا يحكمها النظام ولا المتطرفون، في شمال شرق سوريا، حيث تقاتل القوات الكردية المدعومة أمريكيا للاستيلاء على آخر بقايا مناطق داعش.
ومع ذلك، ومع الانسحاب الوشيك للقوات الأمريكية، فقد تحولت القوات الكردية في الشمال الشرقي باتجاه النظام السوري في دمشق. وهم الآن في مفاوضات للوصول إلى اتفاقية من شأنها السماح للأسد بالتعايش هناك، بينما تهدد تركيا، التي تعتبر المقاتلين الأكراد على حدودها الجنوبية تهديداً أمنياً، بطردهم من المنطقة.
وقد دعا أردوغان الولايات المتحدة للمساعدة على إنشاء "منطقة آمنة" شمالي شرقي سوريا، وهي منطقة عازلة بطول عشرين ميلاً شرق نهر الفرات، لإبقاء القوات الكردية بعيداً عن حدود تركيا، وقال إنَّ تركيا سوف تمضي قدماً في تنفيذ هذه المنطقة حتى بدون المساعدة الأمريكية.
وقال إسماعيل حكيم بيكين، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية التركية، إنَّ التركيز التركي على المقاتلين الأكراد في الشمال الشرقي لسوريا، ربما يكون قد سمح لهيئة تحرير الشام، عن غير قصد، بالهيمنة.
وقال بيكين إنَّ مسؤولي المخابرات التركية سحبوا مقاتلي المعارضة المدعومين من تركيا في إدلب من أجل العمليات ضد القوات الكردية شمالي شرقي سوريا. وكذا، فلم تستطع بقايا المعارضة المعتدلة في إدلب، بعد استنزاف قوتهم البشرية، مقاومة "هيئة تحرير الشام" عند هجومها.
وقال بيكين: "ربما سوف تقنع روسيا تركيا بالسماح لهم بدخول إدلب". وقال إنَّ ذلك لو حدث، "فسوف يقتلون الكثير من الناس ويتسببون في تدفق عدد كبير من اللاجئين إلى تركيا".
إدلب "هشّة" بشكل غير مسبوق
ومن شأن صعود "هيئة تحرير الشام" إلى السلطة أن يزيد من تعقيد العمليات الإنسانية في إدلب، ذلك أنَّ الحكومات الغربية التي توفر معظم التمويل للمساعدة الإنسانية في إدلب قد أصبحت قلقة من توجيه التبرعات إليها خلال الشهور الأخير بسبب مخاوف من أنَّ تلك الأموال قد ينتهي بها المطاف في دعم جماعة "إرهابية". وقال هيلر إنَّ هيئة تحرير الشام قد اتخذت أيضاً خطوات لإقحام نفسها في توزيع المساعدات، مع أنها تراجعت مؤخراً في إحدى الحالات الرئيسية.
وكانت الولايات المتحدة قد صنفت هيئة تحرير الشام جماعة إرهابية، واضطرت منظمتان على الأقل من منظمات الإغاثة إلى تخفيض عملهما في إدلب العام الماضي بعد أن وضعت وكالة المساعدات الرئيسية في الولايات المتحدة قيوداً على المنح. وعُلقت الكثير من برامج الاستقرار الممولة من الغرب.
وقالت رايتشيل سايدر، المتحدثة الرسمية باسم مجلس اللاجئين النرويجي، وهي منظمة إغاثة تعمل في جميع أنحاء سوريا: "إنَّ إدلب هي الأكثر هشاشة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. سوف تتكيف وكالات الإغاثة مرة أخرى مع الوضع للاستمرار في الوصول إلى الفئات الأكثر هشاشة من خلال أكثر الوسائل مباشرة، بما في ذلك المناطق التي تخضع الآن لسيطرة الحكومة".